نحن نتعرف على الأفكار لا الأشكال -وهذا دأب القارئ للكتب والباحث للمعرفة، والمستكشف للثقافة- ونتعرف على الواقع لا الخيال، وحين نفشل في رصد الواقع، نلجأ إلى الخيال. الأنسان ضحية كل ما يجهل وكل ما لا يعرف، وكي لا يقع دائمًا في شرك المجهول فإنه يرسم لكل شيء صورة تجعله أكثر طمأنينة، أو أكثر خوفًا بحسب ما به من نوازع داخلية ورغبات ومشاعر، دون هذه الصور أو التصورات لا نستطيع التفاعل مع المحيط، بأريحية، كوننا غالبًا كائنات صورية، نرسم كل شيء نسمعه أو نشعر به أو نقرأه.
قلت لإحداهن أنتِ بدون مساحيق تجميل تشبهين الفضائيين، غضبت كثيرًا، فضحكت وقلت لها: لماذا غضبت فما يدريك أمديحٌ ما أقول أم مذمة، ففي الحقيقة نحن كبشر وضعنا صورًا للفضائيين لا تشبهنا أبدًا وتشبه كل ما يحيط بنا، فنحن لا نستطيع أن نتخيل كيف سيكون شكل الفضائيين أو سكان الكواكب الأخرى إلا من منظورنا القاصر الذي لا نعرف غيره ولا ندرك سواه، لهذا تخيب وتفشل خيالاتنا أمام الواقع والحقيقة، لربما كان سكان الكواكب الأخرى أشد جمالًا منا من حيث التكوين والتجسيم، بل وقد نحاول أن نصنع من أجسادنا أو في أجسادنا ما يجعلنا نشبه بعضًا منهم لو رأيناهم إن كانوا موجودين، ولكن ذلك لعلة في عقل الإنسان عن فهم كل شيء بعيد عن محيط فهمه المحدود أو إدراكه بالمحسوسات والمرئيات.
وبسبب علة التقريب (قياس التمثيل) فنحن كبشر نظن أن كل ما هو موجود في الأرض هو فقط ما هو موجود في الكون -أو يجب أن يشبهه على أقل تقدير- أو كل ما استطعنا اكتشافه هو فقط ما يمكن أن يكون موجودًا، أي أن كل مرئي هو فقط ما يمكن تشبيهه أو القياس عليه، ولأقرب للقارئ الفهم، لو طلبت منك أن تصف لي لونًا جديدًا وتعطيني تسمية له، فماذا سيكون؟ السؤال شبه تعجيزي، فنحن لا نستطيع وصف مالم نره أو نشاهده أو نسمع حتى عنه، إنه أقرب لوصف عطر لمحل العطور دون أن تملك مخزونًا في ذاكرتك الخاصة بحاسة الشم لتخبره أنه عطر فرنسي به رائحة ورد كالعطر الفلاني، أو هو أقرب للعطور العربية مزيج من دهن العود خفيف، ذكر أن في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على بال بشر، ولا زال البشر يحاولون وصف ما في الجنة مما ذكر إلا أنهم لم يصفوا إلا القليل اليسير منه.
لنسرح في هذه الفكرة أكثر، دعنا ندخل في غرفة مظلمة معتمة جدًا، إن لم تستطع العين إيجاد أي انعكاس ضوئي على أي جسم، فإن العقل هنا سيتولى مهمة ارسال صور مزيفة لحاسة الإدراك عندنا عنما نبصره، سيرسم صورًا تقلل من مخاوفنا من المحيط أو سيرسم صورًا تزيد من مخاوفنا، وهذا ما يجعل البعض يخاف من الظلام والقلة تتعامل معه بأريحية. كل الصور التي سيرسمها العقل هنا لن تخرج عن دائرة مخزوننا الصوري، ولو لمحت نقطتان ضوئيتان ستفكرين بأنها عينا جان، وإن تحركت ستفكر بأنها هرة، جزء كبير من هذه الصور ليست باختيارنا بل من صميم تعامل العقل وحده هو من يختار تلك الصور.
نعود للنقطة الأساسية، في الإنترنت أو على الهاتف أو أي طريقة تواصل اجتماعية غير مرئية يعمد كلا الطرفين على رسم صورة مرئية للشخص الذي يحادثه من نبرة صوته، قد نتساءل أحيانًا من أين جاءت تلك الصورة وما أساسها، كل ما نتخيله ليس إلا حصيلة ما رأيناه، فلو كانت نبرة الشخص حادة فإننا سنتخيل شخصية شريرة شاهدناها في التلفاز، أو حتى شخص مر بنا وكانت ملامحه عابسة، ولو كانت ناعمة، سنتخيل شخصًا أنيقًا مهذبًا وسيمًا، فنحن دائمًا ما نقرب الوسامة والقبح أحيانًا بالصوت لأن أذهاننا تبحث عن الكمال والنقيض، فالمسلسلات والرسوم المتحركة دائمًا تروج للصورة النمطية للبطل الوسيم المغني ذو الحنجرة الذهبية، وهذا جزء من الخزينة التي في أذهاننا، ولهذا دائمًا ما ترتبط صورة الحسناء بالصوت الناعم في الذهن، بينما الواقع قد يكون مريرًا ونجد أننا وقعنا ضحية عقولنا المعتلة. وهذه الصورة النمطية موجودة في الكتابة، فكل كاتب يظن الناس أنه قبيح وكل قارئة قبيحة لأنها لو لم تكن قبيحة لما انطوت على نفسها واعتزلت العالم للكتب أو حتى الكتابة، ويتفرع هذا الأمر للأسلوب، فصاحب الأسلوب الجميل نرسم له صورة جميلة والعكس بالعكس.
لهذا “دائمًا ما تفشل خيالاتنا أمام الحقيقة”.
.