الإنسان عدو ما يجهل، أيا كان الذي يجهله، وقد يؤدي هذا الجهل للخوف أو التوجس، وفي أقصى درجاته إلى الهوس. ليس المشكلة أن تكون مهووسا بمخاوف تحت ذريعة الفوبيا، ولكن أن يتحول هذا الهوس إلى عائق كبير في حياتنا، حينها يستوجب علينا الأمر أن نتحرك نحو إيجاد حل جذري، وأكبر المصائب أن تتحول تلك الفوبيا إلى سبب في تعاستنا، وسوء اتصالنا مع الآخرين وتحويلنا إلى ماكينات للكذب والخداع؛ هنا فقط، يستوجب الأمر أن نبحث عن حل ينتشل هذه المشكلة من جذورها قبل أن تقوى وتتفرع
ككائن حي، لا يمكن لك أن تحيا وحدك -وهذا ما قمت بتدوينه في مقال آخر تحت عنوان لسنا جزرا- فأنت بحاجة للآخر حتى تشعر بوجودك، فالآخر انعكاس لك، ليس كمرآة، بل أوجب من ذلك. الآخر بالنسبة لك دليل على أنك هنا. دليل حتى على مشاعرك وتناقضاتك، ولهذا لا يمكننا الاستغناء عن الآخر في حياتنا، وكلما اقترب الآخر، زاد اهتمامنا بوجوده حولنا ورغبنا في امتلاكه وبقاءه معنا، حتى يصل للمرتبة التي يعد نصفنا الآخر، أو حاضنة لعواطفنا ومقبرة لمشاعرنا السيئة.
الناس يهرعون دائما لمن يتقاسمون معهم الفرحة التي تغمرهم، دائما حين يزف لنا خبر سعيد فإننا ومن فرط البهجة قد ننسى أنفسنا ونهرع لمن نحب ومن نهتم به وإن لم نجده فإننا ننزل على عتبات المحبة المتفاوتة حتى نجد الأقرب ثم الأقرب. ولأن الفرحة لا تسعها قلوبنا وحدنا، نتشاطرها مع الآخرين، وإننا إن لم نفعل، ستعاود تلك الفرحة الضمور والانحسار بلا عودة أبدًا. الاسم الذي يأتي في أذهاننا أولاً حين يسرنا خبر أو إنجاز أو رزق مُنحناه، هو أقرب شخص لنا وأكثر من نشعر أنه سيحمل نفس الفرحة في قلبه دون أن يعتمر قلبه حسد أو حقد أو حسرة، بل هو اول من يقفز لأجلك وقد يقفز قبلك من السرور.
يؤمن المسلمون بالعين إيمانا عظيما لا يمكن الشك فيه، ليس جميعهم طبعا ولكن على أقل تقدير الجزء الأكبر، لن اخوض في جدال عقيم طويل حول وجودها أم لا، ما يعنيني أنني اكاد اشعر بأن البعض يؤمن بالعين أكثر من إيمانه بالله، وهنا تكمن أم المشاكل بشعرها المنكوش. فنحن نجعل من العين شماعة لكل مصائبنا ومشاكلنا، وأقصر مسافة للتبرير عن فشلنا العظيم في أن نصبح أو نصنع ما نريد وكذلك تبرير عدم قدرتنا على الاعتناء والاهتمام بالأشياء. تتجاوز مشكلة شماعة العين الكثير، وأكاد أجزم أن ما علق فيها هو أكثر من طاقتها وقدرتها بكثير، فالبعض يؤمن بالعين بشكل مهووس جدًا يمنعه حتى من أن يشارك خبرًا يسره، أو نعمة رزقه الله بها وجزء من شكرها إظهارها. فيطمسها ويدسها في التراب كالموءودة ويظهر العازة والحاجة والفقر للناس.
أم المشاكل ليس فقط في اخفاء النعم، ومحاولة عدم اظهارها، بل تصل لدرجة الكذب بخصوصها، وحتى إخفائها عمن يحب، فيخفي أمر ترقيته، ويكذب بخصوص امتلاكه لسيارة جديد، ويحتال بخصوص سعر الأشياء الباهظة التي اشتراها، وتخفي تلك حملها، وتخبئ هذه نوع الجنين، ويصل حتى لدرجة أن تخفي أبنائها من امرأة عاقر لم تنجب تود فقط أن تلاطف طفل جارتها لفقدانها لمشاعر الأمومة، ونزعتها الفطرية لأن تحظى بطفل.
كل هذا الكذب والتلفيق والخديعة والنفاق من أجل شيء واحد، ألّا يصاب بالعين، نسي الكاذب أن حبل الكذب أقصر حتى من هذا المقال، وأن الجنين مصيره أن يولد، وإن لم تصبه العين الآن قد تصيبه حين الولادة أو بعد أن يكبر أو حين يبلغ مرتبة أو عندما يشيخ ويهرم، هل ستحيا طول عمرك تركض من شبح لا تدركه ولا تفهمه، هل ستبقى تخشى منه أكثر من خشيتك من أن تخسر الناس مقابل أن تكسب شكوكا ومخاوفا لا يمكنك أن تجزم بها، ما الذي يضمن لك أن الحادث الذي أصابك كان بسبب العين وليس بسبب عطل فني، أو بسبب تهورك، أو حتى بسبب سوء الأحوال الجوية. ما الذي يجعلك تجزمين أن اكتمال نمو ابنك في احشائك يضمن له عمرا مديدًا ويمنعه من الموت بعد الولادة بسنة بشهر بأسبوع أو حتى بيوم. ما الذي يضمن لك أن عدم اخبارك لمن يهتم لأمرك بترقيتك أنك لن تخسر وظيفتك بعدها بشهر، أو تفلس الشركة، ما الذي يؤكد لك أن ما حدث لك حقا حدث لك بسبب العين، وأنت ميقن أن العين من الغيب البحت، أطلعت على الغيب أم اتخذت عند الرحمن عهدا! مالكم كيف تحكمون.
يتكبد المهووسين بالعين الكثير من الخسائر، خسارة تلك اللحظة الغامرة من السعادة والتي يميل الإنسان بفطرته على الهرولة بلسانه ليبوح بها لمن يحبهم أولًا، خسارة القدر على الفرح بفرح الآخرين لفرحه، خسارة أن يكون صادقا واثقا مؤمنا بقدرة الله على حفظه من كل شر وسوء، خسارة أن يحيا مرتاح البال، مطمئن الوسادة، وأكبر خسارة هي خسارة كل من يهتم لأمره ويحبه حين يكتشف حجم الخديعة التي يعيشها المهووس والوهم الذي يرسمه له وانعدام الثقة في أنه ليس ضمن من يتمنى له الشر مهما كان.
الهوس بالعين أدى لتلفيات عظيمة في علاقاتنا مع من حولنا، صرنا كمن يمسك بقطعة من الهواء في أكفنا خشية أن تذروها الرياح، صرنا نكذب ونتهرب ونسرد قصص ألف ليلة وليلة لنتجنب الناس، الناس الذين هم مرآتنا، وكل من يقول ألا يبالي بالناس، يكذب على نفسه، ربما مر بتجربة قاسية جعلته يتوجس خيفة منهم، لكنه لا زال يبحث بينهم عن علاقة لا يجرح منها. لا أقول لك أنشر كل حياتك على الإنترنت أو على فنجان قهوة، ولكل شخص تقابله، فقط تذكر أن هنالك من حولك أناس يهمهم أمرك، وسيفرحون لفرحك، وهنالك من سيحسدك وسيسعى لإفساد ما بين يديك، فتجنب هذا وتمسك بأولائك، وتذكر أمرًا واحدًا، ما تخفيه عن الناس مصيره أن يعرف، وبالمقابل سيخفي من يهمك أمرهم عنك بالمثل.
وفي الختام، من لا يملك من يشاركه أفراحه لن يملك من يشاركه أحزانه، ومن لا يملك ذلك سيغمره الفرح حتى يغرقه فينقلب الفرح حزناً والبهجة ألما ووحدة، يبحث في الوجود عن وجوه يألفها، فلا يجد سوى الطريق يحمل هم وحدته ويدفن بين المارة كل سرور لحظي مر به، فما معنى وجود الفرح ولا يوجد من يشاركنا إياه. الإنسان بلا صديق كالبيت بلا سكان، متزين من الخارج فارغ من الداخل، رغم أن حجره ومساحاته تتسع للكثير، ولكنها تتسع لأي شيء إلا الفرح.