من منا لم يعانق جرحًا، لم يجرب فقدًا، لم يحتضن وحدة، لم يواقع خيانة أو يطعن غدرًا!
الدنيا بكل ما تحمل من ألوان وبهجة، من بحار وتربة، وكل ما يحيطها من أشجار وسماء وأنهار قد لا تعني لنا شيئًا في لحظة باكية تنتابنا، أو في يوم كئيب اقتحم خلوتنا، أو حزن قديم نفض عن نفسه الغبار بعد أن خرج من قبره باعثًا نفسه للحياة مرة أخرى ولكن بوجهٍ أكثر سوادًا، يتسرب على مهل مع كل دمعة يصنعها وجعنا فيسرق زهاء الألوان من أعيننا، ونرى كل شيء حولنا مكتحل بالسواد لغير زينة، وكأن الدنيا تنقلب في ناظرنا طابور يقدم العزاء على مضض، فيرتدي لون الكآبة صدرها بينما ظهرها يضحك بكل نسيج من لون بديع، فنراه دون أن نرى ما تركه لنا خلفه من نعمة وجمال وفتنة.
قد تكون وحيدًا لأسباب فرضتها عليك ظروفك كوداع، أو طلاق، عنوسة، أو ترمل، يُتمْ، آو حتى وحدة داخلية لأنك لم تجد من يفهمك، من يصغي لك، من يمسك بيدك، كلها تحمل نفس المسمى، وذات الشعور القاتم الساكن خارجيًا الذي لا يستكين عصفه في دواخلنا، شعور لا نُجيد ترجمته ولا حتى فهمه، فقط نتمنى أن نهرب من الباب الخلفي المؤدي إلى السرير. مع الوقت يصبح هو الملاذ الوحيد، والمسكن المنتظم الذي يحملنا بعيدًا عن واقعنا، إلى حلم أكثر اشراقًا، يحيط فيه بنا كل من يحبنا، أو يحيط بنا ضجيج النسيان والتناسي.
تختلف حالاتنا المرضية الموضعية والنفسية باختلاف محيطنا. حكاياتنا قد تتقاطع ولكن من المستحيل أن تتخذ نفس الشكل، وما كُتب في قصة وجودنا القصير على وجه هذه المستديرة حكاية فريدة نحن نوجه بوصلتها كل يوم نحو قبلة محددة، نظن أنها طريق السعادة، وبيننا من يفقد بوصلتها، ومن يلقي بها متذرعًا بالوجع، متوجعًا بالعذر يلقي نفسه في غياهب القنوط والحزن والكآبة والترح، تجده يبتسم بلون باهت، ثم يتلوا بعدها نحيبًا طويلًا، وإن سألته عن سر حزنه لأمطرك سيلًا من مأساته حتى يقحمك في حالته فتتشربها كمنديل أبيض سقط طرفه على كأس عصير، وكلما تعمقت أكثر في الإصغاء إلى همه، ستضيق عليك الدنيا أكثر وستكره نفسك ويومك وكل شخص اصطدم بك خطأ لحظتها، وستلعن في قلبك كل سعيد وكل شخص يبتسم في وجهك المضرج بالسواد، وعند نقطة انقلاب معينة، ستتذكر إن كنت منصفًا أن لا حق لديك في هذا الحزن، فليس ملكك، وكل ما تملكه إما أقل من هذا الحزن، أو محض شفقة تلبستك في لحظة إنسانية هبت عليك رياحها.
يجب أن ننظر حولنا جيدًا لنفهم لمَّ ليس علينا أن نغفل عما حولنا؛ فالأرض كمنظومة أكبر من حجمنا لا تضيء كلها بشمس واحدة، فالأمور متقلبة كحال الشمس، مرة تضيء الشرق وتارة تضيء الغرب، وكلما أضاءت في نقطة، ودع نورها نقطة أخرى كانت مبتهجة بها. كحالنا، من الصعب أن تستمر الحياة على حزن، ولا تمضي من غير فرح، ومهما ظننت أن مأساتك تستحق أن تستسلم من أجلها للموت، وأن تقف مع المعزين في جنازة روحك، ستدرك حقًا أن القناعة، والأمل والثقة بخالقك قبل نفسك والشكر على ما بين يديك وليس بين يدي غيرك هي السبيل للخروج من هذا القبر الذي حفرته بنفسك وألقيت فيه جسدك. قبل فترة طويلة كتبت خاطرة صغيرة قلت فيها “إن لم تعرف قيمة ما بين يديك اليوم، فلن تعرف قيمة ما سيأتيك غدًا.” حقًا انظر حولك لنعم ملكتها، قلب ألوانها وراقب توهجها ورقص تصاميمها بين يديك، واستمتع بها وتناسى كل شيء، فلا شيء في الدنيا يستحق ثانية نعيشها في تعاسة، لا شيء يستحق أن نبكيه كل يوم، لا شيء فعلًا يستحق.
لا تجعل ممراتك الداخلية تعج بالسواد والدنيا تتغنى لك من خلف الستار بكل لون تغازلك، تبتسم لك، تتودد إليك، وأنت مدبر عنها، أقبل عليها للخير، ومن أجل الخير، وأزرع الابتسامة في وجوه الناس قبل وجهك، لتنعكس عليك، فمن يسعد الناس، يسعده الله، لا تقلل من حزنك، فما رزقنا الله بالدموع إلا لضعفنا، ولكن لأننا ضعفاء فإن الكثير من البكاء يجعلنا أشد ضعفًا، ويجعل أرواحنا تشيخ، ويفقدنا طعم كل شيء، ويحولنا للوحة كُسِر اطارها فهرب لونها مما ظنه سجنًا، هاربًا إلى العدم.
لافض فوك،،، نص سلس وسهل الالفاظ عميق المعنى والمبنى،، ينم عن حكمة تنبع من كتاب صقلت موهبته الايام ،، وصقلها بصبره واصراره