الدكتور والكاتب عبدالله المغلوث كان في حضرة كلنا نقرأ في جلسة نقاشية بعنوان الاستشفاء بالكتابة، كنت أحد الحضور وربما لانشغالي بمهمتي كمصور لم أتمكن من إبداء رأيي أو توجيه سؤال ما أو إضافة مداخلة، وتذكرت أن المداخلات لا تقتصر فقط على المسارح والجلسات النقاشية، فهنالك متسع من المساحات المسرحية في أقاصي الشرق وأدنى الغرب كهذا المسرح الذي تشاهدني فيه.
مداخلتي يا سيدي القارئ وأستاذي د. عبدالله كانت تختصر في جملة عنونت بها نفسي حين كنت في أشد أزماتي وأكثرها شقاءً، عنونتها حين كنت أكتب لنفسي وعن نفسي ومن أجلي، “أنا قبلة من فم الوجع”. صحيح أنني مذ بدأت وإلى القريب كنت أكتب لنفسي، لكن الفرق أنني كنت أنظف جروحي وأخيطها بها وأداوي نفسي، أما الآن فأنا أوزع أدويتي على الجميع.
قبلة ووجع، اجتماع لمتضادين، كالجمال والقبح، كنت أحاول أن أخبر القارئ أن ما أكتبه هنا قبلة، لكنها يا عزيزي ما خرجت إلا من فم الوجع، ترى جمال مفرداتها وتتغنى شفاهك بافتتانك بها، لكن ما خلفها خليط من ضيق أو حزن أو ألم كلها أوجاع رسمتها الحياة على خدي دمعة جافة، فلك الجمال وأعدك أن علي الوجع.
يا أستاذي كتبت منذ 10 سنوات ونشرت ولم أبالي بفضح مشاعري ولم أقلق من انتقاداتٍ أو حتى سخرية من ركاكة وهزل ما أكتب، كنت أكتب لأتنفس، وأتنفس لأحيا، فكان الورق سرير الإنعاش، والحبر المغذي، والقلم تلك الإبرة المتصلة بالحبر المعلق بقرب سريري، وكان أطبائي 28 طبيبًا مختلفًا، في كل يومٍ يجرون ألف عملية، بين فتح لجرح وجبر لكسر وقسطرة لقلب متجلط بالحزن. وهكذا أجر بين غرف العمليات وتبدل الأسرة والأقلام ويبقى أطبائي مخلصون يزورني طبيبهم التاسع والعشرون مرة كل شهر دون علم الآخرين، حتى شفيت بعد 8 سنوات من كل أوجاعي.
يا أستاذي حين أقرأ الآن حروفي السابقة فإنني ابتسم لشدة ركاكة حروفي وشدة صدق مشاعرها، لا أقارن أنا بالمريض القابع على تلك الأسرة البيضاء المدماة بالحبر. لو خجلت كصديقنا الذي قال أن كل شيء محتجز في جهاز “الديسكتوب” الخاص به؛ لما زارني كل قرّائي وخففوا علي حدة مرضي وشقائي، لو خجلت لما خرجت سارة من بطن رجل على شكل رواية بعنوان مذكرات أنثى، ولما رأيت ابن عليان مرسومًا بعلبة ألوان يضحك عليه الناس، وما جالت مقالاتي وقصائدي وأبياتي قلوبا تحتويها. لا تدع نقدًا يعطلك ولا خوفا يحجمك ولا قلقا يثنيك، وأكتب وانشر فوجعك قد يلامس الآخرين، ودواؤك قد يداوي من لا يكتب.
بعد السنوات الثمانية، وعراك داخلي طويل وصلت إلى حالة سلام داخلي، ولم يفارقني اثنان، نفسي وظلي مهما اشتدت العتمة كنت ألمح الأول في المرآة والآخر يبتسم لي ويلوح لي من الأرض. بعد السنوات الثمان بت أكتب لنفسي وللآخرين، لم تعد المستشفى مخصصة لي وحدي، وفتحت فيها الكثير من الأجنحة، وأطبائي الثمانية والعشرون يؤدون مهماتهم بإشرافٍ من الطبيب التاسع والعشرين. لهذا يا سيدي فإن الكتابة شفاءٌ ودواء لكل سقيم وأنا ومن تحدثت عنهم أمثلة حية تحكى في كل يوم.
هذه هي مداخلتي د. عبدالله.
.