وجدتني امسك بورقة دون فيها ترتيبي. كان الرقم الذي أحمله قد تجاوز الثلاثمائة، وما يزيد البل طينًا كثرة الزبائن عند تلك المحطة المسماة “شركة الاتصالات”، اتلفت يمنة ويسرة اترقب رجلًا قد ثقل عليه حمل تلك الورقة الخفيفة التي تحمل دوره، ليمررها لي، وما يلبث أن يمر ذلك المثقل ليمرر الورقة لفتاة أتت بعدي، علّ ذلك يخفف عليه وطأة الوقت الذي ضيعه في دور لم يستطع أن يصبر من أجله، ولم يصبر على أن يسمع منها كلم شكرٍ ناعمة لم يسمعها من زوجته منذ قرن.
كلنا نتحمل تلك المشقة، أن ننتظر أدوارنا وكأننا مرضى ننتظر شريحة تعلق في كبد هاتفنا، فنصحو من علّة انقطاع الخدمة، لنحصل على ذلك الاتصال الذي كنا ننتظره، أو نستقبل تلك الرسالة التي تغير مزاجنا وتخفف وعكة الانقطاع عمن نحب ومن نريد. هكذا أرى مشهد الطوابير التي تقف أمام شركات الاتصال، أو هكذا على أقل تقدير أقرائها.
البارحة وردني اتصال غير متوقع من زميل سابق وصديق من الهند كان قد سألني عن السبب الحقيقي وراء ذهابي لمحافظة ضباء وحين علم بالخطب، لم يكتفي بمراسلتي عبر الرسائل النصية، انما رفع الهاتف وسألني إن كان كل شيء بخير، كنت مسرورا باتصاله كثيرا، ففي الأزمات قد يخذلك المقربون وتعجبك مواقف الأبعد منك، مما يجعل الحزن يغيب عن الآخرين ويرفع ستاره عنك.
“الواتس آب”، لم أعد اعترف كثيرا به، ليس ذلك وحسب، بل وبالكاد استخدمه بين فترة وضحاها، وكثيرا ما اتجنبه واتحاشاه وكأنه رواق مظلم لا تدري ما يصيبك إن عبرته. قد يظنه البعض طريقا مختصرا، ولكنه لا يوصل إلى قلب أحد. على مدى سنوات استخدامي له رأيت كيف يساء فهم جملة، كيف يسقط منك ايموجي (ايقونة الوجوه المبتسمة) خاطئ في عزاء أحدهم، وكيف تستحيل الله يرحمه الى مات وارتاح بالتصحيح التلقائي، نعم تظنها مبالغات، ولكنها واقع، العديد من حالات الطلاق صنعتها محادثة عابرة، والكثير من الخصومات تسبب فيها غياب الجيم من الجملة، أو سقوط الشين من الشباب.
نحن البشر كائنات اجتماعية بالدرجة الأولى وكذلك الأخيرة، كما قال المثل الأجنبي “ليس هنالك إنسانٌ جزيرة” في إشارة واضحة أن الإنسان لا يستطيع أن يحيا وحيدًا كالجزيرة لا تنتمي لأرض. وهذا ما يجعلنا نصطف بطوابير تنازع الانتظار وتغالب الصبر؛ حتى نحصل على تلك الخدمة، أو نفتح ذلك الخط، أو ندفع تلك الفاتورة لتجنب الانقطاع عمن نحب أو عن العالم الذي نحب. ورغم حبنا الشديد للتواصل، إلا أننا نصل لنقطة نبدأ في العزوف عنه، وقد لا نفعل ليبدأ الناس في العزوف عنا، لأن العلاقات تشوهت كثيرًا، المشاعر أصبحت تلخص في أيقونة قلب، والاهتمام أصبح يرتدي ثياب اللامبالاة، مواساتنا جملة تقال وتنسى، وتعازينا ننسخ جملته من رسالة سبقنا إليها عضو في مجموعة. صرنا نبالي فيما يقال لنا أو عنا، ولا نبالي بالآخرين وما يمرون به، نرسل خواطرنا، دون أن نفكر في أن نلقي نظرة على خواطر الآخرين، حولتنا البرامج الاجتماعية إلى كائنات أنانية، تفكر في الاستعراض وتتجاهل العرض، تطلب ولا تقدم، وتنسخ دون تحري، وترسل دون أن تفكر.
عندما أرغب في سرد موضوع مهم فإنني أرفع سماعة الهاتف، وحين اشتاق لأحدهم فإنني أتفق معه على موعد للقاء، وكلما شعرت بضيق أو حزن؛ فإنني أدير محرك سيارتي حتى أصل لمن يجيد فك ذلك الضيق، أو لصاحب صدر يتسع لوجعي. لا شيء يربطني بالعالم الافتراضي سوى ثرثرة، وحروف عابرة، ونصوص ناقصة، وصور تحفظ جزءً من ذاكرة. لست مرتبطًا ببرامج التواصل الاجتماعي بشكل لا أقوى على كسر قيوده. لا ننكر أنها نحتت شكلًا جديدًا لنمط الحياة، حتى أصبحنا لا نقوى على تجاهلها، قربتنا من الآخرين بالشكل الذي يبعدنا عن ذواتنا وعن حاجتنا كبشر للتواصل الفيزيائي، جمدت علاقاتنا واختزلتها في زر إعجاب، والعجب أن البعض حتى لا يضغطه، بل يكتفي بالمراقبة عن بعد، ثم يخبرك بعد سنوات طويلة من الغياب أنه يعرف كل ما تصنع فهو متابعٌ جيد لك في الإنستقرام، وقارئ جيد لك في الفيسبوك، ومهتم جدًا في خواطرك في تويتر.
وبمناسبة الحديث عن المعرفة، وفي ظل انعدام الخصوصية وغياب الانعزال، فتحت البرامج الأبواب التي لم يكن من مفتاح يقوى على فتحها، أبواب أسرار البيوت، وأخبار الموجود، وتفاصيل الفرد المغيبة عن المجتمع، وجعلت من السهل النفاذ إلى حياة أحدهم، وهتك سترها، وفضح عورها، وجعل سمعته علكة يمضغها القاصي والداني، والسامي والحقير، وفتحت الكثير من المنافذ للمخترقين الإلكترونيين، والمبتزين، وسهلت على الذئاب الطرق الوعرة، وأصبحت الأغنام طريدة سهلة يذوق من لحمها أي قطعة يشتهي، ويسرت الفساد للوصول للعباد، لا وصول العباد إلى الفساد؛ فأصبح من في أعمارنا أطفالًا يرون ما نخجل من أن نراه كبارًا، ونفذت بهم إلى عالم لا يعرف براءة وردية، ولا ضحكة نقية، ولا فرحة شقية، إنما شقاء يحصدونه حين يكبرون، فتأتي من بعدهم أجيالٌ تسب أجيالنا لأنها لم تعرف كيف تركب التطور، فحمّلت التطور عبأ يحملونه من هم بعدنا.
مقالي هذا أشبه باعتذار لمن لم أستطع التواصل معهم بشكل جيد في الواتس آب، فقط لأنني سئمت مضيعة الوقت في قراءة برودكاست فقير بالمعرفة والصدق، غني بالكذب والجهل، مليء بالتفاهة، خاوٍ مما يستحق ثوانٍ نُسِلت من أعمارنا، ومقاطع قصيرة إما لأحمق يرقص، أو لأخرق يغتاب أحدهم بمسمى “طقطقة” أو سخرية، وكأننا ولدنا لنصحح أخطاء الآخرين بأخطائنا الأعظم، متى نترك للناس حريتهم ونناصحهم عوضًا عن السخرية منهم بشكل مبتذل مهين، متى نتوقف عن ارسال فتاوى لا أصل لها ولا فصل، قالها شيخ لا يعرف للشرع طريقًا، أو حتى قيلت عن شخص لم يقل بها.
ساتراجع عمّا قلته فمقالي هذا ليس مجرد اعتذار، بل هو توضيح، فالبقاء حول أحدهم لفترة يجعل نسبة المشاكل ترتفع، لذا دائمًا ما يقال “لن تعرف أحدهم حتى تسافر معه” لأنك ستراه في كل حالاته وستعرف كل احتمالاته، ولأن الواتس آب أو غيره من البرامج وفرت تواصلًا دائمًا بين العائلات والأصدقاء والزملاء، ستجد أن تلك المجموعات تضم مشاحنات عديدة، وعداوات معدودة، والانسحابات فيها واردة موجودة، وأعزي السبب لما قلته هنا وما قلته سلفًا من أن ملامح الفرد مغيبة عمّا يكتب، لذا فتفسير المكتوب يعود على القارئ ومزاجه، وحالته الفكرية، ورغباته المدفونة، وقد يخلق سوء فهمه من الحبة قبة، فيخسر الناس بعضهم.
لذا وقبل أن نصبح حقًا مجرد جزرٍ متفرقة لا يربطها سوى خيط وكوبين ويمسي المثل لا قيمة له، علينا أن نعرف متى نتحدث مع أحدهم عبر البرامج، وماذا نكتب، ومع من نتواصل، وأي المجموعات يجب أن أكون فيها، وكم من شخص عليَّ أن أراسل، وكم من الوقت يجب أن أضيعه في دردشة ربما تبدو غير هادفة، لست ضد الواتس، ولكن ومع تكرر المواقف المحرجة بسببه، والفهم الخاطئ لم نسرده، واستياء الناس من عدم التجاوب المباشر معها، وجدتني مضطرًا لعدم التفاعل مع هذه البرامج إلا ما ندر. هذا كل ما في الأمر