أمسكت بيدها المرتعشة مفتاح الشقة، وفي كل مرة كانت تحاول أن تقحم المفتاح، كان القفل يلفظ المفتاح الذي يخربش جسده، وبعد معركة غير مخطط لها، نجحت في إقناع القفل بأن المفتاح لم يقصد ضررا، وقامت بفتح الباب. جاءت ابنتها ذات التسعة أعوام وقالت بصوت طفولي: أمي لمَّ تأخرت هكذا! لقد أخبرتني أنك لن تطيلي البقاء. نظرت إليها وبقلق سألتها: هل عاد والدك؟ متجاهلة حديث الصغيرة. أجابتها بكل براءة، كلا لم يعد بعد. وماذا عن أخوك حسام. تهز رأسها بالنفي. وهل نام أخوك الصغير؟ آه، كان يبكي، فأطعمته وقمت بتغيير ثيابه. تبتسم على مضض وتمسح على رأسها قائلة: أنت فتاتي الجميلة، لا تخبري والدك أنني خرجت، اتفقنا، وهذه هي الحلوى التي وعدتك بها. تأخذ الحلوى وتهرع الصغيرة نحو التلفاز لتشاهد رسومًا متحركة، بينما تمضي ساقين مثقلتان بالعالم نحو غرفة النوم.
أغلقت الباب خلفها وبددت عتمة المشهد بنور أبيض لم يستطع التشبث جيدا بالحائط؛ فأصبح معلقا طرفه بسلك كهربائي، ألقت بحقيبتها، خلعت حجابها، وبما بقي من قوتها ركلت حذائها تحت السرير. تهاوى جسدها على مهل حتى جلست على طرف السرير، لازالت غير مستوعبة لما حدث للتو، كانت مشوشة، قلقة وخائفة جدًا، فما واجهته لم تحسب له أي حساب، كانت تظن أنه كان صادقًا معها، وراهنت في كل ما حدث على مشاعرها وحدسها نحوه، دون أن تشك ولو للحظة، أن تلك الملامح البريئة، تخفي كل هذا الشر، وكل ذلك الخبث والمكر.
قبل عدة أشهر من تلك الليلة المظلمة هيئة وشعورًا، كانت هي وكعادتها تعود مسرورة من السوق بعد إن تبتاع بعض احتياجات البيت مما تكسوه البطن ويكسوها. ففي كل مرة تقف لتدفع الحساب كان موظف الصندوق الجديد يتبسم لها، ويحاول أن يفتح حوارًا بسيطًا معها، ولأنه لم يكن يتجاوز زهرة العشرين سوى بعام أو أثنين، كانت تبتسم له وتبادله الحديث والسؤال عن الحال، وأكثر ما يجعلها مسرورة، هو أنه يخطف بعض الصور الذهنية لقوامها الرشيق ونتوءاتها الصارخة.
تطور الأمر بينهما بعد أن بادر هو بتوصيل حاجياتها إلى البيت في إحدى المرات، مما مهد له الطريق لإيجاد سبب لا يمكن الشك في نواياه؛ لإعطائها رقم هاتفه. كانت الأمور جيدة جدًا، حتى جاء ذلك اليوم الذي اُشْعِلت فيه شرارة الخطيئة الأولى؛ فقد اتصل بها بعد أن احضر الحاجيات وسألها عن حالها وسبب عبوسها اليوم في وجهه. كانت تتهرب وتتذرع بأنها متعبة، بينما يقاوم صدرها كل تلك الأحاديث التي تود أن يصغي لها أحد. ليس أي شخص، بل أحد يهتم حقًا لأمرها. أغلق الهاتف، وبعد ساعة عاود الاتصال؛ ليسألها ذات السؤال، في تلك اللحظة كانت فاقدة للحيلة، وشعرت برغبة ملحة في اطلاعه على كل ما يدور في صدرها، وكل ما يحدث خلف تلك الأبواب المؤصدة.
كثرت طلباتها منذ ذلك اليوم، حتى اشتكى زوجها من نفاذ المال سريعًا، وتكدس حاجيات البيت، والتي غالبا إما أن تفسد أو تبلى دون أن يستخدمها أحد. هي لم تكن تبالي لكل ذلك، يكفي أنها تعلقت بذلك الخيط الرفيع من الأمل الذي يخرجها من الملل والألم الذي تعاقره كل مساء حين تحاول جاهدة أن تغمض عينيها بقرب شخص بينهما أميال غير مرئية، يهملها، وينهرها. حتى أنه لم يقل لها يومًا “كم أنت اليوم جميلة” أيًا كان ما تصنعه؛ لأجل أن ينفض سمعها ذلك الغبار الذي خيم على كل الكلام الجميل الذي كانت تظن أنها ستسمعه بعد أن تتزوج. تكاد تقسم كل يوم أن تلك الكلمات لو خرجت من فمه، ستخرج صدئة، مهترئة لا تقوى أن تثقب السمع فتعيد الروح لسامعها، بل وربما لن تستطيع أذنها الإصغاء إليها أو حتى تفكيكها.
كانت تراودها رغبة ملحة لتسأله ذلك السؤال الذي لم يترك بابا في رأسها إلا وطرقه علّه يخرج ليلتقى مع الإجابة. قالت بينما كانت تهاتفه بعد تردد استمر ألف سنة من عمر الكلام: هل تراني جميلة؟ قهقه الشاب بخفة، ثم قال: كيف للحسناء أن تسأل الوحش إن كانت حقًا جميلة، يكفيها أن تنظر للمرآة لتجيبها المرآة من فورها. راودها شعور غريب، شعور مهيب، رجفة اجتاحت كل جسدها، واهتزت له كل فرائصها. لم تحتمل وقع الكلام فأخبرته أن عليها أن تنهي المكالمة. في الجهة المقابلة لم يعرف هو ما حدث، وأخذ يعتذر منها عما قاله، وكيف أنه لم يقصد التغزل بها. أغلق الهاتف وشعور بالندم يساوره، لم يكن يعلم أنه ليس المخطئ في هذه المعادلة الصعبة، إنما الزمن الذي سلبها هذا الشعور وأعاده لها في هيئة مشوهة فأربكها جدًا حتى اجهشت في البكاء. تلك الليلة لم تعاود الاتصال به، حتى أنها أغلقت هاتفها، واحتضنت وسادتها، وهي تحدق في كتلة غريبة عنها، تنام ملتصقة بها تحت مسمى زوج.
منذ تلك اللحظة، أخذت الاتصالات شكلًا مختلفًا، والعلاقة نمطًا أكثر تعقيدًا، كانت تلك النبتة تنمو في صدرها، كل يوم تسقيها بشهقة الهمسة الأولى، ورؤيته المليون التي تعتبرها الأولى في كل مرة عند بابها، واستحضار ملامحه والتحديق في طيفه أو في صورته، كلها سقيا تلك النبتة التي خرجت من تلك الأرض الجدباء. كانت تخشى الاعتراف بأنه بات أكثر من مجرد أمين صندوق وعامل توصيل شخصي، بل تحول إلى أمين صناديق أسرارها، وملاذها الآمن من عالم الوحشة الذي تعيشه.
بدأت منذ تلك اللحظة تحيا حيوات خفية، لا يعلمها أحد سواهما، بدأ لسانها ينطلق في كل شجار يحدث بينها وبين زوجها بعد أن كانت ضعيفة حيلة، لم تكن تعلم سر قوتها وعدم سكوتها عن جلسات الجدال والمحاكمات الزوجية، كانت تظن أن أرضيتها جافة غير زلقة، والحائط الذي تستند عليه صلب قوي، لهذا كانت تمارس تلك السطوة، وكلما زادت الفجوة واتسعت هنا، تكومت في الجهة المقابلة تلة أخرى من التواصل بينها وبين الشاب. تلك الحياة السرية التي عاشتها كادت تفتضح فيها ألف مرة، خصوصًا في تلك الليلة، تلك الليلة التي لاح في ستار ليلها الكثير من الشهب والألعاب النارية، تلك الليلة العظيمة، التي سمعت فيها كلامًا يحرك الساكن ويفتت الصخر. كان قد قرر أن يصارحها فيها بحبه، فانطلقت تلك الحروف الأربعة، تنثر الورود في كل الممرات والتجاويف السمعية لها، وتفرش بساتين الفرح أمامها. ولفرط البهجة والسرور بتلك الكلمة التي نسيت مذاقها، وفقدت القدرة على استهجائها، كادت أن تنفرط منها هي الأخرى تلك الكلمة، لكن ما كبح جماح ذلك السيل العارم من المشاعر، وذلك الوهج من الحب أنها استحضرت فكرة واحدة. إلى أين يفضي هذا الطريق الوردي. فرق العمر، كتلة اللحم الذكورية التي على ذمتها، أبنائها، ماذا تصنع بكل هؤلاء. لا يمكنها وحسب أن تحيا بهذا الشكل الهلامي المتماهي مع الخطأ. لكن كل ذلك الجليد ذاب عندما حل مطر الإطراء والغزل، ونسيت كل تلك التناقضات التي تحيط بهذه الكائن الذي خلقاه.
يمر شريط الأحداث في عقلها وكأنها أمام شاشة سينمائية، ويتلو سمعها كل تلك الأكاذيب التي صدقتها منه، كيف لها أن تأتمن شخصًا فقط لأنها قال لها أحبك، كيف لها أن تحب شخصًا سوى ذلك الذي يشاركها فراشها، وخزانة ثيابها، وأبنائها، كيف لها أن تسلم مفاتيح جسدها لشخص قضت ضعف الذي قضاه حتى تلك اللحظة، بل شابا في عمر ابنها. كانت حائرة، تائهة، كيف قبلت أن اسلمه جسدي، كيف استأمنته ووهبته كل شيء.
تمسك بهاتفها بيدها المرتجفة، تدخل على مجلد التسجيلات والصور، ترى الملف الذي أرسله، لا تقوى على فتحه، هي تعلم أنه يحمل تسجيلا لهما على قارعة العراء، سجل خلسة بكل نتانة، تحاول أن تقنع نفسها بأن كل هذا لم يحدث، وأنها مزحة ثقيلة، لكنها سرعان ما تعاود استرجاع صراخه وتهديده لها وهما مختبئان خلف ظل الظلام، كانت ترى كيف انسل من جلد العجل ليخرج من تحته وحش بمخالب لم تحسب له أي حساب. لم تكن تحمل أي وسيلة تدافع بها عن نفسها، ظنت في الوهلة الأولى أنها تحمل سلاحًا قويًا، أن تستعطفه بذلك الحب الجارف الذي تكنه له، لكنها لم تدرك أنه لم يكن سوى طُعم يريد أن يصطادها به. لم يفلح بكائها في ثنيه عن تهديده، ولا استجدائه بأبنائها. رد على كل تلك التوسلات بكل عنجهية: الآن تذكرت أن لديك أبناءً. استجدته وتوسلت مرارا وتكرارًا، حتى أنها حاولت أن تقبل كفه التي سحبها من بين يديها ثم دفعها بها بعيدًا عنه. انهارت وحاولت أن تقبل قدماه دون جدوى. ثم قال: أريدك وقتما أريدك، وأطلب من مال ما أطلب، أي مخالفة لهذه القوانين، اعتبري أن التسجيل قد وصل لكل من تعرفين ومن لا تعرفين.
تحاول أن تتماسك، تحاول أن تبحث عن حل، تحاول أن تستدرك أي شيء يخرجها من هذا المأزق وتلك الورطة، وبعد أن نال منها اليأس، انهارت ودخلت في نوبة بكاءٍ لم يوقفها سوى ابنتها التي طرقت الباب: أمي، ما بك تبكين. لتخرج هي مسرعة، تحتضن أبنتها، لتشعر ولو ببعض الأمان في هذا الصدر الطاهر النقي، والذي لا يعرف شرور هذا العالم الموحش.