لا بأس بأن نحب من يشبهنا، من يحمل أفكارنا وألواننا وأعلامنا، لا بأس بأن نميل لمن يتحدث بلساننا ويصدح بإيمانياتنا وبمقدساتنا، لا بأس أن ننتمي لفريق، لمجموعة، لوطن، لا بأس أن نختار ما نرتاح له، لكن البأس كل البأسِ في أن نكره، أن نعادي، أن نحارب أن نتمرد ونتنمر على من لا يتفق معنا، على من لا يحمل أي شيء يشبهنا، على من يختلف معنا في الشكل واللون والزي واللسان وأذواق الألحان، فتلك ليست فقط منتنة، تلك مهلكة.
منذ العهد العثماني تشتعل في قرية صغير من فرونتادوس بجزيرة خيوس اليونانية حرب ضروس بين رعية كنيستين، هذه الحرب نشأت من أصول غير واضحة، لكن إحدى النظريات ترجح أنها قامت خلال فترة الاحتلال التركي ليتمكن أهلها من الاحتفال بعيد الفصح من دون أن يقحمها أحد في حرب. هذه الحرب ليست كما يحدث عندنا، تفجير مآذن، تفخيخ انتحاريين، تكفير وبنادق ورشاشات وأسلحة بيضاء، فتلك الحرب ليست سوى حرب ألعاب نارية منزلية الصنع بين الكنيستين؛ بهدف قرع أجراس الكنيسة عبرها، وتحتسب النقاط عبر حساب عدد الصواريخ التي نالت من الكنيسة في اليوم التالي، لا عبر الأجساد والأرواح التي غادرت مكانا للعبادة.
في إحدى الدول التي عانت من حرب أهلية استمرت أعواما طويلة، تلظى فيها المدنيين ذاقوا ويلاتها، وفكروا في طريقة حتى يتخلصوا من إرث الانتقام وتاريخ الحرب التي مروا بها، فتعاهدوا ألا يخبروا أبنائهم والأجيال الجديدة أي شيء عن تلك الحرب الضروس، وألا تدرس في كتب التاريخ، وأن تمحى من الوجود البتة، إضافة لإرسال كل طرف منهم أبنائه إلى العدو السابق فيدرس بينهم ويتعلم سبل التعايش معهم ليعود حاملًا كل الود والمحبة لهم. هذه التجربة الواقعية تبين أن أي إرث فكري يمكن محوه إن لم يكن مناسبًا، بل في حالهم هذا تدمير الحقد الذي لو تم تمريره سيكون أزليًا أبد الدهر.
أغلب دول أوروبا تجاوزت الحروب التي مروا بها، وفكروا في طي تلك الصفحة والعيش بتسامح وتوافق، ولكننا نحن فقط الذين حملنا كل أحقادنا وثاراتنا وانتقاماتنا، ومررناها جيلًا بعد جيل، مزجناها في حليب أطفالنا، وأذعناها في بعض منابرنا، وهمسنا بها لكل شخص جديد، ننتظر منه أن ينصفنا ويقف في صفنا، والطرف الآخر يحاول بنفس الطريقة، والنفق بلا نهاية، وسيبقى بلا نهاية حتى نتجاوز كل تلك الأحقاد التي لم نعشها حتى.
أحيانا أتمنى لو أن صواريخ العداء بين طوائفنا ومذاهبنا تتحول مثل تلك، ألعابا نارية تضيء ظلمة الليل بلون أحمر ناري، لا أحمر دموي، تضيء بلون يمحو ملث الكراهية من سمائنا، ويسمو بدمث الأخلاق من حولنا. وأحيانا أتمنى لو أن العرب كلهم على وفاق، والأديان كلها خالية من السخرية والإهانات والسباب، فالبعض روجوا على أن الجنة لا يدخلها إلا من يشتم الآخر، وكأن الله قد أعد مقاعد لمن يلعن ويسب ويكفر، مقاعد في المقدمة لا ينالها إلا هؤلاء، يجعلون من الله داعيا لفحش اللسان وسواد القلب، ثم ينزوون في سجدة باكية يدعونه فيها بالرحمن الرحيم، فكيف يليق من تدعوه بهذا أن تنسب له فحش البشر.
عوضًا عن أن نتعلم في المدارس والمؤسسات الدينية والمحافل قبول الآخر، وفهم اختلافاتنا العقدية والإيمانية وتقبلها، تعلمنا أن نكره الآخر، ليس ذلك وحسب، تعلمنا أن نقتل من لا يؤمن بمفاهيمنا، أن نحارب كل من لا يشبهنا ولا ينتمي إلينا بل وأصبح يخيفنا تواجده بقربنا أو حتى حولنا. هذا مقيم سرق حقي، هذا كافر ليس من ديني، هذا إرهابي سيفجر مئذنتي ومصلّاي ومحرابي، لم نعد نثق بالآخر، بل لم نعد نرغب به، وكأننا الوحيدين الذين من حقنا أن نعيش على وجه هذه القرية أو ذلك البلد أو تلك القارة، بل ولو كان بيد بعضنا، لألقى بعضنا خارج هذا الكوكب.
بتنا شعوب نفكر في الانتقام أكثر من أي شيء، لا نريد أن نكون نحن أول من نسامح ونغفر، فتتواصل السلسلة، انتقام يليه انتقام، وإزهاق لأرواح، وبعثرة لأجساد صغيرة طرية، وأخرى هرمة لم يبقى لها الكثير من القوة لتنفذ بما بقي من حياة في جلدها، متى نربي الأجيال القادمة على طي صفحة الماضي أملًا في المستقبل، متى نحيا مع الإنسان على أنه إنسان مجرد من التصنيف، متى استطعنا ذلك، سنستطيع أن نحسب نقاط الفوز، عبر صواريخ الألعاب النارية، لا القنابل النووية.
فعلاً كأنك تتحدث بما يجول في نفسي ويؤثر في وجداني.. بلغة سلسلة وأنيقة.. نحن ليس فقط نكرة من لايشبهنا .. ولكن نكفره هو ونسفه رأيه.. وهذا مايؤدي إلى تراجعنا .. فنحن لانستطيع التعلم مع من يشبهنا .. فمن هو الذي يتعلم من نفسه؟! وكما قيل من قبل ” الذي لايتعلم لايتقدم .. والذي لايتقدم يتأخر”. والوضع يزداد سوءاً .. فالذي كان يشبهنا بالأمس .. أصبح ليس كمثلنا اليوم .. فيزداد التقسيم والجهل. وللأسف فإن الدواء هو الداء .. فالتعليم يزيد من الطيب بلة .. فهو يدرس التقسيم .. ويكرس الكراهية والتكفير .. وكأن الذي يكتب تتحكم فيه الغريزة الفطرية التي لدى الحيوانات بالخوف وإلتزام القطيع.. وللخروج من هذة المعضلة يجب إهمال الإختلافات والتركيز على المشتركات .. ولكن للأسف الشديد يقف في حيال ذالك أمرين .. أولهما هو المصالح الشخصية وذلك بوجود أناس منتفعين بالوضع الراهن كما هو .. والثاني هو شهوة النصر في سبيل معركة آنية.. غالباً تكون بين المذاهب الدينية ولكن موجودة في غيرها .. وكأنهم مغيبين عن الصورة الكاملة وماسيحدث للأمة بشكل كامل.
سعيد بقلمك أخي الكريم وشكراً على هذه المقالة التي تدل على وجود من يهتم بوضع الأمة..
ووجودك دليل آخر على وجود من يهتم بالأمة.
كلامك جميل وسليم والمصالح الشخصية هو أكبر حائل بين النظم السليمة والترابط العربي والإسلامي على حد سواء. ممتن لوجودك
اللهم ارنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وارنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه…
اشكرك
اللهم امين اللهم امين. شكرا لك انت