جلس على الأرض وقد طوق جسدها بيده اليمنى، وهو يصوب المسدس باتجاه رأسها، كانت يده ترتعش، وعينه تحاول أن تمسك الماء من أن يندلق من كفها. كان يعلم أنه لا يملك خيارًا آخر، وكانت تعلم أنه يفعل ذلك لأجلها، على يقين أن تلك اليد المرتعشة الحاملة للموت، هي ذات اليد التي كانت تمسح على وجهها وتمسك بكفها، وتربت على كتفها، فقد جلسا يقلبان الأفكار في غمرة الفزع الذي اجتاحهما، حيث جاء الخبر مزلزلًا كشهاب ارتطم بالأرض، ومظلمًا كمساء لا يحمل قمرًا بصق في وجه السماء؛ ففي منتصف شباط من العام 2014 كان جيش العدو قد سيطر على قطاع كبير من العاصمة، وكان يمشط المنطقة بمعنى الحرف والكلمة، لذا حاول الناس الهروب نحو الجبل، لكن كل تلك المحاولات باءت بالموت. لم يبق من مفر، الناس ضحية أسلحة في يد جندي لا يعرف سوى لغة الذخيرة والدم، كانت البيوت تمشط تباعًا، من أقصاها إلى أدناها، إن كان قاطنوا الديار رجالا، غادروا الحياة، وإن كن نساءً غادروا الحياء تحت أجساد الجنود المتعطشين للموت وأجساد النساء.
كانت الأخبار تأتي من أطراف المدينة، تهز القلوب من بشاعة ما يسمع، رأس يغادر صاحبه، جسد تملؤه ثقوب سوداء تسيل منها الدماء، فساتين ممزقة تقتل صاحبتها مرتين، مرة دون سلاح، وأخرى برصاصة تنهي تلك المعاناة التي جثمت مكشوفة لعشرين جنديًا، بل وربما أكثر.
لم يكن من هؤلاء من يظن أن الحياة ستكشف لهم عن وجهها النتن المخيف والذي كانوا يشاهدون جزءَ منه في التلفاز، أو على شاشات هواتفهم، لم يكن أيًا منهم يظن أن الموت سيأتيه بهذا الشكل المقيت المظلم، لم يكن الموت حاضرًا في صدورهم أصلًا، فالبشر يعيشون في وهم الخلود والأزلية الخيالية، وأما هذا الموت المجرد من الرحمة، لم يكن مدون في سجلات ظنونهم أو تحت إغفاءات عيونهم. هكذا تبدلت الحياة في المدينة، هرب الفرح من ثقوب القتلى وحطام البيوت، لم يعد من رائحة أقوى من رائحة البارود، ولم يعد من لون أكثر تهندما من الأحمر. لم يبقى في العاصمة سوى تلك البيوت التي لم يقوى أهلها على الرحيل والهرب، وقد اقترب الجنود وصود الرشاشات يهز القلوب، وصوت الصراخ والإستغاثات وبكاء الأطفال المختلط بصوت الدبابات هو الصوت السائد البائد.
أخذ يحدق بها وهي تغمض عينيها التي لا تملك من قوة لتوقف ذلك المطر من الهطول، ولا تلك الطفلة بداخلها من النحيب، وفي لحظة تراجعٍ همست له: أليس من الممكن أن نسلم أنفسنا، ربما لو توسلناهم سيتركوننا في حال سبيلنا، فنحن لم نعادي أحد، ولم نحمل بين أيدينا دم إنسان، كنا نحيا دون أن يشغلنا أو نشغل بنا أحد. يمكننا.. يمكننا أن نقايضهم بالذهب الذي تركته لي أمي، أعلم أنه قليل، ولكن..ولكن سنقسم لهم أنه كل ما نملك. كانت تردد تلك الكلمات وهي تعلم أن أيّا من هذا لن يجدي نفعًا، كانت تدرك فالأخبار كانت تأتيهم من أولئك الفارين من الموت، والذين ظنوا أنهم خدعوا الموت ثم باغتهم برصاصة خائنة في ظهورهم. كانت تقولها بصوت الطفلة التي بداخلها، وكان هو يراقبها بعين فاقد الحيلة اليائس البائس الباكي.
ظل يذكرها بتلك الأيام التي عاشاها معًا برفقة بعضهما، خمس سنوات من الحب والعشق والهيام، والطفولة والشقاوة وما كانا يَعُدانه شقاءً، أما الآن فهو الرحمة الإلهية مقارنة بالمجهول الذي ينتظرانه ويهولانه، وكيف بهما لا يهولانه، فالحرب تأكل الأخضر واليابس، ولا تعبأ بالحب ولا الإنسانية، وتختزل كل مشاعر البشر في كراهية الآخر والعداء له، وترجح المصلحة على الرحمة ومشاعر الإنسانية الطاهرة المقدسة، وتبجل الجماعة والطائفة، وتعادي الفرد والشفقة والآخر.
أخذ يتغزل بها، ويداعب شعرها بيده التي لا تحمل صوت الموت الذي اختاره لها. ارخى المسدس وانزله من رأسها، أرسل بصره إلى النافذة فعاد الرسول بخبر الأفواج التي تلوذ بالفرار وخبر أولئك الذين يتساقطون تباعًا. استجمع قدرته على الكلام وقال: حبيبتي، تعلمين جيدًا أنني أصنع هذا لأنني أحبك، ورحمة بك مما قد يفعله هؤلاء المتوحشون بك، لا أريد لأنسي أن يلمسك سواي، وأظنك لا تريدين ذلك، لا أريد لجسد أن يدنس طهارتك، ولا أن تعيشي بذاكرة نتنة تطاردك كلما تصفحت حياتك. لا أظن هنالك حلٌ أفضل من هذا. أجهشت بالبكاء وأمسكت يده وضمتها لصدرها هي والمسدس، قبلت يده وبللتها بدموعها، أغمضت كلتا عينيها، وبقيت هكذا دون حراك، يصدر منها أنين أدمى قلبه فبكى، وجلسا على تلك الوضعية حتى بدأ صوت الرصاص يرتفع شيئًا فشيئًا.
ارخت كفيها لتطلق يده، لم يكن يملك من قوة أن يفعلها، كانت يده ترتعش، وقلبه يخفق بقوة، أدارت جسدها نحوها وهي تتخلص من طوقه جاثية على ركبتيها وكفيها كهرة، تناولت ابتسامة مزيفة كان قد ألقاها الموت كآخر هداياه لهما، واخذت تمسح دموعه وهي تهمس له بتودد: يا حبيبي، أعلم أنك تحبني، وصدقني لن أكرهك، بل بالعكس، خلصتني من كل تلك الكوابيس التي طاردتني، من كل تلك الخيالات التي أسرتني، من كل تلك الأحزان التي كانت لتتلبسني. أنت كنت ولا تزال بطلي، هيا فلا وقت لدينا نضيعه. امسكت كفه ورفعت المسدس ناحية صدغها، ثم أغمضت عينيها. وذرفت آخر دموعها قبل أن يعلو صوت الخلاص معلنًا نهاية قصتها، نهاية معاناتها المؤجلة، نهاية خطاياها القادمة، نهاية زلاتها المحتملة. غادرته وتركت خلفها جسدًا مضرجا بالموت، هاربة من موتٍ أقسى منه، أخذ يصرخ بصوت عالٍ وهو يحتضن جسدها الذي سكنت كل جوارحه ومفاصله. أخذ يمسح بيده الآثمة شعرها الليلي الملطخ بالقرمزي. لا عليك يا عزيزتي لن أتركك وحدك، وكان البكاء هو سيد الموقف.
وبعد أن اكتفى من البكاء ومسح آخر دمعة حية انسكبت على خده، أدخل السلاح في فمه، وكانت تلك رصاصة خلاصه، أمسك خياله بخيالها ورحلا من ركام المدينة التي رضخت لأصوات الرصاص ونضحت بألوان الموت. طرق عنيف تلى صوت الرصاصة الأخيرة، دخل مجموعة من المسلحين مشطوا البيت بحذر، أشار أحدهم إلى قائد المجموعة وهو ينظر لجثتين أحدهما لامرأة لم تفارق ملامحها الثلاثين، ورجل لم يعرف شعره لونًا سوى الأسود، سيدي يبدو أننا تأخرنا بضع دقائق. رفع قائدهم قبعته وأخذ يهز رأسه بحزن وهو ينظر نحو الأرض. أحد المسلحين بصوت عالٍ: سيدي كان هذا آخر منزل يمكننا إخلاءه لإخراج المدنيين من ساحة القتال إلى المخيمات، هيا بنا لم نعد نملك الكثير من الوقت، والذخائر لا تكفي لمواجهة العدو. ارتدى القائد قبعته، نظر بشفقة نحو الجثتين المتعانقتين، وهمس قائلًا: قتيلا حبٍ أم حرب، لم أعد أعلم الفرق بين وجوه الموت في هذه الحرب. التفت أحدهم ناحيته وقال: هل قلت شيئًا سيدي؟ لا شيء، هيا بنا فقط فهذه أقصى نقطة لنا، ليس مقدرًا لنا أن ننفقذهما، راهنا على رحمة الموت عوضًا عن رحمة القدر، فكان الموت قدرهما. هيا بنا.
جميله جدا ومشوقه ومعبره وفيها من الواقع المرير
نتمنى لك التوفيق والى الامام