44248

رسم بإبهامه خطًا طوليًا من أعلى حاجبه وبقية أصابعه تحتوي خده، نزولًا حتى التقى السبابة في أفقه شمس مغيبه. أطلق تنهيدة سحبها من جرة ضيقة عميقة في صدره.

قال له صديقه: ما هذا إن صديقتك الصغيرة عائشة ليست سوى فتاة ساذجة، كم أود تقبيلها “مممممه” هكذا، هكذا. نظر ناحيته وحاجباه يعتركان مع ملامحه، ثم قال بغضب: أسحب كلامك وأصمت كي لا أضربك. رد عليه صديقه: اها إنك تغار عليها، ياي شعرت بالخوف. لم يتمالك فهد نفسه، فجرى نحو صديقه وبدأ يتعارك معه، وبعد عراك قصير تم تفريقهما فيه، خرج فهد ليتحسس جراحه التي نالها من المعركة، ثم قال بنبرة غيظ وهو يسحب أنفاسًا تلو الأنفاس: أقسم بالله لو أنك تحدثت عنها بسوء مرة أخرى، سوف لن أتركك في المرة القادمة. ضحك الآخر وانصرف، وهو يردد، عائشة، عائشة، عائشة.

انتظر فهد قدومها، وهو يحاول تهدئة روعه، كانت تأتي في ذات الموعد كل يوم لتلعب معه في الحديقة التي عند بيتهم، ولأن المسافة بين بيت فهد والحديقة أكبر من أن تمنحه فرصة العودة للبيت للقدوم لها مرة أخرى، فضل أن ينتظر حتى دنى الليل من نهاية أوله، كان يشعر نحوها بشيء لم يشعر به من قبل وهو فتى الرابعة عشر، كان يود أن يخبرها ولكن خجله كان يعقد كل يومٍ عقدة في لسانه كي لا ينطق سوى إبتسامة عميقة، وعينه لا تنطق إلا تلألؤً فاضحًا.

كانت تقرأ كل ذلك، وتعي كل شيء، وهذا ما زاد تعلقه بها. هيَّ أول شيء عرفه قلبه الصغير، فهي أول من طرق بابه الخلفي، وأول من عرف كيف يجد له مكانًا في الكرسي الذي يجلس عليه لتشاركهه إياه. كان وهو جالس يسترجع موقفه المخجل حين أهداها ذلك العقد الذي كلفه كل ما في حصالته، كيف طلب من صديقه أن يسلمها إياه، ثم أختبئ خلف إحدى الأشجار كي لا يرى رد فعلها أو رفضها لما ظنه “عقدًا تافهًا” يقول ما عجز لسانه عن نطقه “أحبكِ”. ثم تذكر كيف جاءت من خلفه وقالت له: أيها الجبان الجميل. حينها حاول الهرب بجسده، فلم يستطع فهرب بما بقي من شجاعته ومكث جسده متسمرًا كالشجر التي يسند ظهره عليها مختبئًا خلفها. كان وهو يستعيد ذكرياته يضحك تارة، ويبتسم بهدوء تلك الليلة تارة أخرى، كانت أنفاسه بطيئة ناعمة كتلك الغيوم التي تعتلى خشبة السماء الأوزونية، وحركته منعدمة وقلبه وعقله كانا الأكثر حركة في تلك البقعة من السكون.

لم تأتي تلك الليلة ذات العقد، اختفى حضورها كما اختفى القمر خلف أستار الغيوم، فقرر العودة نادبًا حظه، ملهبًا غيابها شوقه، متعثرة خطاه بحزنه وفقده، حاول أن يأوي إلى فراشه في غرفته المكتظة بكل إخوته، وكان يتقلب يمينًا وشمالًا متجاهلًا حنينه أن غدًا يومٌ مدرسي.

في اليوم التالي وبعد أن عاد من المدرسة وألقي بحقيبته المدرسية، تناول الساعة وأخذ يراقبها، ينتظر بشغف أن تدق الرابعة باب وقته كي يخرج فلربما التقاها اليوم، كانت الساعة تتك ببطء، وأنفاسه تنبض بسرعة كلما بصق الوقت دقيقة. حانت الرابعة بعد أن أجهد قلبه، وتوجه إلى حيث الملتقى يسارع الخطى، خطوة شاهقة بلهفة، وأخرى حاملة لبهجة حتى وصل، لم تكن هناك، ترقبها عند المراجيح فلم تأتي، جلس على كراسي الانتظار. بدأ الغروب يشير له بالوداع بيدين من سحاب، وكأنه يخبره أن لا طائل من الانتظار، تحرك من مكانه، واتجه نحو باب الحديقة الخلفي حزينًا يلقي ببصره نحو الطريق الذي تأتي منه، دون جدوى، انتظر وحيدًا حتى حل الظلام، بدأ يلعب بالحصى بيديه، وحين فقدأ الأمل وأراد المضي في عتمة العودة التي كانت تضيء طرقاتها رؤيته لها، سمع وقع أقدامٍ قادمة نحوه؛ نظر ولكن من تفاصيل ظلها عرف أنها ليست هيَّ، فنهض وأدار ظهره وبدأ يسير بخطى متباطئة مانحًا إيها فرصة أخيرة، نادت عليه: تريد عائشة؟ هيَّ علمت أنك تنتظرها، لكن أمي منعتها من الخروج، فأرادت أن تبلغك تحيتها، تصبح على خير. كانت تلك أختها الكبرى، شعر بكثير من الحرج كون أختها من جاء بالخبر، شكرها ثم مضى غير حزين عائدًا إلى البيت.

وفي اليوم الثالث كرر تفاصيل يومه، لكن ما تغير أنها من كان ينتظره واللهفة في عينيها البرّاقتين، تقلب بصرها في حدود المكان، تود أن تراه قبل أن يتجاوز أفقها، كانت تريده أفقها، تريده بصرها، تريد أن تكون الأولى في كل شيء له وكل شيء هو فيه، ما أن وصل فهد إلى الحديقة وتجاوز سورها، حتى لوحت له من بعيد، كان طول الطريق يجري، وما أن رآها حتى بدأ يسير بهدوء رجل أعمال تنقصه حقيبة، مضى نحوها بتثاقل، قال لها: كيف حالك اليوم؟
بخير، ماذا عنك؟
تلعثم قليلًا، كان يود أن يقول لها: لست بخير فلم أركِ منذ يومين، ولكن شجاعته خارت عند يدها التي أمْسَكَتْ بها يده وسحبته ليلعبا، كان أصدقاءه يمكثون غير بعيدٍ ينظرون له بحنق، بينما هو منشغل ينظر للوردة التي تمسك بغصنه، كان يشتم عطرها الذي يركض خلف خيوط الحرير السوداء التي تشبثت برأسها والتي كانت تغازل الشمس، كان يرى كل لوحات الدنيا في خدها، ويرى كل حلوى العالم في ثغرها، وكل زمرد الكون في عينيها. ظلت أنفاسه تتقطع، فيتداركها بشهيق متعثر بالخجل حتى وصلا لقمة لعبة المنزلق الكبيرة، نظرت ناحيته وهي تضحك: أتخافها؟ هز رأسها نافيًا، بينما كان خائفًا، فهو يخاف كل شيء مرتفع، حاول أن يتراجع، نظرت نحوه وقالت له: ستنزل خلفي صح. دون أن يفكر هز مؤيدًا. وحين كادت تنزل نظرت ناحيته بجدية كبيرة، شعر بخوف، أخذ يفكر ويسأل نفسه: لقد وافقت فما الذي جعلها تغضب. خطت عائدة نحوه وقالت: ما هذا الذي في عينك!
– عيني !
بلى عينك، لا تتحرك.

أمْسَكَتْ وجهه بيمناها، ومررت سبابتها من فوق حاجبه نزولًا كشمس تغيب عن سمائه إلى أرضه، ترسم خطًا مخمليًا فوق خط الجرح الكائن في وجهه. ما هذا كيف أصابك هذا الجرح. فهد فقد حباله الصوتية، ولم يعد هنالك من صوت يتعلق به ليلفظ ما لا يدور حتى في جنبات عقله، لم يعد يفهم ذوبانه الداخلي وتجمده الخارجي، تبخر وهو واقف كقطرة ماء، تبعثر كالرمل في صحراء، تاه يبحث في معاجمه عن رد، شعر بأن كل من حوله اختفى، وكل ما حوله خلق من جديد، نظرت في عينيه؛ فحلقت ملائكة أفكاره بما بقي من عقله و لم يقل لها سوى ما استطاع قوله. كان يود أن يخبرها بدوره البطولي وكيف وقف ضد العدو الذي كان يسيء لأرضها الطاهرة ولكنه لم يستطع.

توالى سقوط أوراق الرزنامة سريعًا و فرقتهما الأيام، كلٌ في طريق لا يتقاطع فيه مع الآخر ابدًا. رفع السبابة من على وجهه، كان ميقنًا أن أثر الجرح اختفى، لكن بقت ملامح الخط الوهمي الذي رسمته عائشة على وجهه طيلة الأربعة عشر سنة الماضية تظهر له كلما وقف ينظر لخياله الوحيد الجاثم أمام المرآة.

8-12-2012

عطش لزخاتكم

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s