قمت بفتح الفيسبوك قبل عدة أيام اتفقد الرسائل القديمة وقائمة الأصدقاء وذكريات الفيسبوك، الشعور الذي واتاني لم يكن يوصف، أفقدني الإحساس بالوقت الذي تسرب من بين كفي نقرة تلو نقرة، وانزلاق يليه انزلاق؛ فدونت بشكل مقتضب على حسابي في تويتر “أتعس ما في ذكريات الفيسبوك أنك ستجد روحك القديمة، الغائبون عنك، ونقاشات لك مع أشخاص لا أثر لحساباتهم.”، لكنني سرعان ما وجدت بعدها ما هو أكثر تعاسة منه، حين وجدت بعض الحسابات الخاصة بالذين رحلوا وغادروا الحياة، وتركوا خلفهم جزء من أرواحهم العالقة في دهاليز الإنترنت وممراته.

منذ أن اخترعت أدوات الحفظ كالمسجل والكاميرة، بات من الصعب النسيان والمضي قدمًا، وبالنسبة للبعض بات الوصول للمرحلة الأخيرة من مراحل الحزن الخمسة لنموذج كيوبلر روس (الإنكار، الغضب، المساومة، الاكتئاب والتقبل) أصعب مما كان عليه في السابق؛ لأننا قد نعاود فتح كل تلك التفاصيل التي نحتفظ بها، دون الحاجة للتنقيب عنها بين اشيائنا وداخل صناديقنا القديمة في لحظة حزن عابرة، أو اشتياق مترف، بل أمست متاحة بين أيدينا، نفتحها بإرادتنا، وتفتح لنا رغمًا عنا تحت مسمى “في مثل هذا اليوم”، تلك اللفتة التي تحمل في مظهرها الكثير من الجمال، وفي جوهر واقع البشر الكثير من حكايا الفراق والاشتياق.

كم مرة دخلت سرا لملف محبوبتك السابقة، كم مرة مارست خفية تأملاتك العظيمة لكل تلك الصورة المخزنة في مجلدات مواقع التواصل الاجتماعية، لحظاتك مع أصدقائك القدامى الذين فرقتك عنهم الأماكن والهموم والخلافات. كم مرة أصغيت لأغنية سجلتها زوجتك الراحلة، أو تأملت صورة لقبلة أمك الأخيرة، أو صورة أخذت لك خفية ووالدك يربت على كتفك طالبًا منك ألا تبكي بينما يغمض عينيه ليتلاشى ويبقي لك منه جسده وكثير من الذكريات والحزن. كل تلك الأشياء بتنا نمارسها لأنه لم تعد مساحات البيت تكفي لوجود صناديق تحمل أشرطة تسجيل أو صور مطبوعة قضم أطرافها الزمن.

مع تقدمنا في العمر، سيمسي الفيسبوك بالنسبة لنا مقبرة إلكترونية، تغنينا عن الحاجة للذهاب لزيارة قبر من نحب، نخط قصيدة وجع، أو ننثر دعاء مخضب بالدموع، أو نشارك لحظة حفرنا تاريخها في قاعدة بيانات الموقع على حائطه. ليس الذهاب للقبر سوى محاولة يائسة منا للوصول إلى ما بقي من كيان لمن نحب، نحاول أن نسترجع من خلاله الذكريات، وننثر على الثرى ادعية وأشواقًا، ونحيل التراب إلى بقع من مجهرية من الطين، ونغرس الورد وبعض الحنين، ونسرد للأحبة كم أن الدنيا باتت بلا طعم ولا رائحة مذ رحلوا. ولمّا أصبح الملف الشخصي للناس جزء من كيانهم الخالد والذي لا ينسى، سيمسي بذلك مقبرة مثالية لمن فارقونا نمارس فيه زياراتنا، دون أن نكون بحاجة للقول بأنكم السابقون ونحن اللاحقون، دون أن نتيه بحثًا عن ذلك الشاهد الذي يحمل تاريخ الميلاد والممات، بل إن آخر ما نشره سيكون هو تاريخ الوفاة الافتراضي، الذي سيبقى شاهدًا أنه توقف عن عبور برمجيات الموقع وشبكاته في ذلك التاريخ، لن تحتاج لشهادات وأوراق رسمية وكفن، كل ما ستحتاجه أن تقوم بعمل مشاركة تعنونها “في مثل هذا اليوم، كان هذا آخر ما دونه الفقيد.

وعلى هذا الأثر، وكحال ما تصنع بعض المذاهب بأن تترك الرفات كجزء من إرث عائلي، فإن البعض قد يعتبر أن الفيسبوك يجب أن يتحول لإرث يحييه الوَرَثة؛ فهو ليس مجرد رفات لجسد احرق، هو صفحة تمثل شخصية، وفكر ولحظات الراحل، وإن أمعنا قليلًا النظر في ملامح الإرث، سنجد أنه تمثل كيانًا، كيانا لا يمكن له أن يتلف أو يشوه أو يموت، لذلك يرى بعض الفلاسفة أنه جزء من معنى الخلود الذي يبحث عنه الإنسان، فكلما أردت أن تجالس راحلًا، كل ما عليك هو أن تمر من خلال منشوراته، مقاطع الفيديو التي شاركها، أو حتى تصغي لتسجيلاته الصوتية.

لكن يبقى لكل شيء وجهان، وجه قبيح ووجه حسن، فكم نحن محظوظون أن نموت في زمن لا يمكن لنا فيه أن نُنُسى، وكم نحن تعساء لأننا نحيا في هذا الزمن.

رأيان حول “مقابرنا الجديدة

عطش لزخاتكم

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s