يستفيق من غيبوبته فجأة، ليجد نفسه محاطًا بالممرضات، وفي لحظة من الضياع يرفع الغطاء عنه لينهض؛ فيجد ساقيه غائبتان عن المشهد، لم يحتمل ما رآه، بل ربما لم يستوعبه جيدًا، يتحسسهما بكلتا يديه دون جدوى، يقرص نفسه فلربما كان في غيابة الحلم ولكن دون فائدة. تراوده نوبة هيستيرية، أين ساقيَّ، يسأل بصوت عالٍ موجها السؤال لنفسه، وبهلع يسأل الآخرين ما الذي يحدث، ما الذي أتى بي إلى هنا! وأين أمجد. يخبره من كانوا حوله أنه كان في حادث.
يبدأ في تجميع أحجية ذكرياته، ويلملم شتاتها، تستفيق به ذاكرته لتعيده لتلك اللحظات التي كان فيها ممسكا بمقود السيارة، يبتسم لصديقه، ثم يرفع رأسه بتبج تام وهو ينظر لمنافسه ويشير إليه بيده مقلوبة قاصدا أنه في عداد الخاسرين. يبدأ السباق، ذاكرة مشوشة حول اللحظة التي فقد فيها السيطرة. يرى شريط حياته، أصدقاءه، والديه وأحلامه كلها. كانت ثوانٍ تكفي لعقله أن يسرد فيها قصة حياته وأمنياته.
يقترب من حاجز حديدي بعد أن فقد السيطرة، يرفع يديه ليغطي وجهه، فتلك ردة فعل عديم الحيلة في مشهد قد يكون الأخير في روايته التي صاغ تفاصيلها، يرفع يديه فعقله أعاد له مشاعر اللحظة الأخيرة ثم يمارس حالة من الفزع، يهرع على أثرها الطبيب نحوه، ويطلب من الممرضة أن تعطيه حقنة منومة، يخبو الصوت وينحسر الهلع ويختبئ خلف جفونه التي تعلن استسلامها.
يستفيق من جديد، ينظر بجسد منهك باتجاه مصدر الصوت، نحو السرير الذي بقربه، وفي ذات اللحظة، يهز الطبيب رأسه بكل أسى، يلقي ببصره نحو ساعة معلقة في الحائط، ثم ينظر إلى إحدى الممرضات بقربه ويقول لها: ساعة الوفاة في تمام السابعة صباحا. يغلق الستار بعد أن غطى وجهه، يخلع قفازاته، ويزيل كمامة الوجه ليكشف عن شارب اندلق البياض بخفة على أطرافه، ثم يمضي نحو ذويه لينقل لهم الفاجعة.
يتلقى الخبر ذووه، فيعلو الصياح خارج غرفة العناية القصوى، تسقط الأرواح في القاع، وتسقط الأم مغشيًا عليها، لم تكن كلمات المواساة كافية لأن تحيي جسدًا بصق الموت في عينيه فلم يعد يبصر شيئًا من الحياة. يحاول هو النهوض مرة أخرى، ولكن هذه المرة نحو السرير الذي حمل صاحبه ملامحه صديقه، لم يكن متأكدًا، كان يحمل خوفًا عظيمًا. يبدأ بإخراج ساقيه من تحت الغطاء، ولكنه لم يعد يشعر بهما، يكشف الغطاء ليستعيد المصيبة عبرة تخنقه، ويضيع نحيبه بين كل تلك الاحزان التي تتلى عليه من خلف الباب المغلق.
يعود بالذاكرة إلى اللحظة التي كان فيها صديقه يؤرجح رأسه معلنًا عن حماس شديد للسباق الطائش. ينهار هو ويسدل الستار عن غيمته الممطرة. كثيرة هي الأطراف الخاسرة في هذا الرهان، في سباق كان يفترض به أن يكون الفوز فيه محتما وسهلا، ولكن ما دونه القدر على قارعة الطريق هو الحادث المروع الذي التهم ساقيه، واختطف صديقه.
يضع كفيه في وجهه، يتمنى لو كان كل هذا محض حلم، يغمض عينه مرارًا دون جدوى، يقرص نفسه عله يستيقظ دون فائدة ترجى، يعاود مزاولة البكاء، ثم يصاب بنوبة هستيرية تستجيب لها الأجهزة الطبية. صوت إنذارات يعلو غرفة العناية الخاصة، يهرع على أثرها الأطباء والممرضين، يمسكون به، فيأمرهم الطبيب بحقنة مهدئة أخرى يقاومها دون جدوى، تسكن جوارحه، ثم تتوارى عينه خلف السكون.
يستفيق مرة ثالثة على ضجيج مترف من حوله، وجسده الذي تهزه يدان بقوة، أصوات زئير سيارات رياضية، يتلفت بذهول، يتذكر أمر ساقيه فيتلمسهما بسرعة خاطفة، ليجدهما لم يراوحان مكانهما. يلتفت ليجد صديقه يمسك بكتفه ويهزه، ويردد بشكل مستمر أين ذهبت يا عزيزي، أبو وليد سيرفع إشارة البدء، ويشير للناحية الأخرى، ينظر إلى حيث المشار، ليجد منافسه يحدق في وجهه، فيتشتت ذهنه من هول المفاجأة، يفلت المقود من يديه، يقرص جسده ويتفقد قدميه تارة أخرى، ثم يشير لأبو وليد بأنه منسحب، وأنه لا يريد إكمال السباق.
تعلو الأصوات الصاخبة الرافضة للانسحاب، وتعلو الهتافات والتشجيع وأصناف الإهانات والشتائم، الجو مشحون بالغضب والكراهية. يحاول صديقه أن يقنعه بعدم الانسحاب ويخبره أن انسحابه ليس رجولة، وأن الجميع سيعايره وينعتوه بالفتاة، ولكن دون جدوى، كان يتصبب عرقًا شاخصة عيناه، مختبئة عروقه ومنحسر. يمضي نحوه أبو وليد، يناوله قارورة ماء، ثم يهمس في أذنيه بكلام طويل، كلام طويل جعل ملامحه تتغير مرارا وتكرارًا، ففي لحظة يكاد يتمسك برأيه وفي أخرى يبدو أن رأيه يتأرجح على كف عفريت. ينهي أبو وليد كلامه؛ فيهز هو رأسه، يبتسم لصديقه، ثم يرفع رأسه بتبج تام وهو ينظر لمنافسه ويشير إليه بيده مقلوبة قاصدا أنه في عداد الخاسرين.