من السهل أن نخبر الناس بأننا بخير وإن كانت دواخلنا كلها تنزف، من السهل حمل ملامح مستعارة، وإظهار مشاعر مستعارة، وتوزيع ابتسامات هي الأخرى مستعارة. من السهل ألا نثرثر عمّا يضايقنا، ليس خوفا من شماتة الآخر دائما، أو هروبًا من خلع ثياب المثالية التي نتقلدها أمام الآخرين؛ ولكن لعلمنا أن هؤلاء لم يسألوا لأنهم يعبئون بنا، فتلك فقط جزء من بروتوكولات التحية، كيف حالك إنما تقال على مضض، وأحيانا كثيرة على عجالة، ليس المراد بها السؤال، إنما هي تمتمة لملئ فراغات اللقاء بما هو أفرغ منه. نحن لا نكذب، نحن فقط نهذب أحزاننا ونهدمها بشكل يظهرها للآخرين كالفرح.
ننهار داخل صورنا، نحاول ألا تخرج اللوحة عن الإطار فنفتضح، نكابد دمعة، نخنق نحيبنا، ونفر بأعيننا بعيدًا كي لا يقرأ كتابها أحد، نعلم أن حجم الضياع الكامن بداخلها بحاجة لمعركة نحن لسنا ندا لها، ابتساماتنا الصفراء قد لا تكفينا، لذلك نتصنع ضحكة عالية، أو قهقهة خجولة أو نلقي نكتة ساذجة ثم نتبعها بضحكة مثقلة جدا بالروح الملقاة على أسرتنا الداخلية. نسير كالأموات حين لا يتربص بنا أحد، وما أن نلمح الآخرين، حتى نسير ككتيبة عسكرية، بابتسامة مهرج في سيرك.
نقلب القهقهات الملقاة على رصيف مشهد مسجل، أو تلك الضحكات خلف ستار مسرحية ربما شاهدناها ثلاث مرات متتالية، نحاول أن نلمسها، أن نفككها، أن نتقمصها أو نجعلها على مقاس قلوبنا التي ضاقت بحبال الحزن التي دأبت الأيام في صنع عقدها يومًا بعد يوم. نصمت ونشرد ونهرب من إبصار ما حولنا، نسير ولا ندري أين وإلى أين، فالحزن لم ترسم له خريطة بعد.
ننصب شواهد على همومنا، نزورها كل ما حل هم جديد لنخبرهم بأنهم السابقون وفي أثركم آخرون. لا ننبش عن قبورها، فلا أحد يستحق ذلك النحيب، وكل تلك الدموع وذلك الافتضاح العظيم؛ فنحن وإذ فعلنا فإننا لا ننبش قبور قتلانا، بل نحن نخرج قاتلينا الذين لم يموتوا. فهل من أحد يملك ذلك القدر من التضحية والوقت ليصغي لنا، لنعيد تلك الهموم صرعى تحت شواهد قبورها. أكثر ما نخشاه، أن يضع ذلك السمع الذي آمنا به على حبال النشر والتوزيع ثيابنا الداخلية، ومشاعرنا التي لا نبوح بها لأحد.
كم صعب أن تعيش الغربة في مكان يسكنه 7 مليار، أو وطنٍ يحمل مليونا، أو بيت يحوي شخصين أنت ثالثهما، لست شيطانا، إنما ولدت من رحم الخطيئة الأبدية، نزلت من جنة إلى جحيم لا يعرف الكثير من الفرح، كل فرح يقطفه كف وجع، أو تمزقه مخالب الحزن. هذه البسيطة لن تحمل فرحا يكفيك للأبد، بهجتك التي تغنيت بها قبل هنيهة، تبددها صفعة اللحظة التي تليها. وهكذا تحيا على أمل أن تزهر وردتك وتبتسم بها.
أن تصمت يعني أن تحتضر، وأن تبوح لمن لا يبالي يعني أن تموت، وأن تفك قيد كتمانك لمن يدعي أنه يبالي يعني أن تدفن على قيد الحياة. لا شيء كالورق سيفهمك، ولا شيء كالقلم سيبالي بك، ولا شيء كالفن سيفضي بك إلى مكان أفضل من هذا العالم، فالوجع إن لم يثمر حبرًا، أو يخرج فنًا أو حتى يصنع شعرًا فتلك أم المصائب بشعرها الأشعث الأغبر، ستتركنا في دوامة سنعبرها بتفاصيلنا المستعارة، ودواخلنا التي تنزف، دون أن يدري بنا أحد.
فعلاً في الحياة يتصرف البشر وكأنهم ممثلون على خشبة المسرح، بعضهم من يجيد دوره والآخر من يخفق فيه.
احسنت واجدت الصياغ، ممتن لحضورك هذا، كل الود
أشكرك علي الإبداع في المقالات التي تقدمها لنا
أشكرك على الحضور المتجدد هنا
كل الود لك