sailing-boat,-ship,-cliff,-dark-sunset-159689

أقسم لك يا سيدي أنني لا أملك إلا هذا المبلغ، أرجوك خذنا معك. هز رأسه وبغضب ألقى المال في وجهه: أغرب عن وجهي، سيأتي غيرك ألف شخص آخر يملك أكثر وقد يدفع لي أكثر. ولكن يا سيدي انظر لمن معي حالتنا يرثى لها، ولا نستطيع أن نعود، ولو عدنا فإن خفي حنين هو كل ما سنعود به وحفنة مما تعرفه أو تتخيله، فمصيرنا في هذا الاتجاه معلومٌ ومجهول هو الآخر يا سيدي، دعنا فقط نأتِ معكم، صدقني لسنا بدناء، انظر نحن ومن شدة الجوع كفرت أجسادنا بالثياب فلم نعد نتسع لها. دفعه رجلان آخران كانا يعدان المبالغ ويدونان الأسماء المستجدة، حتى سقط على الأرض هو والطفلة التي يحملها في يده، هرعت سيدة متقدمة في السن تدفع الرجلين بعيدًا عنه: وبصوت غاضب مشوب بحزن: ابتعد عنه، الله الغني ابتعد عنه يا حيوان. دفعها أحدهما دون أن يهمه كونها سيدة؛ فسقطت بالقرب من الرجل والطفلة التي ارتطم رأسها بحصى صغيرة تسببت له بخدوش وجروح سالت من بعضها الدماء.

أخذ حاتم يجري في أرجاء المكان ويصرخ: بسمة، تاليا، مصعب أين أنتم، بسمة! وحين نال مبلغه من اليأس، بدأ ينادي بصوت مختلط ببكاء، فسمع صوتا من خلف الركام، جرى هو ومجموعة من المحيطين به باتجاه الصوت، وقف الجميع يصرخون ويهللون: هنالك أحياء هنالك أحياء، الله أكبر. خرج صوت سيدة وصياح أطفال من خلف غرفة شبه منهارة بقت صامدة أمام براميل المتفجرات التي تهاوت فوق رؤوس العالمين، بدأ الناس يحومون حول الغرفة والركام المحيط، حتى وجدوا فتحة بالكاد تخرج قطة، وعملوا على توسيعها بكل ما توافر من أدوات حولهم، وبعد زهاء النصف ساعة انتهوا مما بدأوه، فدخل هو وخرج بعد قليل وهو يدفع طفلة لم تتجاوز الرابعة عبر تلك الفتحة ووجهها مليء بالتراب، ثم وبعد أن يلتقفها الناس منه، يخرج فتى لم يكمل التاسعة، وتبعته سيدة علق حجابها وهم يسحبونها، فأنكشف شعرها، فقالت متوسلة: هل لكم أن تغطوا شعري أرجوكم. وخرج خلقها حاتم، بعد أن أجلسها الناس وقدموا لها الماء. بدأ الناس يكبرون ويهللون وهم يهنئون حاتم بسلامة عائلته، ويخبرونه أنها لمعجزة أن ينجو من الموت كل أسرته، وبعد أن ارتاح، أخذ يبحث عن الأشياء المهمة بين الركام، وعاد إلى داخل الغرفة وجمع كل المقتنيات التي وجدها، ثم همس لزوجته، سنذهب إلى تركيا، نظرت إليه: لم نكمل عاما مذ رحلنا من حمص، وها نحن يطاردنا الموت أينما حللنا. ينظر إليها مبتسما: لا تقلقي، سمعت الكثير عن حال اللاجئين في تركيا، إنها نعيم مقارنة بهنا.

بصوت لاهث وجبين يتصبب عرقًا: من هذا الاتجاه يا بسمة. يا أبو مصعب لنا يومان نسير مذ انزلتنا السيارة التي اوصلتنا لم نطعم شيئًا، وكما ترى فابنك متعب، وأنت تقول أننا اقتربنا من الحدود التركية، قالت له زوجته بسمة وقد بلغ منها التعب مبلغه، وتلونت ثيابها بكل الألوان التي مروا بها في طريقهم من منزلهم الكائن في حمص التي غادروها منذ قرابة شهر ليستقروا بعدها في معرة النعمان، التي أمطرت سماؤها الكثير من البراميل، مما أجبرهم على أن يكملوا رحلة الشتاء والصيف التي بدأوها مذ أن بدأت السيوف البارودية تتقاطع بين المعارضة والجيش النظامي. توقفت قدماه المتورمتين عن الحراك، وكبحار وضع يده فوق جبينه ليحمي عينيه من الشمس محدقًا في الطريق التي لا يبدوا أن لها نهاية. أترين تلك الشجرة هناك؟ تجيبه عن أي أشجار والطريق مقفرة هنا تجيبه باستغراب. يبتسم ويقول: تلك تلك البعيدة، حين نصل إليه سنقف عند ظلها. تعلم جيدًا أن نظري ضعيف، أرجوك لا تستغفل حواسي، تسأل ابنها: هل هنالك شجرة حيث يشير والدك؟ هز رأسه مؤيدًا بعد أن أشار له والده خفية بأن يجيبها بنعم. رفعت رأسها نحوه: هلا كففت عن هذا. يا تاليا هل ترين شجرة هناك. فتهز بكل براءة رأسها وهي بين ذراعي أبيها بلا. فيعضها حاتم ويقول لها: تفضحينني في كل مرة. ثم يلتفت إلى زوجته: دعينا نكمل لم يبقى الكثير.

“Eğer sınır geçemezse” قالها شرطي الحدود للطوابير التي اصطفت على الشريط الحدودي التركي، كان الناس يتدافعون محاولين الدخول إلى تركيا، الأعداد مهولة، والمساحات كلها ممتلئة بالمخيمات، والصناديق الكارتونية التي صنع البعض منها سترًا وستارًا له ولأهله، كان الوضع مزريًا جدًا. جلست بسمة ونام في حجرها ملاكيها تاليا ومصعب، وكانت تنازع التعب، وتحارب جنود النوم خوفًا من أن يسقط أبنائها من حجرها فيستيقظوا، بينما يبحث حاتم عن لقمة عيش تسد جوعهم. وبعد أن غفت لثوانٍ معدودة أيقظتها رائحة افتقدتها لمدة طويلة، رائحة الخبز التي كان يمررها عبر شفاهها وهو يهمس لها، كل فأنتِ جائعة، وكعادة كل أم، لم تلمس حلمات لسانها أي شيء قبل أن تضعها في فم صغيريها. كلا جيدًا، ولا تستعجلا وامضغا الاكل جيدًا. كانت تدرك أن المضغ الجيد سيجعلهم يكتفون بالقليل. وبعد أن عادا إلى النوم، بدأت هي تتناول الطعام وتنظر إلى ثيابهم الرثة، وحالة زوجها البائس، والذي ألقى ببصره في اتجاه، وعقله في اتجاه لا يعلمه إلا هو. انسالت دموعها وهي تنظر لما وصلوا إليه، جوع وتشرد، بؤس وطوابير طويلة، خوف استمر لأسابيع، وقد يستمر لشهور عديدة. كانت هذه أول مرة تفقد الشعور بالأمان وهي معه وبقربه، ترى أن المسافة التي تفصلهما وكأنها المسافة بين المشرق والمغرب، كانت تبكي حتى تبلل الرغيف القابع بين أسنانها واصابعها المرتجفة بالوجع. أخرجت الرغيف من ثغرها، وقسمت منه جزء له.

وقبل أن يغفو الأمل على رصيف الحدود دون غطاء يقيه هذا التشرد، استيقظ بعد أن بدأت شرطة الحدود بإدخال الطوابير إلى داخل الأراضي التركية، حينها فقط استطاعت بسمة أن تستعيده بسمتها، وأن ينفض حاتم مشقة الطريق ومخاطر الموت التي مر بها في طريقه إلى الأراضي التركية، آن الأوان كي يخرج من بلد لفظ مواطنيه وساكنيه والعابرين به، وجدوا الطعام والخيام، واستطاع الجميع أن ينام بعيدًا عن ضجيج الصواريخ وصوت الرصاص يعبر بين جدارين.

إلى أين تذهب يا أبو مصعب؟ نحن هنا منذ أسبوع يا بسمة، والحال صعبة، والوضع يتردى يومًا بعد يوم، بعد أن فررنا من الموت، جئنا إلى هم أكبر منه. ثم عاد إليها مسرعا وأقترب وجلس عند قدميها وأخذ يهمس لها: سمعت بعض الأشخاص يتحدثون عن أحد المهربين الذي سيأخذنا إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط وننتقل منه إلى اليونان، الكل ذهب إلى هناك. تقاطعه وقد ألم بها غضب لم يعهده منها: كفانا الله شر الترحال، لن أبارح مكاني، في كل مرة تقول أن الشجرة هناك الشجرة هناك، لم أرى تلك الشجرة بعد، طريق طويل قطعناه، كدنا نقع في قبضة القتلة عدة مرات، والله لم أعد أقوى يا أبا مصعب، ثم بدأت تبكي، ألا يكفي ما صنعته بنا الأيام لتطلب مني أن أمضي في رحلة إلى المجهول، لا أعرف ماذا يخبئ لنا اليونان. احتضنها حاتم بشدة وقال: أعدك أنها ستكون أخر رحلة، ولن نضطر بعدها للرحيل، لكن علينا أن نبيع بعض الذهب الذي معنا حتى نوفر المبلغ. قطع الذهب هذه آخر ما نملك يا حاتم، إن كنا سنبيعه، فأرجوك تأكد ألا ينصب علينا الرجل وأن يوصلنا إلى حيث يفترض بنا. وبعد بحث مضنٍ وصل حاتم إلى المهرب، واتفق معه على المبلغ، وبدأت رحلة أقل مشقة من ذي قبل مع عائلته إلى شواطئ تركيا المطلة على جزيرة كونر، أنزلهم الرجل من سيارته وأشار نحو تجمع على أحد الشواطئ وقال: اذهبوا إلى هناك وستجدون رجلًا يدعى أحمد الليبي أخبروه أنني من احضركم وسيقوم بالواجب.

خفت قدما حاتم وزوجته رغم التقرحات التي ألمت بها أثر المسير الطويل الذي رافق أحذيتهم البالية، وسارا حتى وصلا عند التجمع القريب من الشاطئ، وسألا عن أحمد الليبي، ولم يجدا شخصًا بهذا الاسم، شعر حاتم حينها ببعض القلق، وظل يضع كل الاحتمالات تحت الحسبان، ربما نصب عليهما المهرب، ربما أخذ أكثر مما يجب، ولكنه ينفض هذه الأفكار لأن الجميع أخبره أن هذا هو المبلغ الذي دفعه من سبقه للهرب إلى اليونان، لم يعد يتسع عقله لمزيد من التفكير، وكاد أن ينفجر غاضبا في وجه المهربين الموجودين، ولكنه خشي أن يفقد كل شيء. جاءت بسمة ووضعت يدها على كتفه وقالت: اهدأ، دعنا ننتظر ونبت هنا معهم ونرى ما سنفعله في المساء، قدم لهما بقية اللاجئين بعض الماء ووجبة خفيفة بالكاد تطرد الجوع عنهم، وأخذوا قسطا من الراحة حتى حل المساء.

بدأ الناس يتجهون نحو الشاطئ وقد اقتربت سفينة كبير انزلت منها قاربًا، انتصب بعض المهربين فوق الماء عند طرف الشاطئ بعد أن توقف القارب عندهم: على التالية أسمائهم الركوب إلى القارب الذي سيأخذهم لتلك السفينة قال أحد المهربين الذي يبدوا وكأنه المشرف على عملية التهريب. أخذ القارب يذهب ويجيء كالمراجيح، حتى تبقى فقط في الجزيرة مجموعة من الأشخاص لم تكن أسمائهم على القائمة، فقال لهم المشرف: أسمائكم ليست على القائمة، واكتمل النصاب، قد نأخذكم بشرط أن تدفعوا ألف يورو. تعالت أصوات متفرقة تقول جمل متشابهة، خلاصتها: أنهم جميعا دفعوا ما قدره ألفين يورو لرجل قال إنك سينقلنا إلى اليونان. هز رأسه: لا أعلم عن ماذا تتحدثون، ولكن لا شأن لي، من يدفع فليتقدم. أخذ الجميع يبحث في جيبه دون جدوى، امسكت بسمة بزوجها قبل أن يندفع وقالت له: اهدأ أعلم أنك غاضب جدًا، لكننا في مكان لا نعرفه، ورأيت خلف حزام هذا الرجل سلاح، انتبه لتصرفاتك. أخرج كل ما في جيبه من نقود وتوجه نحو الرجل.

نهض بعد أن دفعه الرجل وزوجته وذهب يتفقدهم وهو ينظر إلى المهرب ويتمنى لو أن به قوة أمام ذلك السلاح الذي يخفيه المهرب، استسلم للأمر الواقع، بينما كانت زوجته تحاول ان تخفي حزنها ومخاوفها وألمها كي لا تضغط عليه أكثر فيصنع ما لا يحمد عقباه. ابتعد المهربين في المركب حتى وصل بهم إلى السفينة التي اختفت خلف ستار الظلام المرصع بالنجوم.

وبينما هم جالسون عند الشاطئ، كانت بسمة تضمد جروح ابنتها بقطعة مزقتها من ثيابها، وزوجها لا زال يحدق في الأفق المظلم، في الأمل الكائن خلف هذا السواد الممتد، وبينما هو كذلك، أتت مجموعة من الرجال من بعيد يحملون قاربًا مطاطيًا برتقاليًا، وقال أحدهم بصوت مرتفع: أعتذر عن التأخير، لكن كنا نواجه مشكلة وقمنا بحلها. لم يفهم أي ممن بقى أي شيء مما يقولونه. وحين اقترب منهم قال: أعلم أنكم في حيرة، أنا أحمد الليبي. تغيرت ملامح الجميع، وكأن الروح نفخت في أجسادهم مرة أخرى، وعادت قلوبهم تنبض، والبعض منهم لشدة حماسته أخذ يكبر ويهلل. ابتسم أحمد وهو يوجه الرجال لإنزال القارب المطاطي في الماء، ثم بدأ يأخذ الأسماء ويتأكد من تطابقها، وحين فرغ من ذلك، أخذ يشير إلى الجميع أن يأخذوا مواقعهم في القارب بحسب التشكيلة التي يصفها لهم حتى لا يختل توازنهم فيه. كان حاتم حينها يشعر بفرح غامر وهو يصعد على القارب، وفي لحظة من البهجة والراحة وضع رأسه على رأس بسمة وأغمض عينه، وشعر أن الدنيا ورغم سوادها اليوم قد اشرقت في داخله، وأن كل الهموم التي مر بها للتو تبددت، وأن روحه ارتدت ثوب الزفاف اليوم لتزف كعروس جديدة لحياة جديدة.

سار القارب يشق ظلمات البحر، والأفكار الجميلة تراود كل فردٍ فيها، وبعد أن قطع القارب مسافة خمسة كيلومترات، ضحكت بسمة، فنظر إليها حاتم وسألها: ما بك تضحكين. ابتسمت وقالت: يبدو أن تاليا قد بللتني. فقالت بكل براءة: أمي لم أبلل ثيابي. ومع تلك الجملة، أدرك الجميع المشكلة وبدأوا يشعرون بأن الماء والهواء يتسربان، أحدهم من القارب والآخر إليه، أخذ الجميع يصرخ، فطلب أحمد من الجميع الهدوء حتى يبحث عن موقع الخلل، ولكن لم يستطع أن يمنع الجزع الذي أصابهم، فالجزع دائمًا ما يسبق التفكير، حينها بدى للجميع أن القارب لم يعد يستطيع حمل أحد، وأن الغلبة الآن لمن يجيد السباحة، لم يكن أغلب من في القارب يجيد السباحة، لم يكن من في القارب يرتدي سترة نجاة، لم يكن أحد يعرف ماذا عليه أن يصنع.

في الصباح الباكر، كانت بسمة ممددة على الشاطئ وعلى مقربة منها كان زوجها وابنها مصعب وابنتها تاليا ومجموعة أخرى من اللاجئين، اللاجئين الذين هربوا من بحر الدماء القاتل، إلى بحر قاتل لا دماء فيه، هربوا من أصوات الرصاص، ومن براميل الموت، هربوا من ضمائر لا ترحم، إلى ضمائر ظنوها ارحم، وهربوا في رحلة طويلة شاقة من الموت، إلى موت جاءهم يزف أرواحهم التي لم تعش الفرح إلا للحظات غرقت مع آخر نفس لفظوه وهم يتشبثون بهذه الحياة التي لا ترحم.

.

عطش لزخاتكم

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s