78

 

غبار الفراشات

قررت الهرب من شيء أجهله في غرفتي ومضيت أسير دون وجهة نحو أي شيء له معنى، قصدت الطريق العام، فأنا دائمًا ما أبحث عن الحياة في وجوه الآخرين، وأجمل الوجوه تلك التي يحملها المارة، فوجوههم كسنفونية تبدأ بلحن مبتهج، ثم يقفز بخفة أصابع عازفها إلى لحن باهت حزين، يعود بعدها لأخرى في وجه طفلةٍ مسرورة يمسك بيديها من يشعرها بالأمان والسعادة، ثم يخرج لحن ثقيل وكأنه سحب على مضض من آخر عازفٍ غطى جزءً من وجهه ستار المسرح. بعد حين تتساوى الألحان وتتحد عندما تتلاقى الوجوه الحائرة التي تسير في كل اتجاه، ويضيع لحن وجهي بينهم فأنساه.

بعد أن خرجت من الشارع العام، طاردت فراشة أنيقة رشيقة كانت تنفض جناحيها بخفة لتنثر غبار الألوان الفاتنة التي على ظهرها، تابعتها دون هدف بينما كانت هي تبحث عن ضالتها، على عكسي تعرف جيدًا ما تريد. وصلنا إلى واجهة منزل فيها بعض الشتلات والورود، ويبدو جليًا أن صاحبها كان يعتني بها جيدًا، حطت هي على وردة، ودنوت لأمسك بها بيدي، فارتفعت وبدأت تدور في كل الاتجاهات وكأنها تشتم الذي هدد طمأنينتها وسكينتها وهي التي لم ترتكب يومًا جرمًا سوى أنها خلقت جميلة، لم أبالي برد فعلها وتخطفت اتجاهاتها حتى نلت منها وأقحمتها بين يديَّ، وأغلقت عليهما بإحكام تام، كنت أشعر بدغدغة في يدي اليمنى تؤكد أنني خطفتها من كف الحرية. فرقت بين يديَّ على مهل لأراها، كانت قد توقفت عن الحركة، كنت قد قتلتها دون أن أدري، لم يكن بها أي شكل من أشكال الأذى، قلبتها، لمستها ودفعتها برفق بطرف إصبعي ولكن دون جدوى، كانت جسدًا أنيقًا ملونًا انحسرت عنه روحه.

ألقيت بها وبي بعض حزنٍ بعد أن تأكدت أنها فارقت جمالها، فلم استمتع بها طليقة، بل أردت أن استأثر بجمالها لنفسي، تذكرت تلك الفراشات المعلقة بالدبابيس بلحد أبيض، وكفن مكشوف أسود يلمع زجاجه كلما صفعه ضوء، ذات المشهد مع فرق المسرح الذي يعتليه الموت والأنانية. الإنسان يجيد سلب الحياة والحرية من كل شيء جميل حوله، وليس ذلك فحسب، بل وحتى كل جمال بداخله، الإنسان أناني التكوين من باب حب النفس الملتصق بكيانه، ولكن أحيانًا يطغى هذا التكوين فيعميه عن الصواب والخطأ، والأخلاق والضمير، فيقتل أسدًا ليعلق رأسه في غ رفة الضيوف، أو يسلخ ثعبانًا ليصنع حقيبة، أو حتى يقتل فيلًا ليصنع من عاجه مفتاح بيانو، أو عقدًا أو حتى كرة بليارد لا يلعب بها إلا هواتها.

وصلت إلى حديقة المدينة بعد طول مسير، هنا الوجوه لا تشبه شيئًا في الشارع العام، فهي هنا كلها معزوفة فردية مكررة، الكل يضحك، والبعض يبتسم، وآخرين يمسك بعضهم بأيدي بعض بحب، وقلة يركضون هنا وهناك من فرط ما بهم من طفولة ومرح، إلا أنا أجالس الكرسي وحدي، أبحث عن ملامحي في وجوه الآخرين.

وبينما كنت اتجول في الحديقة لمحتها على بقعة خضراء تحت ظل شجرة كبيرة، ما شدني إليها ليست الوحدة التي تعتريها، بل الهالة التي تحتويها، وكأن الشمس لم تجد من تجالسه سواها. قوست مساري حتى أرى وجهها، كانت ترتدي قبعة تقيها من شمس الوجع الحارقة، تجالس الوحدة، تمارس الحزن، وتقطف من كل بستان دمعة شائكة تجرح خدها الثلجي. عجبت لحزنها، فلا شيء من الجمال ينقصها، ولا شيء من المال يقصر عندها، ولا شيء من الزينة فيها مختل. أشفقت عليها كثيرًا، فكرت في أن أقترب منها ثم ادنو من حزنها ألملم شتاته، ثم احنو عليها وابدد حزنها قدر ما أستطيع؛ لكنني خشيت من أن تنهرني أو حتى تنهاني.

كنت أقترب منها شيئًا فشيئًا، وكلما اقتربت كنت أسمع لها نحيبًا صداه في جوفي، وكأنني الذي يبكي، وكلما اقتربت كنت أشعر بما تشعر به من حزن عميق دفين لا يعلمه سوى الخالق، شعرت حين وصلت عندها بضيقٍ كبير، وكأن الهواء حولها مختنق في عنق زجاجة، كنت اتحسس صدري، وأنفاسي تضيق والدنيا يتلاشى جمالها وكأنها فراشة لم يبقى على ظهرها غبار يلونها. رجعت عدة خطوات للخلف حينها عاد كل شيء لطبيعته.

مر من أمامي رجل لم ينظر لها رغم أن نحيبها واضحٌ جدًا يجعل كل ذو قلبٍ يلتفت إليها، عاودت الاقتراب فشعرت بذات الشعور، ونفس الوجع، حينها أشحت بوجهي عن كل ألم ألمَّ بي، حتى صرت أقابلها، جثوت على ركبتي بينما اكتحلت عيون المشاهد من حولي بالسواد إلّاها، فهممت بسؤالي: ما بك آنستي؟ هل أستطيع المساعدة. كنتُ وأنا أقولها أشعر بوخز شديد في قلبي حتى وضعته على كفي فوق صدري، ثم أعدت ذات السؤال فلم تجب. مددت يدي فأجهشت بالبكاء، لم أدري ما خطبي، خارت قواي، بح صوتي، ركعت على كل أطرافي وضاقت أنفاسي، وتقاطر الدمع دون توقف، بدأت ألملم صوتي لأكون جملتي مرة أخرى، وبصوت باكي ناحب أعدتها بصعوبة، توقفت هيَّ عن البكاء وكذلك فعلت دون سبب وجيه، رفعت بصرها نحوي ثم قالت: أخيرًا بدأت تهتم! عفوًا هل أعرفك؟ كنت حقًا متفاجئًا من الجملة الوحيدة التي خرجت من بين شفاهها المرتجفة. ابتَسمتْ وقالت: دائمًا ما كنت انتظرك هنا في هذه الحديقة وفي ذات البقعة ولكنك تشيح بناظرك عني، لا تبالي بي، تهمل وجودي، وتتحاشاني لغيري! أنا يا آنسة لا أعرفك كيف أفعل بك كل هذا، عمَّ تتحدثين. بالطبع؛ فلو كنتَ تعرفني لما تجاهلتني في كل مرة تتخطفك وجوه الآخرين حين تخرج من الغرفة التي تغلق نفسك فيها. لا أدري كم عامًا كان عليَّ أن انتظرك كل يومٍ هنا فقط لتنظر إليَّ بعينيك الحالمتين، أو تدردش معي بشفاهك المبتسمة، خشيت والله أن اشيخ دون أن تبالي، خشيت أن احتضر وتراني حينها ثم تمضي في حال سبيلك فالجثة كما تظن لشخص لا يهمك. أعلم أنكَ مشغول كثيرًا بعملك، باهتماماتك، بألعابك الإلكترونية المزعجة، بمواعيد مع من تظنهم أصدقائك وسرعان ما يتخلون عنك ما أن تنفد مصلحتهم التي في جيبك أو في اسمك أو مكانتك. صدقني لو لم تتجاهلني لكنت أقرب صديق، وأوفى محب، وأكثر من تستطيع الاعتماد عليه والوثوق به.  لحظة من فضلك، هل لي أن أعرف كيف تعرفين كل هذا عني! رفعت يدها تمسح دمعها ثم ابتسمت وقالت: ستتعرف عليَّ أكثر حين تتردد على هذا المكان ونفس البقعة التي نحن فيها.

نهضت من مكانها بعد أن نفضت فستانها، ثم دنت مني أكثر وقربت شفاهها من جبيني، حينها فقط بدأت أتلوى من الوجع وسقطت، رفعت رأسي فجأة، وجدتني على كرسي الحديقة القابعة تحت الشجرة الكبيرة أحاول أن أتذكر كيف وصلت إلى هنا، تذكرتها، وتذكرت أن آخر ما شعرت به قبل أن اسقط هو شفاهها الرطبة تلتصق بنعومة بجبيني ثم تغيب وأغيب أنا عن الوعي.

قفزت من علي الكرسي أتلفت يمنة ويسرة بحثًا ظلها فلم أجد له أثرًا، عدت إلى البيت وعقلي تتلاطمه أمواج أسئلة كثيرة، أتساءل بيني وبين نفسي عن حلم ما رأيت، وحقيقة ما لمست طوال ذلك اليوم.

قررت أن أقصد المكان مرة أخرى، ذهبت إلى هناك، جلست على ذات البقعة وانتظرت طويلًا دون جدوى، ومنذ ذلك اليوم أخذت أتردد على المكان اترقب عودتها، ولأنني كنت انتظرها حتى وقت الغروب، كنت اشغل نفسي بالتفكير والتفكر، والتأمل والتدبر في كل ما يحيطني وكل ما أحيط به لأقتل الانتظار الذي كان دائمًا ما تكون الغلبة له، كنت أرى الوجوه ولا أتشبه بها، وأرى الفراش فلا أحبسه بل استمتع بحريته، فالجمال يجب أن يبقى حرًا، صرت أجلب الشاي وقطع الحلوى، وأصبحت عادتي الجلوس في تلك البقعة حتى مع بعض الأصدقاء الذين بت أختارهم بعناية فائقة، وبقيت انتظرها بين أمل اللقاء ويقين الفراق.

الإعلان

عطش لزخاتكم

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s