DSC_3729

ذات مرة كتبت “الحب وحده لا يكفي كي يعمر بيتًا.” استاء البعض مما قلته ورفضه آخرون. مع أن القضية ليست تنكرًا على الحب، ولا محاولة انتقام فاشلة لعلاقة حب فاشلة. كل ما في الأمر أنني قلت أن الحب مجرد من بقية التفاصيل لا يحفظ البيوت. فقفز سؤال مهم نهم من بين تلك التساؤلات، “ما الذي يحتاجه البيت إذًا”؟ هنا سأحاول أن أجيب عن هذا السؤال من وجهة نظري الشخصية.

قيل أن الرجل هبط من كوكب والمرأة هبطت من كوكب آخر والتقيا صدفة على الأرض، لهذا المرأة مختلفة كونا وتكوينا عن الرجل، وهذا الكون الذي بداخل المرأة مختلف في أغلب مجراته ومداراته عن كون الرجل، يقال أن الرجل أقل تعقيدًا، ويقال ويقال الكثير، لكن ما يهمنا حقا أننا مختلفون بعض الشيء، ووجب أن يفهم كل طرف هذه الاختلافات، اختلاف الحالات النفسية والأمزجة والمشاعر والاضطرابات الدورية الجسدية والتي ترافقها بتقلبات داخلية كبيرة، فقد تحبك زوجتك اليوم وتكره ملامحك غدا، ثم تعشق رائحة باطن جناحك بعدها بأسبوع. بينما يتقلب مزاج الرجل بين الحين والآخر بحسب ظروف عمله، وما شاهده في التلفاز، أو حتى من تعليقات أمه على ما تفعله شريكته.

ومن جهة أخرى، مر كل طرف منهما بتجارب وظروف وصواعق ورعود كثيرة في حياته، صنعت سماءه وأرضه وحدوده وأفكاره وشكلت تصرفاته وردود أفعاله. تَفَهُمْ أن كل طرف جاء من خلفية مختلفة يعني تَفَهُمْ كل تصرف أو فكرة تبدر منه وأخذها بجدية وعدم التعنت في محاولة تغييرها أو نزعها من شخصيته هو ما يبعد الطرفين من الخلافات؛ فجزء كبير من الخلافات يعود إلى هذه النقطة، عدم قبول عيوب وتصرفات الآخر التي لا تتناسب مع ذوقنا أو أفكارنا أو حتى معتقداتنا، ومحاولة محاربتها والتنازع فيها، عوض عن فهمها ومحاولة الوصول لطريقة للخلاص منها أو حتى تهذيبها بشكل أفضل مما هي عليه وأضعف الإيمان قبولها والتعاطي معها، فلست على الخلق بمسيطر.

من الغريب أننا نحب في هواتفنا تلك الانحناءة في أطرافه، ونلمح تلك الشظية الصغيرة النافرة من باب متجانس، ونسرح في نقطة سوداء في قميص أبيض، وحين تظهر تلك التفاصيل والتهذيبات في حياتنا الاجتماعية، فإننا وبالكاد نلقي لها بالًا، أو نوليها اهتمامًا، كل ما يحدث أننا نتجاهل التفاصيل في علاقاتنا، نلقي بكلمة، نعلق بنظرة، ونثرثر دون انتباه ولا مبالاة، فنجرح ونغضب ونضايق الآخرين، ثم نقول: فلان مفرط الحساسية. كلا ليس هو المفرط، بل أنت مفرط اللامبالاة. ربما يتفهم والداك كل تصرفاتك الطائشة، وتهاونك فيما يخرج من حصانك، وما ترميه من سهام الكلام في قلوب الأنام. ولكن تلك المسكينة التي جلبتها من دار والدها إلى سجن الإهمال والإغفال واللامبالاة ليست معتادة عليك فلا تلم انزعاجها منك، وكذلك بالنسبة لك، فإن كل تصرفاتك مقبولة في بيت والدك، قد لا تبدوا حسنة في عين شريكك، فلا تستائي من انزعاجه.

حين نتحدث في جمع؛ فإننا نفرح حين يكون الجميع مصغيا، ونحزن كثيرا إذا ما شعرنا بحضور الأجسام دون الآذان. وفي زمننا أصبح من الصعب بل ومن النادر الحصول على جلسة دون وجود الهاتف كأداة قطع، والهاتف ليس الشيء الوحيد الذي يؤهل لعدم الاستماع بشكل جيد للآخرين، بل هو أداة من الأدوات التشتيت التي تحيط بنا، ولكن على الرغم من كل هذا، يعد الأداة الأقوى والأشد تشتيتًا. وكما يزعجك ويخط بيديه في صدرك كل تفاصيل الحزن عدم إصغاء أحدهم إليك – خصوصا في المواقف التي تحتاج لتعاطف ومواساة – فإن الآخرين يشعرون بذات النقش. لذا المبالاة والإصغاء والاهتمام بكل تفاصيل الآخر مهم جدًا لحفظ العلاقات، سواء صداقة كانت أم علاقة زوجية، وهي أحد أهم أركان البيت.

الغيرة سلاح ذو حدين، إذا لم يُجد أحد الأطراف استخدامه بما يتناسب مع شخصية الآخر، فإنه بالتأكيد يؤسس لهدم العلاقة الزوجية، وإذا لم يتمكن الطرف الآخر من احتواءه وتفهم حجمه وحدوده ومؤثراته، فإن ذلك يجعل الطرف الآخر عرضة للغرق في الغيرة حد التبلد. فيستحيل الأمر من طرف يغار، إلى طرف غير مبالٍ، وفي حالات أقل سوءً على العلاقة أن يجعل الطرف الغيور عرضة لازمة نفسية وفي أقصى حالاته إلى أزمة ثقة. والثقة وما أدراك ما الثقة، خيط العلاقة الرفيع الذي لا يمكن ترميمه أو إصلاحه إلا بعقدة أبدية.

يجب أن تعلم أن الغيرة شعور متفاوت من شخص لشخص، وثقافة مجتمعنا أسست لكون الرجل شديد الغيرة وأن عليه إظهار هذه الغيرة بشكل عنيف أو متوحش أو متسلط، وإن لم يكن كذلك فهو ديوث. وأن ع المرأة أن تكون كذلك حد الهوس، مما يقحم المتزوجين في حملات تفتيش واسعة تفقد خصوصية كل منهما، وتؤجج نار الخلافات لأسباب تافهة وأحيانا دون أسباب واضحة، علمًا بأن هنالك من يولد دون أن يحمل غيرة، أو حتى دون ملكة التعبير عنها بالشكل الذي يجعل الأنثى -ولست أجمع هاهنا- تشعر بالنشوة. لا إفراط ولا تفريط في الغيرة، ومن وجد أنه لا يملك غيرة، فليتصنعها ولا بأس بذلك. لا تقلق؛ كونك تعاني من هذه المشكلة، لا يعني أنك ديوث وأنك لن تدخل الجنة، فالدياثة لا تعني ضعف الغيرة أو حتى انعدامها.

أما الثقة فينقض غزلها الغيرة المفرطة، والتي حين تخالط سوء الظن يتخلق في رحمها الشك، ومن ثم تنجب المشاكل تباعا، فتنزع من البيت سكينته وطمأنينته. الثقة عامل بناء مهم في العلاقات، والثقة لا تعني أن تكون أحمقًا يرى الخيانة ثم يقول لم أر شيئًا. ولا يعني ألّا تسأل باهتمام أين ستخرج، أو متى تعود، وتعرف من هم أصدقاء زوجك أو صديقات زوجتك.

لست بحاجة لزوجين متطابقين كالتوائم حتى يصلوا لنقاط تفاهم، نحن نختلف في الفكرة والرأي فقط، اختلاف بدون خلاف. البعض يحول اختلافات الرأي والذوق والاهتمامات إلى نزاعات داخلية تخلق فجوة بين الطرفين. “انتِ دائمًا لا يعجبك ذوقي، أنت دائما على صواب وأنا على خطأ” وهذه المصطلحات التي تظهر تحول الطرفين لجبهات حربية يجب أن يكون فيها منتصر. البحث عن انتصارات في النقاشات الزوجية يزرع الكثير من المشاعر السلبية التي إذا ما تراكمت مزقت الكثير من جمالية الزواج. يجب التعاطي مع الاختلافات بشكل عقلاني وهادئ، والاقتناع بألا طرف يمثل القاعدة والآخر هو الشاذ، بل أن كل وجهة نظر تحمل الكثير من المنطقية، وأن على طرف أن يتنازل ليس عن رأيه بل عن العمل برأيه. لا مانع ألا يعجبك الأحمر ولكن لأن شريكك أعجبه فيمكنك أن تطلي به الحائط، لست بحاجة دائما أن تكون على حق فلست كتابًا مقدس، ولست بحاجة لأن تكون مثاليا كنبي، أحيانا عليك أن تساير، أن تضحي، أن تهبط للأرض، وأن تقول للآخر “ربما كنت على حق، لم أنظر لها من هذه الزاوية من قبل”.

التنازل يأتي من المودة، والمودة تبنى من العشرة وكسرة الخبز التي تشاركها الطرفان، فإن لم يتواد طرفان، لن يتنازلا، وبالتالي لن يتفاهما وهلما جرى ستنهار السلسلة تباعا من أسفل هذا المقال وحتى أعلاه دون أن يستطيع أحد بعد ذلك أن يرمم العلاقة. علمًا بأنه ورغم احتمالية سقوط كل ما بالأعلى فالحب مشاعر موجودة تتأرجح وحيدة، قد تذروها رياح الطلاق لعدم قدرة الطرفين على الانسجام والعمل كمؤسسة واحدة همها الأوحد الحفاظ على هذه المؤسسة المقدسة.

همسة أخيرة: لن أتكلم عن الانتقاد المستمر، رغم أن النقد سيء لكنه وحده لا يدمر البيوت، هو قد يؤسس للخلاف وهو ما ادرجته بالأعلى، لكن بكل اختصار حاول أن تكون لطيفا مع شريكك، وإن كان ولا بد أن تنتقد؛ فإما بأسلوب أو بتلميح غير مباشر، فالأكل ليس برواية حتى تسرد عنه نقدًا تفصيليًا نسيت فيه أن كاتبه جلس في المطبخ لساعات طويلة بين لسعات الزيت المتطاير، وجروح السكاكين المنزلقة، وكميات كبيرة من الاهتمام والحب.

هذا المقال قابل للزيادة ولكنه لا يقبل النقص.

3 رأي حول “ما يبقي البيت

عطش لزخاتكم

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s