هل نحن بحاجة لأولئك السيئين في حياتنا، أولئك العابسين المارين بملامحنا، موظف خدمات فض، ثرثار في وسط قاعة السينما يتحدث على الهاتف، شخص لا يعرف الأدب، يسرق دورك أمام صراف آلي أو يتجاوز موعدك في المستشفى، أو آخر يقطع طريقك بلا احترام لقوانين السياقة، أو جار يلقي بالأوساخ من نافذته، أولئك الذين يجعلون لحظاتنا مزعجة بعض الشيء، ويصيبوننا بجلطة مؤقتة، وغبطة طويلة، أولئك الذين يجيدون استفزازنا وسرقة أعمالنا، وتملق الآخرين من حولنا.
يمكنك أن تجيب عن السؤال اليومي ممن يحيط بك “كيف كان يومك” عبر مفردتي “لا بأس” خلال أيامك العادية، أيامك التي لا يحصل فيها شيئًا مميز والتي تعيد استنساخ رزنامة السنة الماضية فيها. تسليم تقرير، كتابة برقية، معالجة خلل في النظام، أو إرسال حاسبك الآلي إلى الفني. ولو كنت خارج العمل، فالأمر سيكون طويلا قليلًا، ك” الشارع كان مزدحما” “الصف كان طويلًا”، إجابات مقتضبة، ودردشة شبه منعدمة بينك وبين من يسألك، ربما اختك، ابنك، زوجتك أو أمك.
لا نجيد نحن البشر بسهولة ملئ الفراغ بالحديث مع من نشاهده كل يوم، كما أن اللحظات الجميلة ليست بتلك الغزارة حتى تتكرر في أيامنا، لذا فإن أفضل دردشة قد تكون تلك التي جعلتنا غاضبين، حزانى، أو حتى مستائين، فنحن غالبا نجيد التعبير عن المشاعر السلبية أكثر من إجادتنا التعبير عن تلك المشاعر الجيدة، نحن غالبا نكتفي بالابتسام طوال اليوم عندما نشعر بشيء مبهج، وقد نسرده لشخص أو اثنين، لأننا غالبا نخشى أن يحسد فرحنا أحدهم. أما بالجانب الآخر، فنعود عابسين، بحاجبين مقطبين، ننتظر أن يسألنا أي شخص حتى نفرغ الدلو الممتلئ بداخلنا. زميل، صديق، مسؤول، زوجة، أخت أو حتى عابر سبيل يشاركنا الغضب نفسه. انظر هذا الأحمق قد أخذ دورنا.. تأخرت شركة الصيانة الخاصة بالمصعد وها نحن نستخدم الدرج! هل لديك فكرة عن التعب الذي أعاني منه! وأشياء من هذا القبيل. صدقني، قد نكون صداقات بسهولة أثر شخص سيء مر بنا صدفة.
لا يكتفي السيئين بمساعدتنا في خلق صداقات جديدة أو أحاديث متواصلة، بل يساعدنا في تجديد مشاعرنا، فنحن ننتظر أن نشكو أحدهم لمن نحب، فتتصل بك خطيبتك لتشتكي زميلتها التي حدقت فيها بشيء من الاحتقار، أو تلك التي لم تبادلها التحية، هي تنتظر ذلك السيل من المشاعر الذي يخرج من فم اهتمامك، هي ستنتظر اللحظة التي ترتمي فيها في حضنك حتى تشكو لك وتشعر بكل محبتك واهتمامك.
يعود الأب مهموما، يلقي بثيابه ويرتمي في السرير، ينتظر أن تشعر زوجته بكل ذلك الاستياء الذي ارتمى معه في ذات البقعة، أو في الغداء يشكو سوء تعامل مديره معه، فيحيط به أبناؤه ليعلنوا كراهيتهم ولعناتهم على المدير وتعاطفهم مع والدهم، يبداءون في احتواء همه، في موافقة ردود فعله، أو حتى في محاولة إيجاد حلول للمشكلة، تلك اللحظة التي لا يتمناها أحدهم، تشعل بيتا كامل، فتصنع صومعة من الاهتمام المتبادل والمودة والتقارب.
الإنسان لا يستطيع أن يقر بتمكنه من شيء ما لم يمتحنه، لذا فإن السيئين وسيلة جيدة لنمتحن الكثير في حياتنا، أخلاقنا، ردود أفعالنا، صبرنا المزعوم، قدرتنا على التسامح، غفراننا المنقوص، وكذلك قدرتنا على أن نكبح كل الشياطين التي بداخلنا، حينها فقط يمكننا أن ندّعي أننا أفضل حالًا من ذلك الذي لم يتأدب مع نادل المطعم المسكين، أو ذلك الذي سرق الإشارة منا، أو تلك التي ألقت بفاتورتنا بإسلوب يشيء بالوقاحة.
ما نردده دائما أن وجود السيء في حياتنا يجعلنا نبدو أفضل حالًا، أو وجودهم كوجود الحزن لا بد أن يمر بنا حتى نستشعر الفرح، ولكن ليس ذلك مهما، بل الأهم هو أنه يجعلنا نعي كيف يشعر الآخرين لو أننا قمنا بذات التصرف ليجعلنا نحسن التصرف دائما معهم، حتى لا ندرج تحت قائمة شخص سيء، يجعلنا نتعلم كيف نكون جيدين كفاية مع من حولنا مهما كانت حالاتنا وظروفنا، يجعلنا نقدر حقا تصرفات النبلاء والكرماء والمحسنين، يجعلنا نفكر أكثر في عواقب كل شيء، وفي مآلات كل تصرف، وفي خلفية كل كيان، حتى نهذب الأجيال التي تحتنا. ويجعلنا ندرك أن الناس ليسوا سيئين، بل ربما يمرون بوقت عصيب، أو قد مروا به سابقًا، وأن السيء هي تصرفاتهم التي قد نهذبها نحن حين لا نكون جزءً منهم.