ليست المشكلة في القتل، فهي مهنة قديمة جدًا احترفها البشر على يد قابيل أول مجرم في التاريخ، ولكن المشكلة في تسويق القتل على أنه مادة إعلامية. قد يقتل أحدهم رجلًا بأبشع وأشنع وأفظع الطرق، ولا يذكر عنه شيء ولا يبقى له أثر. القصص التي تذكر تلك التي تم تسجيلها، اما التي طويت تحت الثرى، فنحن نائمون عنها لأن أصحابها بشر لم يبالِ بهم الإعلام، فكيف نبالي نحن بهم.
يموت مليون دون شاشاتنا فلا نبكي ولا نذر، ويموت فرد تحتها، فنعول ونجول ونقتل بمعاولنا وبمحارقنا وبأبشع الطرق؛ لننتقم لعواطفنا ونقتل منطقنا وحججنا الواهية، بل وسنجد الأسانيد والمبررات المذهبية والمنطقية والتاريخية لردود فعلنا تجاه من نعاديه، وسنجد كل الحجج التي تشنع وتبشع الفاعل، بل وسنصنع تماثيل لمجرمينا، ومحرقة لمجرمين لا ينتمون لنا أو حتى مزبلة نعرج عليها كلما أردنا؛ لنلعن ونشتم وكأن ديننا أمرنا بأن من لا يشتم الناس سيدخل إلى جهنم خالدًا فيها، وأن الحديث الذي يقول بأن المسلم ليس بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش البذيء، قيل لقوم سوانا.
أمريكا أكبر عاهرة عفيفة في العالم، هي التي كانت تعذب الأسرى حتى الموت بطرق لا يعلمها إلا الله لا ندرك منها إلا ما تسرب، وها هي تتحدث عن البشاعة في أوطاننا العربية وتعلن بكل إنسانية عن دعمها لنا لنصنع العدالة بالظلم والسلاح. لدينا من التعذيب والتنكيل والقتل ما قد يكون أشد وأمر مما فعله أعتى مجرمي العالم ولكن آلة التصوير لا تطرق كل الأبواب لنعرف وندرك شيئًا، لهذا لا نستطيع أن نتعاطف معها أو نغرد بدموعنا لها.
للأسف الموتى الذين ليسوا من أصلابنا أو عشائرنا أو مذاهبنا ليسوا سوى جثث لا تزن رطلًا ولا تعدل إبلًا. ونحن شعوب انتقامية، والانتقام لا عدالة فيه البتة، وأحيانًا يكون انتقامنا لا إنسانية فيه، بل وقد يكون أبشع من الفعل، مع أننا ندرك أن القصاص من غير نوع الجرم جريمة بحق المجرم؛ فيكون حالنا كمن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعضه. أي نجرم القاتل ثم نفعل ما نظنه جرمًا ولا عدل فيه.
ونذكر في هذا المقام قصة الهرمزان حين شهد أنس ابن مالك له بأن عمر قد أمنه بأن لا يقتله حتى يشرب الماء، فغضب عمر وقال: ويحك يا أنس إنه قاتل أخيك البراء وأصحابه أنا أؤمن قاتل البراء ابن مالك ومجزأة. فرد أنس: شهادة الحق يا أمير المؤمنين، إنك قلت لا بأس عليك حتى تخبرني ولا بأس عليك حتى تشرب. ومن هنا نرى العدل والحق يتجليان في أعظم صوره، فهو يشهد بالحق لقاتل أخيه، بينما لا يلبث المرء أن يفتتن فيقف مع الظلم والظالم في مواجهة الحق والمظلوم عندنا.
من المهم أن نعي ما نصنعه بأيدينا؛ فإن أكبر فقاعة صنعها العرب هي فقاعة تشويه الدين بأفعال المتطرفين، وكأن الغربي يبالي بكَ وبدينك أو حتى على أقل تقدير بدينه. المسيحية المتطرفة في أفريقيا تقتل سنويًا بأرقام كبيرة المسلمين كتصفية عرقية باسم الصليب، وفوق هذا يقومون بتوثيق تلك الجرائم من حرق ونحر، ولن تجد الصدى الذي تجده أفعال من ينتسب بشكل أو بآخر للإسلام لا عندنا ولا عند القوم المُعَظمين المتقدمين المتحضرين حسب تقديرنا والذين يتحدث عنهم التاريخ بأسوء مما فعله تاريخنا بأحد. لذا صدقني نحن مادة دسمة لجلب الإستعمار والدمار لأنفسنا بسبب أو دون سبب.
ثم إن من السهل على أهل الغرب أن يستخرجوا آيات القتال من المصحف دون أن يرجعوا لأفعال المتطرفين فيه، وهذا ما فعله أحد المغردين معي حين قلت أن دين الإسلام ليس بدين إرهاب ولا حتى بدين سلام، هو دين عبادة وتوحيد، ودين خلق. فقد جاء محمد متمما لمكارم الأخلاق بهذا الدين والسنة التي عرف بها العرب قديما، ولكننا تخلينا عن هذه المكارم رغم أننا أمسينا مسلمين دون أن يقاتلنا أو يعذبنا في ديننا أحد. لذا دعونا لا ننفخ في هذه الفقاعة لأنها ستنفجر في وجوهنا في أول نقاشاتنا أو مناظراتنا مع الآخر، وعليه يجب أن نفهم ديننا، قبل أن ندندن أو ندين، أو نشجب أو نتفق، ولا نطبل لتصرف أو نثور ضد آخر دون علم دون عقل دون منطق ودون دين.
أرى أننا موجة عارمة قمرها شاشات جوالنا، فإن غاب، غابت موجتنا ونامت وانشغلنا بتوافهنا الشخصية، ونحن قومٌ نتباكى على “ناسنا” أما “ناسهم” فليموتوا كالقطيع الذي دهسته سيارة مسرعة. والمضحك فينا أننا نبحث عن الإنسانية في تعامل الآخرين معنا، أما مع من هم دوننا وتحت وصايتنا ننكل بهم سواء بالقول أو بالقتل. لهذا إن كنا حقًا كذلك فنحن لسنا أفضل من القاتل، فنحن كلنا قتلة.