davinci_human-sketch321

إن الإنسان يعتبر من أكثر الكائنات تكيفًا ومقدرة على التعلم، لا يمكن لكائن حي أن يتغلب عليه في قدرته على التغلب على المشقات والمصاعب، فقد دأب الإنسان منذ قديم الزمان على منافسة بقية الكائنات الحية في الصيد ومهاراته، الدفاع عن النفس وأدواته، وصنع المسكن ومواده. ومع مرور الزمان وفهم الإنسان وتمييزه وخلقه لأدوات تساعده في تسهيل طريقة تسيير حياته ورفعها نحو الأفضل، تطور الإنسان وطور معه عالمه ومحيطه حتى أصبح هو خليفة الأرض، لا غالب له في مقدراته ومهاراته إلا آخر يشبهه يملك فقط قوة احتمال أكبر وعزيمة أكثر منه.

بنية الإنسان الطبيعية هي أن يملك وجها به كل حواسه، وقدمين ويدين وبطنا، وهو ما يخوله لصنع ما يشاء بشكل سهل وسلس، أن يصعد الجبال، أو يهبط الوديان، أن يطير في السماء، أو يسبح في الماء، أن يصنع عود ثقاب، أو يصنع مسبار فضائيًا، دون أي عسر أو صعوبة كبيرة، ولكن ولأسباب إلهية لا نملك دائمًا لها أجوبة، يولد بعض البشر دون أطراف كاليد والقدم، أو دون حواس كالبصر والسمع، مما يخلق أمامه عوائق وحواجز في صنع ما يشاء، ولأن الإنسان بطبيعة خلقه لا يحب الركون والخنوع، فإن فئة كبيرة من هؤلاء الخارقون يصنعون فروقات عظيمة قد لا يصنعها صاحب البنية الصحيحة، والقوة العظيمة؛ وذلك لأنه وبالرغم من الفقد الحاصل إلا أنهم لم يفقدوا أهم ما يميز الإنسان، وهي العزيمة والإصرار والعقل.

العقل هو عِلّة الصناعة، ما يميز الإنسان ليس فقط كينونته المتكيفة مع محيطها، بل وقدرة عقله على التعلم بسرعة وتقبل التغييرات والتفاعل معها، وتخزين الكم الهائل من المعلومات المهمة التي تساعده في المستقبل لتخطي الحواجز والعقبات بما يسمى بالمصطلح البسيط “عامل الخبرة” أي المعلومات التراكمية التجريبية والنظرية التي يتم تحليلها وقولبتها على شكل تصرفات أو أقوال أو أحلام أو حتى خططا يستفاد منها أو يتم نقلها من وإلى آخر… آه نعم أحلام.

احتار العلماء كثيرًا في تفسير ظاهرة الأحلام، وحاولوا الوصول إلى السبب الرئيسي والأوضح عن معنى أن نحلم، خلص البعض إلى ما أتفق معهم فيه وهو أن الحلم هي محاولة العقل في مراجعة ما يمر به من أحداث مرئية، ومسموعة وحتى ملموسة، وعمل فلترة لما هو مهم واهمال البقية، ثم رسم مواقف تساعد الفرد على التعاطي معها ذهنيا ويقوم العقل بحفظ هذه المعلومات كحلول مستقبلية في حال وقع الشخص في هذه المشكلة أو الوضع، ولتوضيح الفكرة دعنا نضع حلمًا افتراضية، كثيرًا ما نحلم بأننا على حافة ما، وقام أحدهم بدفعنا وحاولنا التشبث دون جدوى. ما يتم تخزينه في العقل هو “الابتعاد عن حواف المناطق المرتفعة” عند بعض الأشخاص، و “حاول أن تتأكد من ألا يلمسك أحد وأنت عند حافة مرتفعة” عند آخرين، وتختلف التصرفات من فرد إلى آخر بالطبع.

قيل إن اللاعبين الذي يمارسون الرياضة في أحلامهم هم أكثر تفوقًا من الذين يمارسونه على أرض الواقع، فقد عمدوا في أحد الدراسات على جعل مجموعة من اللاعبين أن يقوموا بالتدرب على رمي كرة السلة، على مجموعة منهم أن تحاول أن تحلم بأنها تلعب كرة السلة وترمي بالكرة وفي كل الرميات في أحلامهم تدخل الكرة، وجعلوا المجموعة الأخرى تتمرن على ادخال الكرة، والمجموعة الأخيرة تتدرب عبر رمي كرة وهمية في السلة، والنتيجة كانت، أن المجموعة التي مارست اللعب في الحلم كانت أكثر من قام بالتسجيل والتسديد الصحيح، يليها من قام باللعب بالكرة الوهمية في خيالهم، ومن تدرب بشكل حقيقي كان له النصيب الأقل.

كل هذه المقدمة كان الهدف منها الوصول لنتيجة واحدة وهي أن العقل أهم من البدن، وبالعقل نستطيع أن نصنع كل شيء، لا المحيط يتحكم بتفوق الإنسان، ولا الظروف، ولا المال. ما أنف ذكره كلها عوامل مساعدة، فإن كان لك أو كنت تظن أن لك عقلًا سليما راجحا، فما الذي يبقيك في مستوى أقل من مستوى الإنسان المتكيف المتعلم المتفوق على بقية الخلق، ما الذي يمنعك من أن تتخيل نفسك نجمًا في الأرض، أو كوكبًا في السماء، ما الذي يمنعك من أن تكون محور الكون، وأنت حقًا من منطلق علمي بحت محور الكون الذي تدور حوله الأفلاك والسديم والمجرات، ما الذي يمنعك من أن تصنع ما تحب وما تشاء، إن كنت تملك جسدًا صحيحًا لا مرضٌ فيه ولا علّة، ما الذي يبقيك كالمقعد في السرير، تأكل وتنام وتصحو لتأكل وتنام، وكم من مقعدٍ تحرر عقله من مقعده وارتحل إلى فضاءات لم تصلها عيون البشر.

ظروفك؟ دعنا نتحدث عن الظروف، محمد صلى الله عليه وسلم بنى خلافة لم يتفوق عليها بشري في عدالتها وحسن تدبيرها وقوتها وهو اليتيم المضطهد المحارب من قومه، وهتلر كان يعيش فقرًا شديدًا بعد ثراء حتى وصل إلى سدة الحكم، وستيف جوبز بدأ شركته من مرآب المنزل وانظر إلى أسم أبل الآن. والأسماء كثيرة لا يسع المقام لذكرها فقط لمن تحدى الظروف، وطارده الفشل مرارًا، ولم يوقفه منها شيء، الإنسان يستطيع أن يبرمج عقله للخنوع والتقاعس، أو للحماس والتحدي، وبالعقل يستطيع الخروج من سجن ظروفه، إلى حرية فكره من المحيط، ما الذي يمنعك أن ترمي السلة في خيالك أو حلمك، ما الذي يمنعك من أن ترسم الموناليزا في عقلك، من الذي يستطيع أن يمنعك من أن تصنع فلمًا من غرفة منزلك، أنتَ، نعم أنت من يمنع نفسك ويتحجج بالآخرين، أنت من يدق مسمار الاستسلام في نعش عقلك، وبمناسبة الحديث عن القبور والموت والنعش، فإنه يقال: إن أكبر مكان مليء بالكنوز هي المقابر، لأن الكثير من الأفكار دفنت ولم ترى النور. لماذا تريد أن تدفن الكنز الذي بداخلك، إن كنت تحيا في صندوق، أو تعيش في قصر، لا هذا يمنعك من النجاح، ولا ذاك يمنعك من الفشل.

من المحزن أن كل إنسان ميزه الله بموهبة أو بعقل أو بقدرة مختلفة تجعله متميزًا عن الآخرين فيهمل نفسه ويهمل فهمها، ويقضي جل وقته يتقلب بين القنوات والشهوات، والمقاهي والمجمعات، وينسى أن له رسالة عليه أن يُبَلِغها أو يَبْلُغها، وموهبة قد تصنع له مجدًا أو اسمًا أو تاريخًا، أو حتى يفتح من ورائها باب رزقٍ لا يغلق، فمن المحزن أن تموت هذه المواهب وتدفن، وما هو أقل مرارة من موت الموهبة، هو اعتقاد الإنسان بموهبته في مكان في أقصى الأرض، بعيدًا عن موهبته الحقيقة، فيفني عمره دون أن يحقق شيئًا يذكر، ودون أن يواجه نفسه في معرفته لموهبته الحقيقية وتحقيقها.

من المهم وجدًا من المهم أن يواجه الفرد نفسه حين يفشل فيما يحب، فيقع أمام خيارين لا قرعة فيهما، إما أن يحاول بكل ما يملك من تركيز ووقت وقدرة حتى ينجح، وإما أن يبحث عن مكانه الحقيقي. سيسأل البعض بتذمر…. وكيف أعرف أنني في المكان الصحيح. إن الأمر بغاية البساطة وأسهل حتى من شرب الماء، كل ما عليك صنعه هو سؤال من حولك ممن تثق برأيهم في المجال الذي تحب عن الشيء الذي تصنعه، والشبكة مفتوحة للتواصل مع ذوي الخبرة لتوجيهك. والطريقة الأخرى أن ترى ما أنجزت وحققت طوال السنوات التي قضيتها في صنع ما تحب، هل أوصلتك لمكان أو لإنجاز؟ إن كان الجواب لا، فهذا يعني أنك يجب أن تعي أن كل ميسر لما خلق له، ولن ييسر لك إلا ما تبرع فيه، قد تكون بارعًا في التفوق الدراسي، قد تكون ممثلًا بارعًا، قد تكون لاعب كرة محترف، انشر اعمالك، شاركها الآخرين وستعرف الجواب حين يصل صوتك للناس.

قبل أن اختم سأتحدث عن ظروف أخرى قد تقف كعائق، ظروف المشاكل المنزلية، أو مشاكل المحيط، نعم إن هذه المشاكل سبب كبير في عدم بلوغ الكثير من البشر للنجاح، وكلما بدأت هذه في سن أصغر كلما عظم التأثير على الفرد، وكلما كبرت رقعة المشكلة وأصبحت مكشوفة ومعروفة بحيث تصل لمحيط الشخص ثم ترجع كنوع من السخرية أو الإهانة، كلمات أصبح أثرها أكبر، كتأثير إلقاء حجرٍ في بركة ماء، فإن لها اهتزازات تتسع رقعتها، كما لها قاع تترسب فيه هذه الصخور. يقال إن تعاطي العقل مع الضرب الجسدي، هو نفسه تعاطيه مع الضرب النفسي أيًا كان نوعه، فكلاهما يستقبله العقل كنوع من الألم؛ لذا كلما بادر الفرد بإخراج هذه الحجارة من قاعه، كلما استطاع التعايش مع المشكلة ومواصلة السعي للعيش براحة نفسية داخلية. اخراج الحجارة يعني مواجهة الإنسان لنفسه وقبوله بحاله والسعي لتغيير واقعه، وكذلك تحديه بأن يتغلب على كل ما يمر به، فالدنيا تسير بسيرك أو حتى إن لم تبرح مكانك، ولن تمد الدنيا لك يدها لتقول لك “هيا بنا” بل تحتاج أنت لتخرج من داخلك لتمد يدك لتنهض وتمضي مع أصحاب النجاح للوصول لهدفك أو بغيتك، لا تنتظر أن يمد الآخرين لك أيدي العون، وإن وجدت فلا تتكئ عليها، فلن تمتد لك الأيدي دائمًا.

أخيرًا أقول العقل هو ما يصنع الفرق، هو ما أوصل الإنسان إلى فهم حجمه أمام الخلق الشاسع، وهو الذي جعل هذا الكون الشاسع ينحني تقديرًا لمحاولاته بلوغ أقصاه وأدناه. من كان يتخيل أن الإنسان يستطيع أن يصل إلى أصغر جزء من المادة، أو يرى أكبر نجم في الكون، أن يصنع أذكى رجل آلي، أو أن يصنع أصغر ذاكرة. لا أحد تخيل، لم نكن نتخيل حين رأينا أول ألعاب الفيديو، أنه من الممكن أن نسمع أصواتًا تخرج من أبطالها، والآن نحن نكاد نرى وجوهًا حقيقة وحواراتٍ وكأننا نشاهد مسلسلًا تلفازيًا. لا يمكن لشيء أن يتغلب على خيال الإنسان وقدرته على تحويل الخيال إلى واقع إلا آخر يشبهه يملك فقط قوة احتمال أكبر وعزيمة أكثر منه، فكن أنت الآخر الذي يشبهه.

عطش لزخاتكم

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s