في احتفالات اليوم الوطني للبحرين مررت بعدد من الصور الجميلة، أسميها صورًا لأنها تستحق التصوير وليست لكونها صورًا ثابتة، بل هي صور تتحدث الكثير من اللغات التي لا يفهمها إلا من فهم معنى الحياة، أو من خسر معنى تلك الصور.
كثيرة هي تلك المشاهد الجميلة التي تتخفى وراء ابتسامة طفل، أو عناق بين كفي أب وأبنته أو أم وطفلها أو حتى صديق وصديقه، وللأسف دعوني أقف هنا تحديدًا وانحرف عن موضوعنا، فمجتمعاتنا ساذجة وحمقاء، فهي تنظر لكل شخصين يمسكان بأيدي بعض إن كانا من نفس الجنس رجل ورجل أو امرأة وأخرى على أنه منظر شاذ وعلاقة مريبة، قتلوا المودة والمحبة بين الأصدقاء، وعم الخجل من البوح بالمودة لكل صديق بسبب نظرة قاصرة ومفهوم فارغ.
دعنا نعود حيث أوقفتكم، أكثر مشهد شدني لكتابة هذا المقال هي الصورة التي أرفقتها بالأعلى، حيث يجلس زوجان في العقد الرابع من عمرهما وقد تقلصت المسافة بينهما بشكل جذاب، يظهر كم هما قريبان من بعض، بعد ذلك المشهد آمنت أن المسافة بين قلب الزوج وزوجته تحدده المسافة التي تفصل جسديهما حين يجلسان في مكان ما، في البيت، على ناصية الطريق، في المجمع، أو حتى تحت ظل شجرة تجهد نفسها لتسقي الجالسين من الهدوء والمودة ما تستطيع والباقي تتركه لقلوبهم.
صدقني أبي العزيز، صدقيني أم العزيزة وهنا لا أخاطب والدي ووالدتي بل كل أب وأم، صدقوني أن كل طفل يتمنى أن تنعدم المسافة بين جسديكما، أن ترمي الأم رأسها على كتف الأب حين تشعر بالتعب أو حتى لتنقل كل ما بقلبها إلى جسده عبر تلك الدائرة المغلقة التي يخلقانها كلما تلامسا فيضيء المشهد. علمونا في الكهرباء أن الدوائر المفتوحة لا تضيء المصباح المتصل بالبطارية، كذلك أبي العزيز أمي العزيزة أنتما الدائرة التي تضيء المصباح الموجود في أعين ابنائكم، لا تجعلوا حياتهم مظلمة بقتالكم المستمر، وبدوائركم المفتوحة. أحدكما يترك الغداء ويخاصم كل الأسرة؛ فالجميع يستحق العداوة لأنهم خرجوا من ذات الرحم المغضوب عليه، والآخر يفسد الطعام لأن الزوج تشاجر معها وبات لا يستحق وجبة لذيذة اعتادت أن تصنعها له بحب وللبقية، الشر يعم البيت من أحد القطبين المتنافرين، وربما من كليهما.
في الثانوية قال مدرس الإسلاميات: الزوج الذكي والزوجة الذكية هما اللذان لا يظهران خلافاتهما أمام ابنائهما. أبي العزيز أمي العزيزة لا نطالبكم بأن لا تتشاجروا فأنا على يقين أنه لا توجد حياة مثالية، والحياة المثالية أصلًا مملة وقاتلة كما أظهرها جليًا الكاتب الراحل غازي القصيبي في رواية الجنية، والخلافات ملح الحياة إن وظفنا ما قالته خالتي: يجب أن لا تخرج المشاكل من عند أهلها. أي أن لا تخرج عن دائرة الزوج وزوجته، فتلك بداية خراب البيوت.
يطالب الآباء أن يكون ابنائهم نوابغ وعلماء ومبدعين دون أن يخلقوا لهم بيئة خالية من التعقيد والخلاف والشجار وحتى الضرب، ابنائكم بحاجة لبيئة صحية ليكونوا أصحاء، فجاهدوا أنفسكم قبل أن تجاهدوهم، أسسوا لهم أرضية ثابتا ليصبحوا ناطحات سحاب ولا تؤسس لهم أرضية خصبة للضياع والانهيار (أمّ من أسس بنيانه على جرف هار فأنهار به)، الإنسان كائن تقلب شخصيته الكثير من العناصر وتجهده الكثير من الخلافات، فكل تلك الخلافات التي تحلق طاقتها السلبية في الهواء، يمتصها الصغير، صحيح أن تعلمنا أن الأشياء الصغيرة تمتص القليل، ولكن يجب أن نتذكر أن الامتصاص يقاس هنا بكمية التشبع، لذلك التأثير على الصغير سيكون قاتلًا، وحين يكبر سيكون مفجرًا.
أبي العزيز أمي العزيزة، إن كنتما تقرآنني فراقبا الصورة التي بالأعلى جيدًا وتذكرا أن ابنائكما يريدون دائمًا تلك الصورة لا يمزقها خصام، فلا تحرموهم وتحرموا أنفسكم ذلك الجمال وتلك المودة، عزيزي الابن إن كنتَ تقرأني، فمررها لهما حتى وإن كانت المسافة بينهما أقرب مما في الصورة، فلربما تسحين يعرفون كم هي جميلة تلك الدائرة المغلقة.