شاهدت قبل قليل فيديو انتشر لداعية يقول بعدم دوران الأرض بحسب النصوص الشرعية الثابتة وأقوال العلماء الثقات دون الإشارة لأي منهم هنا لأنه ليس من حاجة لذكرهم. يستند بذلك على عدة أمور علمية من منظوره الشخصي بعيدًا عن الدين، وهي أن الطائرة لو وقفت في السماء من مطار الشارقة يجب أن تصل للصين دون أن تتحرك، أو إن سارت بعكس اتجاه الأرض فإنها لن تصل للصين لو كانت الأرض تدور. ويستشهد قبله بحديث أن البيت المعمور بمحاذاة الكعبة ولو سقط لسقط على الكعبة، بينما لو كانت الأرض تدور فلن يسقط على الكعبة، وأستشهد قبلها بقول إبراهيم إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، وقول الله تعالى الشمس تجري لمستقر لها. وقوله تعالى كل في فلك يسبحون، وقوله تعالى أن تميد بكم.
لا أعجب من أن البعض يحاول العودة للقرون الوسطى والظلامية وإعدام العلماء والقائلين بما يخالف الظن بمفهوم علماء الدين والفقه، سواء في العالم الإسلامي أم المسيحي، وذلك بحجة أن العلم يفسد الدين وصراط الضالين في العالمين نحو ترك الدين والإلحاد، بل ولا أعجب ممن لا زال يؤمن بنظرية الأرض المسطحة والأرض محور الكون والاكتشافات والاستكشافات الفضائية ليست سوى مسرحية وأفلام هوليوودية. ولا أعجب حتى ممن قد يقول بأنني لم أكتب هذه المقال إنما كان موجودًا على الورق وأنا خربشت بقلم الرصاص فوقه فظهر. ولكن أعجب ممن يقول: اسألوا كل ذي علم في مجاله، ثم يبدأ كل فرد في المروق إلى علوم لا فجلة له فيها ولا بصلة أو حتى شتلة بقدونس. ويظن أن العلوم كلها هي علوم الفقه والدين بل وجعلها من أفضل علوم الدنيا حتى بتنا فقط نحصر أنفسنا وأبنائنا وعلمنا في الشريعة والفقه فأصبح العالم كله أصحاب فتاوى ومشايخ وقل فينا المستكشفين والمخترعين بسبب هذه الأفضلية المزعومة التي خصها البعض لأنفسهم، لن تجد عالمًا يكتشف.
يقول الله تعالى: إنما يخشى الله من عباده العلماء. ويقول في آية أخرى: يرفع الله الذين آمن منكم والذين أوتوا العلم درجات. وهذا تفضيل من رب العالمين الذين آمنوا والذين أوتوا العلم، والذي يطاوع مرة أخرى فقط على أنه علوم الدين والشريعة، وكأن الكون وعظمته التي تظهر عظمة خالقه ليس لها من النصيب من شيء عند هؤلاء. وردًا على قول الشيخ بأن لماذا لم نكتشفه نحن، ببساطة لأننا لا نملك التطور الذي يملكونه، ولأننا أتينا من بيئة صحراوية، ولأننا تقاعسنا عن العلوم بفضل التفضيل الحاصل لعلوم الدين عن علوم الدنيا، والتي أؤمن وموقن أنها لا توصل إلإ إلى الله وللدين الحق ولعظمة هذا الخالق، عدى عن أنه وبسبب هذا التشدد النصي يشعر العالم أو البحاث بأنه ملاحق دينيًا ولا يجد مساحة البحث الحرة دون أن يجابه بالتكفير والزندقة، فيلجأ إليها للوصول إلى حقائق يشتهيها من باب حب المعرفة والإستكشاف.
فلنتحدث عن الحجج العلمية التي أتى بها الشيخ ونفكر بها بنفس البساطة التي تحدث بها، ماذا لو أن طائرة وقفت في السماء فهل ستصل الصين للطائرة أم على الطائرة الذهاب للصين. أولًا لا يمكن لطائرة ركاب أن تقف في كبد السماء وإلا لسقطت، لهذا هي بحاجة لحركة أفقية لكي تستقر في السماء ولن أسهب في شرح الفكرة، الأمر الآخر، تخيل أيها الحيران أنك داخل باص متحرك كبير جدًا وقفزت داخل الباص وكان الباص يسير إلى الأمام وأنت في المقدمة، فهل ستصل للكرسي الخلفي للباص؟ ولو كنت في المؤخرة وقفزت والباص يسير إلى الخلف فهل ستصل إلى المقدمة؟ ببساطة وكعاقل ستقول “مستحيل” إذا أنت على الأرض في باص كبير جدًا متحرك، لهذا لو وقفت الطائرة فإنها ستكون كذلك الذي قفز في الباص فلم يصل لا لمقدمة الباص ولا لمؤخرته، أعني لآخر كرسي كي لا يساء فهمي.
أما قصة البيت المعمور ولو سقط، فهذا في علم الغيب كما يقال فلا أنا ولا أنت يحدد طريقة السقوط وماهيته فكف عن الاستدلال بما لا يمكن الاستدلال به لقلة إلمامي والمامك به، وإن أردنا الرد على هذه الحجة فالرد بسيط جدًا فما هي إلا كناية فقط على كون البيت المعمور في مستوى الكعبة ولم يكن في بغية الرسول أن يقول بأن الله سيسقطه ولم يتحدث عن طريقة سقوطه وإنما إشارة ودلالة على موقع البيت المعمور من الكعبة.
كذلك قول إبراهيم إن الله يأتي بالشمس من المشرق، هي ليست دلالة على عدم الدوران، وإنما توضيح لظاهرة الشروق والغروب، وحتى العلماء الغرب لا يقولون بخلاف الظاهرة وهي الشروق والغروب لأن من الممل أن أقول أن الأرض دارت فوصلت الشمس بمحاذاة الأفق الشرقي واستمرت فنزلت الشمس بمحاذاة الأفق الغربي، ولهذا أستخدم مصطلحي الشروق والغروب أي ظهور الشمس من جهة الشرق بسبب دوران الأرض ونزولها نحو الغرب بسبب دوران الأرض، اشعر بالملل لمجرد كتابة هذه التفاصيل. لذا إبراهيم كان يقول بالظاهرة ولم يقل بالتوضيح العلمي وإلا لأنزعج النمرود وترك الجدال.
أما مسألة الشمس تجري لمستقر لها، فالعلماء اختلفوا فيها، ولكن يكفيك أن تعلم أن الآية التي ذكرتها بعدها تدل على ما أود الإشارة إليه حيث أن الأرض تدور حول محورها وحول الشمس والكواكب كل كوكب يدور في فلكه “كل في فلك يسبحون” بحيث لا يخرج أي كوكب عن مداره في دلالة على دقة هذا الدوران وعدم تداخل الأفلاك وإلى لأدركنا الهلاك. والشمس تدور حول المجرة في أحد أذرع المجرة، والمجرة تسبح في الكون وكل هذه الدقة في الدوران المنفرد والمجزء إن دل فإنما يدل على دقة الكون المتناهية ودقة صانعه وخالقه ومدبره.
النقطة الأخيرة، سأستدل لك بالقرآن لأثبت لك دوران الأرض، الله عز وجل يقول: وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء. وفي هذه دلالة قوية وكناية بديعة لارتباط دوران الأرض بحركة السحاب. بعض المفسرين قالوا بأن الجبال تتحرك مع الزمن من عوامل وحركات لا تتجاوز السنتميترين في السنة، وهو ما ينافي التشبيه. الله حين ربط الحركة بحركة السحاب دليل على أنها حركة سريعة فالكل يعي أن السحب قد تتشكل في بلد ثم تمطر في بلد آخر وهو من حكمة الله وتدبيره، لذا فمن يقول بأنها الحركة البسيطة فإنه يقع في مخالفة الآية بشكل صريح، والله عز وجل لم يحدد نوع سحاب محدد، بل عمه وشمله، ولذا فإن هذه دلالة على حركة الأرض وحركتها إنما هي دورانية، وبالنسبة لاستدلاله بأن تميد بكم، فمعنى الميد هو الميلان، والرواسي التي ألقاها الله ليست الجبال وذلك لأنها تقابل آية في سورة فصلت التي توضح أن الجبال ليست الرواسي لقوله تعالى: والجبال أرساها. ولم يقل والجبال رواسي. ومن المعروف أن الأرض تميل بمقدار 23 درجة إلى اليمين مما يخلق الفصول الأربعة، ولو حصل الميد لبتنا نعيش فصلًا واحدًا طوال السنة، وهذا القصد بالميد أي اختلال الحال التي هيأها الله للعباد في الأرض.
نصوص فتاوى العلماء ليست كتابا مقدسًا نزل من السماء لنأخذه كما هو دون تمحيص ومراجعة، فأحد المشايخ الذين استدل بهم الشيخ قال بأن الأرض مسطحة ثم تراجع عن فتواه فيما بعد، وهذا دأب من يتعجل في شرح القرآن بعلمه الضيق في الفلك وعلوم الفيزياء. لأننا وكما نرى أنه ومع الوقت يرى في كل عصر الناس من المعاني مالم يره السابقون في القرآن، وهذا ما يبقي القرآن الكريم مهيمنا على المعرفة الإنسانية ويسمو فوق كل ما تعلم الإنسان. فليس من العيب التراجع عن رأي أو فتوى، فحتى العلماء تراجعوا عن بعض ما ظنوه حقيقة بما يظنونه الآن حقيقة.
مؤمن أن العلم يجب أن يوصل للدين والدين بطبيعته يوصل للعلم. هنالك قصة مشهور أن شيطانا تلبس في شكل إنسان وسأل شخصًا عابدًا زاهدًا، هل يستطيع ربك أن يجعل الأرض داخل البيضة، والبيضة هي كما هي والأرض هي كما هي أي لا يتغير حجمهما، فقال العابد: لا لا يستطيع. فذهب الشيطان لعالم وسأله وهو يلقي درسا ذات السؤال؛ فأجاب العالم: ويجعلها تخشخش، أي وسيكون هنالك فراغ في البيضة! ويمكنك البحث في قصة السير جيمس جينز في كيفية تيقنه أن الذين يخافون الله حقًا ليسوا الجهلاء بل العلماء، وكلما تعلمت أكثر كلما اقتربت من الله أكثر، تأكيدًا لقوله تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء. لذا إن وجدت نظرية أو قاعدة تخالف القرآن بشكل صريح، فإننا يجب أن نرجع لتفسيرنا للقرآن في تلك المسألة ثم إن وجدنا أنها تنافي ذلك التفسير إما علينا مراجعة التفسير وإما مراجعة النظرية، قبل القول ببطلانها أو تنافيها مع الدين.
لذا وقبل أن تقف بطائرة إيرباص في السماء لتصل الصين إليك، وقبل أن تسير دون أن تصل، وقبل أن توقف الأرض عن الدوران، اقرأ وأبحث وتعلم وتدبر، فالأرض إن توقفت عن الدوران، فلن تبقي ولن تذر وكل ما يجعلها متماسكة هي القوانين التي جعل الله بها دوران كل شيء وحركته فيها. ريتشرد فيمن يقول “بعض الناس يقولون كيف يمكن لك أن تحيا دون أن تعرف؟ لا أعرف معنى ما يقولون، أنا أحيا دائمًا دون أن أعرف، ذلك أسهل، ولكن كيف لك أن تعرف؟ هو ما أريد أن أعرفه.”