أخذ يتقلب في فراشه دون أن يراوحه الأرق وهو يفكر ويخطط كيف سيكون الغد، كيف يبدأه وكيف ينتهيه. وحين أقترب الخصيمان عند الأفق؛ غفى دون أن يشعر بذلك. رن جرس المنبه طويلًا، بدأ جسده يتحرك بهدوء وهو يحاول فك العناق الجماعي لرموشه التي لا تلتقي طويلا إلا حين ينام، ولكنه وجد صعوبة بالغة في ذلك بعد ما نال نصيبه من السهر ونال التفكير نصيبه منه. فتح عيناه وأخذ يحدق بالثريا المعلقة في غرفة نومه، وحين عاد له السمع من دار المنام ادرك أن المنبه يرن، فمد يده بسرعة ليسكته، نظر نحوها بقلق ما لبث أن زال حين رآها في سكون. همس في سره “حمد لله لم أوقظها” . أخذ يحدق فيها وهي مغمضة العينين، مستلقية على ظهرها بقربه، اقترب منها، شم عطرها الذي يعشقه، ثم قبلها على جبينها.تغزلت بعينه قطرة وبثغره ابتسامة، راوده خليط من سرور وشيء يحاول تجاهله أو تناسيه.
أبعد الغطاء عن جسده الهزيل نصف العاري بهدوء تام، نهض بخفة ريشة، وسار على أطراف أصابعه كلص حتى وصل إلى الحمام، وقف أمام المرآة وأخذ يحدق بوجهه الذي امتلئ شعرًا، أخذ يتحسسه بيديه ويرفعه بهما بقوة إلى الأعلى. فتح صندوقًا معلقًا على الحائط وأخرج منه موس حلاقة وتناول معجون الحلاقة القابع فوق المغسلة، وأخذ يملأ وجهه به، تناول الموس وبدأ يحلق ذقنه، فنالت منه شفرات الموس عدة مرات حتى بات ينزف كثيرًا. اختلط المعجون الأبيض بالدم، لم يبالي بذلك وأصر على أن ينتهي منه كي يظهر أمامها بشكل يليق بالمناسبة التي جمعتهما، اما الجروح الظاهرة فيسهل معالجتها، وليس كتلك الغائرة في الصدر لا تلبث أن تراوحنا حتى تعود.
وبعد ان أنهى الحلاقة وغسل وجهه، عاد إلى الغرفة وأخذ يبحث عن تلك البدلة التي تحبها وتشبه إلى حد ما تلك التي أرتداها في حفل زفافهما، تناولها وأخذ يرتديها بهدوء تام أمام المرآة، وحين أمسك بربطة العنق، أخذ يحدق بها وخواطر كثيرة تمر بعقله، رائحة النعناع الخارج من فمها، التنهيدة التي تطلقها كلما أخطأت لفها، نظرات عيونها التي تخطف عينيه، ابتسم وأخذ يربطها كما تشتهي هي، العقدة المزدوجة، كانت تقول له “هكذا تضمن أنهما لن يفترقا بسهولة كما نحن”، نظر في المرآة وابتسم وهو يقول “لا زالت نائمة كالأطفال”.
قبلها ومضى إلى مكتبه في شركة انتركول الكبرى للإتصالات حيث يعمل في قسم خدمات الزبائن، وضع حقيبته فضربه صديقه في كتفه قبل أن يجلس “كعادتك يا أنس تأتي متأخرًا للمرة السابعة، سمعتهم يقولون بأنهم سيخصمون من راتبك هذا الشهر”، جلس أنس ثم التفت إلى زميله وقال له: لم أتأخر كثيرًا وتعرف اليوم ذكرى زواجي وسهرت أخطط كيف سيكون. “أراك قد حلقت وجهك، الحمد لله فقد بدوت كالمساجين، ثم كيف حال زوجتك، هل جلسات العلاج تجدي نفعًا؟” آه تحسنت كثيرًا. دعنا من هذا سأخرج مبكرًا اليوم فغطي مكاني حتى يتسنى لي شراء شيء لزوجتي في طريق العودة دون ان تشعر بأنني اعد لشيء وقد كانت تلومني كل سنة أنني أنسى، لكن هذه المرة تفوقت على نفسي ولم انسى. “لا عليك قلعتك محمية يا سيدي.” لا أدري كيف اشكرك، لكن سافعل يومًا بشكل يليق.
خرج أنس من مكتبه باكرًا قاصدًا السوق، حيث اتجه مباشرة إلى أحد محلات الثياب التي كانت تتردد عليها زوجته. ذهب إلى قسم النساء، وما أن وقف عند مجموعة من الفساتين حتى جاءه أحد الموظفين وسأله ما إذا كان يحتاج لأية مساعدة. ابتسم وأخذ يصف له ما بباله. هز الموظف رأسه واعتذر قائلًا بأنهم لا يملكون هذا الفستان أو شيء يشبهه. كان يخرج من كل محل بعزيمة أقل من ذي قبل، حتى وصل لمحل صغير وهو يقول لنفسه “لم أجده في كل المحلات الكبيرة، فهل ساجده هنا”، دخل فرأى الفستان وقد ارتدته دمية العرض، هرع نحوه وقلبه بين يديه وقال في قلبه وكأنه هو! إن لم يكن هو نفسه، بقي فقط المقاس، نعم نعم هو ذا مقاسها أثنى عشر، أتمنى ألا تخونني ذاكرتي الآن. طلب من أحد العاملين أن يأتي له بهذا الفستان، كان آخر قطعة كما أخبره العامل، لذا عليه أن يجرد الدمية منه، وبعد أن ترك الدمية عارية دون تفاصيل أنثوية تذكر، دلف إلى أمين الصندوق، أخرج محفظته ثم أخذ يعد النقود التي سماها أمين الصندوق بعد التخفيض.
بعد خروجه من المحل وأثناء سيره أمام أحد محلات الذهب، عانق نظره عقد من الذهب، تتوسطه ألماسة صغيرة، التصق وجهه بزجاج واجهة المحل وهو يحاول أن يقرأ السعر، 400 دولار قالها بصوت عالٍ. أخرج محفظته وأخذ يعد النقود التي بحوزته، كان بحوزته 380 دولارًا. دخل إلى المحل وقال: هل تعطيني هذا العقد ب 380 دولارًا؟ سار صاحب المحل البدين ذو الشارب الكثيف نحو الواجهة، مد يده التي تكتظ بالخواتم أخرج العقد ونظر من فوق النظارة، أخرج آلة حاسبة قديمة بالكاد تظهر أرقامها، ووضع العقد في ميزان تحت زجاج العرض الداخلي، ثم أخذ يضغط على أزرار الآلة. السعر النهائي هو 390. ولكن يا سيدي هذا كل ما أملك. هز صاحب المحل رأسه مشيرًا إلى عدم قبوله خفيض السعر أكثر من ذلك. طأطأ رأسه من ثقل خيبة الأمل عليه، واتجه نحو الباب. ابتعد صاحب المحل وهمس في أذن أحد العاملين معه، ثم توارى خلف ممر في المحل. لحظة من فضلك: نادى العامل عليه، ثم تابع: تعال وخذ العقد بما معك من نقود. عاد أنس أدراجه بخطوات كبيرة مسرعة تكاد تعد قفزًا كما قلبه الذي كان يتقافز كطفل حظي بحلواه أو لعبة جديدة. وما أن وقف أمام العامل حتى قال له: هل حقًا تقول! ابتسم العامل ونظر نحو الممر: رغم أن شكله يوحي بأنه غليظ القلب، وأحيانًا يبدو كذلك، إلا أنه شخص طيب، وكلنا نحكم بالمظاهر وإن ادعينا غير ذلك للأسف، لا عليك، ما لون العلبة الذي تريده داخلها. قال بلهفة واضحة: أحمر أريده أحمر فهي تحب هذا اللون كثيرًا. ابتسم العامل وقال له: تفضل يا سيدي ونتمنى أن نخدمك دائمًا. ابتسم أنس وغادر حاملًا معه كيسان، أحدهما فيه القلادة، والآخر يحمل الكثير من السعادة.
ولج من باب منزله بهدوء متحاشيًا أن يدركه صريره، فكل همه ألا تفسد المفاجأة التي أعدها لها. أضاء المصابيح الخافتة في الصالة فقد دنا الليل وغفى النهار. سار على أطرافه مرة أخرى نحو غرفة نومهما، وأطل من باب الغرفة الموارب نحو زوجته فوجدها لا زالت مستلقية في السرير لم تحرك ساكنا كما يبدو، هادئة وادعة، ابتسم والبهجة تثمر دمعًا رقراقا في عينيه. دلف إلى المطبخ وبدأ يفرغ أكياس المشتريات، أخذ الفستان والقلادة وورقة مكتوب عليها “بمناسبة ذكرى زواجنا الخامسة أحبك يا زوجتي، لن أفارقك أبدًا ما حييت، زوجك المخلص أنس” ووضعهم على الكنبة. كان قد خطط أن يعد هو العشاء هذه المرة حتى تكون المفاجأة أكبر فتكون الذكرى أجمل.
أشعل الكثير من الشموع، ووضع الطعام الذي أعده، ووضع القلادة في جيبه وبعد أن جهز المكان، ابتسم ومسح يديه ببعضهما، هز رأسه وقال: الآن سأوقظها. جثا على ركبتيه عند طرف السرير وقبلها وقال لها: هيا بنا، فاليوم هو ذكرى زواجنا، أمسك يدها وقبلها ووضعها في كفه وأخذ يحدق بها، نعم هيا سأساعدك على النهوض، أعددت لك مفاجأة اليوم. كلي شغف بأن تعجبك، نهض وكأنه تذكر شيئًا، ركض ثم عاد، وأمسك بالفستان أمامها وقال: ما رأيك بهذا الفستان الأسود! هل تذكرته؟ نعم نعم هو ذات الفستان الذي ارتديته انتِ في يوم زواجنا الأول، هيا سأساعدك بارتدائه هذه المرة.
أجلسها على الكرسي المقابل له، وهي ترتدي الفستان الذي جلبه لها، أخذ يحدق بها وهو يبتسم، اعددت لك كل هذا يا حبيبتي، هذه الشموع وهذا اللحم المشوي، قد يبدو سيئًا قليلًا فلست أجيد صنعه مثلك. انتظري دقيقة قبل أن تأكلي، أحضرت لك شيئًا. أخرج من جيبه العلبة ومعها الورقة، وبعد أن قرأها على مسمعها، فتح العلبة وقال لها: انظري أعجبني جدًا ما رأيك. فاتن أليس كذلك؟ سحرني مذ رأيته وتخيلته حول عنقك. أتريدينني أن ألبسك إياه. اخرج العقد من العلبة ونهض ووقف خلفها، وأخذ يلبسها إياه، وحين فرغ دنى منها وقال: ستظلين دائمًا الأجمل. عاد وجلس أمامها وأخذ يحدق بها ثم قال: أتذكرين أنني في يوم لقائنا قلت لك لك ممازحًا “الأسود لا يليق بك”، طأطأ رأسه وأجهش بالبكاء، وهو يبعد وجهه عنها ثم يعيده، وحين استجمع بعض من قدرته على الكلام بين البكاء والشهيق قال: أتعلمين بمن يليق الأسود الآن، إنه يليق بي يا سيدتي” فوضع رأسه على الطاولة وأخذ يبكي بحرقة لم يخرجه منها إلا قرع في الباب. رفع رأسه وأخذ يتلفت وينظر إليه، وهو يشير إليها ألا تنبس ببنت شفة. وبصوت عالٍ وهو يتجه نحو الباب: من الطارق؟ افتح الباب معك الملازم عادل. بتوتر جم رد قائلًا: لحظة. أخذ يحك رأسه وينظر إلى زوجته ثم ينظر إلى الباب، يمسح جبينه ثم أنفه، أخذ يعض أظافره ويقلب عينيه يمنه ويسرة، وبعد ان هدأ قليلًا أرتدى ابتسامة مزيفة ثم تناول مقبض الباب وفتحه وبادر: مساء الخير، كيف أساعدك. لا شيء نحن نتفقد الجوار فالجيران قد تقدموا بشكوى عن رائحة نتنة صادرة من الجوار ونحاول فقط ان نعرف مصدرها. باهتمام مصطنع: آه ربما قطة نفقت هنا أو هناك. حدق الملازم في عيني أنس: هل تشم الرائحة يا سيدي؟ كلا لا شيء البتة. حاول الملازم أن يتجاوز نظره من بين يديه ولكن أنس شد الباب نحوه ويقول: هل من شيء آخر؟ اجاب الملازم وهو يحدق بحدّة نحو أنس: كلا لا شيء البتة، سنبحث في الجوار، شكرًا لتعاونك.
أغلق أنس الباب واستند عليه، ثم أطلق زفرة طويلة، افترقت شفتاه مرة أخرى وكشفت عن أسنانه وهو يخطو نحو زوجته، وقبل أن يصل سقطت هي أرضًا، هرع نحوها وقام برفعها وإعادتها لوضعيتها السابقة، وجلس أمامها وقال: لا شيء سيفرقنا يا عزيزتي، لن أسمح لشيء أن يفرقنا، نهض ليبعد عنها الذباب الذي تجمع عليها وحين سئم من ذلك عاد وجلس وقال: هيا سأطعمك بيدي، أخذ ينازع الشوكة والسكين ولكن دون جدوي، فالدمع نال من بصره فلم يعد يدرك ما ينظر إليه، يمسح دموعه فلا تقف ولا تجف، أمسك بالشوكة وأخذ يضرب بها وسط قطعة اللحم، وبينما هو كذلك بين بكاء واستياء، قرع الباب مرة أخرى مع أصوات دوريات شرطة وصوت الملازم ارتفع من خلف الباب وهو يطلب منه أن يفتح الباب، بينما بقي أنس ينازع قطعة اللحم عله يطعم زوجته قطعة منه قبل فوات الأوان.
قصة قصير رومانسية رائعة