كان آخر ما قاله لي هي أكبر صفعة تلقيتها في حياتي، ظننت دائمًا بأن الطريق معه مفروشةٌ بالسجاد الأحمر، مزينة نواصيه بالجوري والياسمين والقرنفل، بعد تلك الجملة شعرت بأن أحدهم جردني من ثيابي ثم قال لي: انظري أنتِ عارية. متجاهلًا أنه من تسبب في هذا العري، لا زلت احصد ومن حولي ثمار الشوك الذي زرعته بنفسي.
قبل عشر سنوات، كنت فتاة أخرى، فتاة رغم أنها ترى الدنيا إلا أنها لا زالت تراه من خلف كتف أمها التي تحملها في صدرها، كنت لا أزال حينها رغم كوني في مقتبل العمر جنينًا في رحم أمي لم تدنسه الدنيا بأي خطيئة، وكأن حجاب البراءة لا زال يغشي عيني، كن الفتيات يثرثرن بأحاديث لا أفهمها، ويضحكن حين أقف كالبلهاء أمامهن لا تعي ما يقلنه من كلام أو ما يلمّحن له عبر الإشارات، كان جل ما أعرفه من ألفاظ نابية هي كلمة عاهرة، فهكذا ينعت الفتيات بعضهن البعض وكان بعض الفتيات يضحكن حين تقال لهن وكأنها نكتة، وبعضهن يستاء ما جعلني في حيرة من أمري بادئ الأمر، أهيَّ لفظ ساخر أم شتيمة؛ حتى سألت عن معناها وحينها فضت بكارة عقلي البريء، وفي كل مرة أظن أنني احتويت العالم القبيح في عقلي وحصرته، وجدتني أقف في بدايته على امتداد البصر، جاهلة الكثير من حولي.
قبل عشر سنوات لم يكن الرجل يعنيني بشيء، كان مخلوقًا متعجرفًا في نظري، مقززًا في كثير من الأحيان، يعامل المرأة وكأنها أداة تفريغ للغضب، يضرب ويشتم ويهين متى شاء وكيفما أحب، ولا من حسيب يردعه ولا من رقيب يثنيه، كنتُ أظن أن الرجال لا يملكون قلوبًا، حتى أنني وفي أحد الأيام تلصصت على غرفة أخي وهو نائمٌ ووضعت يدي ع صدره اتحسسه أبحث فيه عن قلبه، اعترف أنني سرقت الدنانير التي كانت في جيبه من باب الانتقام على ضربه لي قبلها بأسبوع، وكم ضحكت على ذلك المخلوق وهو يثور ويهدد بأنه سيقطع يد سارق نقوده الذي لم يكتشفه بعد، بعد أن شككه والدي بأنه من الممكن أنه قد صرفه، وصدقه الأحمق. حينها أضفت إلى قائمة اكتشافاتي للرجال أنهم حمقى وأغبياء، ولكن شطبت من القائمة أن ليس ثمة قلوب في صدورهم، لكن الفرق أن قلوبهم تنبض لتبقيهم ع قيد الحياة، لا ليستخدموه في تعاملاتهم مع من حولهم.
تعلمت بحياء كبير أن ثم فرق بين جسد الرجل والمرأة، مذ حينها بدأت في وضع قائمتي الشخصية عن صفات الرجل، فيها بعض الكلمات المشفرة التي كتبتها كما جاءت في كتاب العلوم مع تغيير ترتيب الحروف أحيانًا أو بوضع كلمات من ذات اللفظ، كي لا يمسك أحدهم بتلك الورقة ثم أقع في مصيبة لا يحمد عقباها.
في بداية مرحلتي الثانوية بدأت أشعر بالكثير من المشاعر تتدفق عبر أوردتي إلى أطرافٍ بدأت تبرز. بدأت أنظر إلى نفسي في المرآة طويلًا واسألها هل كبر حجمهما، هل طال شعري، هل عيوني جميلة، هل بشرتي ناعمة، هل شفاهي جذابة؟ كانت تجيبني بقدر محاولتي الاعتناء بها.
أخي كان يضربني كلما وجد في شفاهي لون ما، لم أكن أجد مشكلة في أن امسحه، لكن ما المانع من وضعه! ولمَّ كل تلك القسوة من ناحيته. أحيانًا أعاند فيزيد غضبه، وأحيانًا أصل لمرحلة التبلد واللامبالاة تجاه ضربه المتكرر حينها يهددني بإخبار أبي. أبي ! لم يكن يبالي كثيرًا بي، فهو أغلب الوقت بالخارج، إما منهمك في عمله، أو مع أصدقاءه. والدي متقلب المزاج دائمًا، أحيانًا يعنفني، وأحيانًا لا يهتم بأي شيء، هو باختصار يحب نفسه فقط، لهذا لم أكن أعبأ بتهديداته، ولأتجنب الضرب المتكرر كنت أخبئ الأحمر في حقيبتي، وأضعه ما أن أخرج من البيت، ولم أكن أجد حرجًا في ذلك، وأحيانًا اخبئ بعض المساحيق التي أسرقها من والدتي.
لا زلت ألعن الصدفة التي جعلته يمر بقربي ثم يقول لي همسًا وهو يلقي بتلك اللفافة بقربي على الأرض “كم أنتِ جميلة”، تلك الجملة التي لم أسمعها من قبل، غردت لها كل أغصاني، وأزهرت بها كل بساتيني، وتراقص على أنغامها كل ما بداخلي وحولي. تجمد الدم بوجهي حتى توردت خدودي، تصببت عرقًا، شعرت بأنني أقف أمام فرن الخباز لشدة الحر الذي انتابني. لم يكثر من الكلام ومضى لوجهته، وأنا لم أعرف إلى أين أولي وجهي، إلى ما بقرب قدمي، أم نحوه اتمعنه أم ماذا. بدأت اتنازع نفسي من الداخل كل طرفٍ يشد باتجاه، فمرة أقول “هو مخلوق أحمق مقزز ومتعجرف وثور هائج” ثم أقول “لم هو مختلف إذًا” ويأتيني شيطاني ويقول “على أقل تقدير انظري لما ألقاه، لربما هي قصيدة كتبت فيك كتلك التي تسمعينها في الأمسيات الشعرية على التلفاز”. وبعد نزاع طويل كان المنتصر فيه شيطاني، انحنيت أدعي أنني اربط فردة حذائي اليسرى، ورفعت الورقة ودفنتها في كفي ثم مضيت.
مساء ذات اليوم دخلت الحمام، وفتحت الورقة، بحثت فيها عن الأبيات ولم أجد شيئًا، قلبتها فوجدت كلمة واحدة ورقم هاتف، كان أسمه مدونًا فيها، ناصر أو ما أدّعى أنه اسمه ثم اتضح أن أسمه سعود ولكنني ظللت أناديه ناصر. لم يكن حقًا ما حلمت به لذلك مزقت الورقة لنصفين، ثم وضعتها في جيبي لأتخلص منها لاحقًا وتوجهت إلى السرير كي أنام، خاصمني النوم فبقيت أفكر طوال الوقت، أخرجت الورقة الممزقة ودسستها تحت سريري وسهرت حتى الصباح.
مر أسبوع كامل وعقلي منصرف، يفكر في ناصر، تارة أرسم ملامح الشاعر في وجهه الذي لم أراه جيدًا، وتارة أضع وجه ثورٍ بشعر ناعم مما يجعلني أضحك في الحصص دون سبب، فأعاقب بحكم أن الضحك من غير سبب قلة أدب، كيف يكون بلا سبب، هل يدخل الناس في قلوب الآخرين ليحكموا أن لا سبب للضحك ! ثم من قال أن ما قد يضحكني قد يضحك آخر دوني، فجل أفكارنا المضحكة قد تعتبر ساذجة بحكم حجم عقولنا وعمر مشاعرنا.
في ذلك اليوم الذي عوقبت فيه في المدرسة بسببه قررت أن أكافئ نفسي بالاتصال به، كان قلبي ينتفض، ويدي ترتجف واصبعي وضعته عند زر الإغلاق، بينما أحبس الهواء في صدري، أجاب بلهجة هادئة جعلت كل شيء فيَّ يرتخي: ألو من معي؟ لم أقوى على الكلام، فهذه أول مرة أتحدث مع شخصٍ غريب، كان جسدي ينتح عرقًا من كل مساماتي، بقيت صامتة بضع ثوانٍ، ثم أغلقت الهاتف وألقيت به في السرير ووضعت كلتا يديَّ على خدي، كانت أطرافي باردة على عكس خدي، كنت قلقة جدًا، اضرب ناصيتي بكفي وأردد غبية غبية غبية، وبينما أنا كذلك، رن الهاتف نظرت ناحيته، وجدته ذات الرقم الذي اتصلت به منذ قليل، شهقت ووضعت كفي على فمي وقلت في نفسي: ما عساي أفعل! تلك الثواني التي تفصل بين انسدال قائمة خياراتنا بالنسبة لموقف ما واختيارنا لإحداها، تبدو أطول مما هي عليها، خصوصًا حين ننازع الشر والخير في جوفنا.
ألو… قلتها بعد أن سحبتُ نفسًا عميقًا قبل أن أجيب على المكالمة. يااه ذابت مسامعي لهذا الصوت الندي. حين قالها، شعرت بي أسكر في لذة ما شعرت بها من قبل، يااه كم جميل هذا الكأس الذي سقاني منه وكأنه بيت شعر، بل قصيدة بل قد احسبها حتى معلقة، تعلق على جدار قلبي. صمت وأدعيت الصرامة وقلت له: ماذا تريد، لمَّ ألقيت برقم هاتفك أمامي؟ قال: آها إذًا أنتِ تلك الفتاة. أود أن اعترف بشيء لكم، لو توقفت عند هذه الجملة من البداية لما سقطت في تلك البئر الموحشة التي دفعني هو بداخلها، كانت تلك الجملة تبدو واضحة كالشمس، وبديهية كالماء بأنني فقط إحدى تلك النساء الآتي مارس معهن ذات الخدعة ويبدو أنني لست أول من يسقط على يده ولكنني الأكثر غباءً ربما. أكمل حواره بالكثير من الكلمات الشاعرية فذابت كل قطعة من جسدي وفكري حتى آخر اصبع في قدمي.
كان الاتصال يجر الاتصال، والحديث يجر همسات شاعرية مدغدغة، كنت اتلذذ بالحديث معه، أهيم في عالمنا الوردي الصغير، كنت أعيش عالمًا سريًا معه لا يدركه سوانا. نحن جميعًا نعيش عوالم سرية في داخلنا لا يعلم عنها أحد سوانا، ونخشى أن نبوح بها حتى لأقرب إنسان لنا، حتى وإن كانت تلك العوالم فقط في داخل رؤوسنا، فتلك الحرية الوحيدة التي نحظى بها ولا حق لأحد في مصادرتها. لهذا لم يعلم عن اتصالاتنا هذه أحد أبدًا.
كان أكثر ما يزعجني الحاحه المستمر للقائي بالخارج، وكنت اتعذر دائمًا بأي شيء وكل شيء ممكن. كان يخاصمني حين أرفض، ولا يعود إلا حين اترجى عودته وألح عليه بالاتصال، كان في بادئ الأمر يقبل بالأمر ويعود ليحادثني دون أن يلمح لطلب لقائي. وفي آخر مرة عاود مطالبتي بالخروج معه وتعذرت هجرني كعادته؛ فظننت أن رجائي سيعيده، ولكنه قال: إما أن تخرجي معي أو تنسيني. رفضت الفكرة جدًا، بل وأخافتني نبرة التهديد بالابتعاد؛ فقد كان واضحًا غضبه العارم في رده، ولهذا قلت: أنت تخيفني ما بك قد تغيرت. لم يجب عليَّ وإنما اكتفى بإنهاء المكالمة والابتعاد عني كما هدد. كنت أنازع نفسي كيف أخرج أنا برفقة شاب لا أعرفه ولا يعرفني، كيف أخرج من بيتينا المحافظ، لم أكن أعرف هل هو الخوف من افتضاح أمري ما يثنيني عن الخروج أم الخوف من ناصر، لم أكن خائفة منه، بل بالعكس استلذ كل شيء معه، وتجتاحني خيالات كثيرة معه، وكم مرة تبادلت القبل معه في أحلامي.
لم احتمل فراقه؛ لذا قررت أن أقدم التنازلات لأستعيد تلك الأيام الجميلة الواهمة التي كنت أعيشها معه، فاتصلت به وقلت له حتى قبل أن ألقيَّ التحية: سأخرج معك. كنت أقولها بحزن أخرجني منه حين استقبل الموضوع ببهجة كبيرة وقال أنه كان سيعود فهو أيضًا لم يستطع فراقي، الآن وأنا أذكر كل ذلك أعود لأقول كم كنت مغفلة حين صدقت أحمقًا مثله. اتفقنا على اللقاء خلف منزلنا، كنت كاللصة اتلفت يمنة ويسرة قبل أن أركب معه السيارة لأتأكد أن لا أحد يرانا، كان من السهل اقناع أهلي بحاجتي للخروج من البيت لشراء بعض الحاجيات من البقالة كون أخي ليس موجودًا.
ابتعدنا عن البيت مسافة ليست طويلة، كنتُ خجلة في البداية، أخبئ وجهي منه ويتورد خدي كلما نظري إلي، كنت أمنعه من فتح مصباح السيارة كي، وكان يمازحني بوضع يده على مصباح السيارة الداخلي ثم امسك يده فأبعدها واعيدها لأخبئ وجهي خلف كفيَّ وأقول له بصوت يملؤه الحياء: أرجوك كفى، جلسنا ندردش بشكل عادي جدًا في المرة الأولى وهذا ما جعلني أشعر بالأمان معه، بل ليس هذا فقط ما كنت أشعر به، بل أنني من شدة سعادتي طلبت منه أن نعيد الكرة مرة أخرى. كنت حين أركب معه السيارة أفتح نافذتها اقفو أثر الحرية عبرها، كان الخروج معه يعني لي كل شيء، الهروب من مشاكل البيت، الهروب من الضرب، الهروب إلى السعادة، الهروب إلى عالمي السري الجميل مع القمر الذي يقودني نحو فضاء واسع من السعادة التي نقطف نجومها تباعًا.
لم يبدد تلك المشاعر الجميلة وذلك الهروب الأنيق سوى طلبه الأخير والذي انتفضت له كل فرائصي، حين قال لي: نريد أن نمارس الحب. رغم أنني كنتُ صغيرة ونصف بريئة إلا أنني أعرف جيدًا ما يريده، فقد كنت أسمع الفتيات في المدرسة يثرثرن عن هذا الأمر ويعرضن على هواتفهن مقاطع تثير فضولي واشمئزازي في آن واحد، لم أفكر يومًا في أن اطلب منهن أن يرسلن تلك المقاطع لي أبدًا. حين قال لي طلبه، شعرت بأن شيء يشدني إلى داخل جوفي، وبدأت عيني ترى بياضًا في كل الاتجاهات وكأنني فقدت بصري، أما قلبي فقد كان يضرب قضبان صدري من حالة الرعب التي انتابتني. كدت أبلل ثيابي من الخوف، ثقل لساني وتجمدت أقدامي، وبلعت ريقي بعد أن جف حلقي، اقترب مني بعد أن وضع كفه عند ذقني يسحبني إليه ويقترب مني فدفعته وصرخت ابتعد عني ماذا تفعل، وانخرطت في البكاء. ابتعد هو عني وقال: يا سناء ما بك صدقيني لا أريد أن أؤذيك، كنت فقط أريد تقبيلك كما يفعل المحبون. ولكنني لم أتوقف عن البكاء حتى لمحت طريق بيتنا. ما أن أوقف سيارته حتى نزلت وجريت نحو البيت اخبئ وجهي المذعور الباكي. تمالكت نفسي عند عتبة البيت مسحت دموعي ودخلت. لم يشعر أحد بغيابي تلك الليلة، لكنني متأكدة من أنني كنتُ غائبة حتى بعد عودتي، كنت لا أعرف ما دهاني وما الذي أيقظ فيني كل هذا الشعور القاتم. خبأت حزني تحت وسادتي ونمت حتى الصباح.
استيقظت من حزني وكأنني فقدت ذاكرتي، نظرت إلى هاتفي فوجدت رسائل كثيرة منها يعتذر في مجملها عمّا بدر منه، ويقسم في بعضها ألّا يكرر ما فعله، استغرقت الكثير من الوقت حتى أهدأ، وعاودت الاتصال به على أمل أن يبعد عني هذا الحزن بكلام لطيف عودني عليه، وحصلت عليه كالعادة، فهو يحترف غَزْلَ الحروف وغَزَلَ الكلام وعدنا لنخرج مرة أخرى وكأن شيئًا لم يكن، ولكنني هذه المرة أعطيته ما كان يريده بالقوة عن طواعية بعد أن شاهدت لذة القبلات في تلك المسلسلات الأجنبية التي كنت أشاهدها خلسة، تمردنا كثيرًا في قبلاتنا حتى أنها صارت شيئًا عاديًا نفعله ما أن نلتقي.
في تلك الليلة الوردية التي كنت معه والتي ارتفعت حدة ألوانها حتى تحولت إلى اللون الأحمر الداكن، كان قد وصل بي حد السقوط بين يديه ملتهبة ككرة من النار، ذائبة كقطعة ثلج، متناقضة من الداخل والخارج، فتارة يتمنع ما بقي مني من عقل، وتارة يبتغي ما بجسدي من رغبة، همس لي بكلماتٍ عقلها نصفي ونصف الآخر لم يعبأ بها، فليفعل ما يحلو له، ما عدت الآن سوى ورقة في مهب الريح، يحملها الهواء حيث أراد ويقلبها كيف شاء، وهكذا فعل هو، لم استطع منعه من قطع أزرتي ولا من صنع ثقب في جسدي كانت علمتني أمي أنه لا يلتئم أبدًا.
حين استيقظنا من سكرتنا، نهضت مذهولة وشعرت بصداع ثقيل، وبدأت أبكي وأصرخ به: ماذا فعلت ! ماذا فعلنا !! كان جسدي ينزف خوفًا ورعبًا وألمًا، تكومت على نفسي في المقعد الأمامي للسيارة أبكي بشدة، حتى شعرت بدوار شديد فبدأت أهذي، حاول تهدأتي، ولكنني كنت ادفعه كلما حاول أن يلمسني، وكنت أصرخ بوجهه أوصلني إلى البيت أرجوك، هذه المرة ليست كتلك المرة، بالكاد كنت أستطيع المشي، أضع يدي أسفل بطني، ما أكاد اخطو خطوة حتى أتألم، حين دخلت رأتني أمي فسألتني ما خطبك، بكيت وقلت لها لقد أتتني وهي تؤلمني بشدة. فأجابتني متعجبة: هل هو موعدها؟ قلت في نفسي بغضب، وهل تعرفين أي شيء عني أصلًا ! أنتِ بعيدة عني ولو لم تكوني كذلك لما بلغ بي الأمر أن أقع فيما وقعت فيه. دخلت الحمام، وجلست أبكي داخله بحرقة، أسأل نفسي ماذا لو عرف أهلي، أخي قد يقتلني وهو من يركلني على الأحمر الذي أضعه في شفاهي، كيف لو علم أن هذا الأحمر لامس شفاه رجل غريب، وحين أرتدي شيئًا ضيقًا يصفعني فكيف إذا علم أن هذا الجسد تعرى لرجل غريب، كدت أشد شعري من الجنون، وأخذت اصفع وجهي الباكي، وأقرص نفسي فلعل كل ما حدث مجرد حلم قد استيقظ منه حين أشعر بألم حقيقي، ولكن الألم لم يكن كافيًا ليحول الحقيقة إلى حلم. تكومت على نفسي في السرير أبكي وأكمم فمي حتى نمت على تلك الوضعية.
اتصل بي ناصر ووعدني بالزواج، وكان ذلك الاتصال هو حبل النجاة الذي كنت أبحث عنه في هذا البحر المظلم، كدت اصرخ من الفرح بعد أن سمعت وعده وآمنت به وأخذنا نتحدث عن الترتيبات وكأن الأمر سيحدث غدًا. شعرت أن تلك الغمامة غادرتني بلا رجعة بعد تلك المكالمة، ولكن غيابها كان مجرد وهم لا وجود له، فبعد شهرين بدأ ناصر بالتغير واتصالاته أخذت تقل ولقاءاتنا تكاد تكون نادرة، يقال دائمًا أن الرجل حين يبدأ في التغير يعني أن فتاة أخرى دخلت دواليب عقله واختبأت فيه حتى يحين وقت نزولها إلى قلبه وعالمه. لم أكن أعرف تلك الحكمة من قبل، تعلمتها بعد أن سقطت في الوحل الذي لم أجد من يخرجني منه، فقد بدأ ناصر يتغير ويتعذر كثيرًا عن الرد على اتصالاتي، حتى جاء ذلك اليوم الذي غضبت فيه منه وقلت له: لم لا ترد علي وتتجاهلني هل أحببت فتاة أخرى؟ تلعثم قليلًا فصرخت وقلت له: قل هيا اعترف لن أمنعك ولكن قل الحقيقة ولو لمرة واحدة، يكفي أنك كذبت بشأن اسمك منذ أول لقاء لنا. قال لي: نعم أحب أخرى. بدأت بالأنين ثم انفجرت صارخة باكية: ولكنك وعدتني بالزواج مني! حينها صفعني بجملته: فكرت بالأمر مليًا نحن لا نصلح لبعض، فأنتِ مجرد عاهرة باعت نفسها لأول شاب خرجت معه، أنتِ لن تصلحي لتربية أبنائي. أنهى جملته ثم أغلق الهاتف وكأنه يعلم أنني تحولت إلى بكماء تئن بلا صوت، وتبكي بلا دموع، كانت تلك أول مرة أعرف معنى كلمة عاهرة، تلك الكلمة التي كن الفتيات في مدرستي يضحكن حين تقال لهن، لم تكن أبدًا نكتة، كانت كلمة أشد مرارة من الحنظل لا يمكن لحلق أن يبتلعها دون أن يشعر بأن جسده يتمزق.
كان آخر ما قاله لي هي أكبر صفعة تلقيتها في حياتي، ظننت دائمًا بأن الطريق معه مفروشةٌ بالسجاد الأحمر، مزينة نواصيه بالجوري والياسمين والقرنفل، وتضيء سماؤه بالشمس والقمر والنجوم التي لا تضيء لي إلا معه. بعد تلك الجملة شعرت بأن أحدهم جردني من ثيابي ثم قال لي: انظري أنتِ عارية. متجاهلًا أنه من تسبب في هذا العري. لا زلت احصد ومن حولي ثمار الشوك الذي زرعته بنفسي طوال العشر سنوات الماضية، التزمت الصمت مذ حين تلك الصدمة، بل أشك كثيرًا بأنني فقدت النطق وليس كما يقول الجميع بأنني أمثل ذلك وهو ما ظننته بادئ الأمر، إلا أنني وإلى الآن أقف أمام المرآة أقلب شريط ذكريات في رأسي علّ فتاة أخرى تسمع صرخاتي فلا تسقط في نفس الحفرة يتلقفها ثور في شكل ثعبان يبث سمًا يجعلها تموت ببطئ شد_ـــ##
وجدت الشرطة هذه الورقة بالقرب من جسد ممد لفتاة كانت تجلس على كرسي متحرك وبيدها الأخرى علبة عقاقير تشير التحقيقات الأولية إلى كونها ابتلعت محتوياتها مما أدى إلى وفاتها، وتم نشرها مع التحفظ على أسم الفتاة الحقيقي بناء على طلب والدتها.