العلاقات والمعارف هي هدف الإنسان الدائم في الحياة، فهو كائن مفطور على المشاركة والتفاعل والحب، ومن دون الآخر الإنسان لا يمكنه أن يعيش، وسيبحث بطبيعة الحال عن شبيه له، حتى لو كان ذلك الشبيه شيء مختلق من خياله. استحضر في هذه اللحظة الكرة التي كان يصادقها بطل فلم castaway والتي أسماها بويلسون. تلك الكرة التي كان يدردش معها ويشكو لها ويصطحبها أينما ذهب وارتحل ويحاول استشارتها وحتى اطعامها، رغم عدم تجاوبها معه واستحالة ذلك -إلا في عقله طبعا-. وذلك حتى لا يصبح مجنونا لاتساع بقعة الوحدة التي يعاني منها بطل الفلم.
الذكاء الاجتماعي مصطلح جديد يصف مدى قدرة الشخص على التعاطي، التنقل والتفاوض في العلاقات الاجتماعية المعقدة والبيئات المختلفة بفاعلية، لكن كون الشخص ذكي اجتماعيا، لا يخوله ولا يمنحه القدرة المطلقة للمحافظة على العلاقات، إنما على فتح وتكوين علاقات جديدة بالأصح؛ فلماذا ومهما بلغنا من مهارات اجتماعية، نخسر علاقات كثيرة كلما مضينا قدمًا بأعمارنا؟ الإجابة الأقصر! لأن حالاتنا البشرية متغيرة ومتقلبة سواء من جهتنا نحن أم من جهة الآخر الذي نحاول التمسك به.
في كل مرة تقابل أحدًا ما، لن تكون حاملا ذات الأفكار والهموم أو حتى المشاعر، وهذا ما يجعلنا أو الآخر نرسم الكثير من الخيالات حول سبب تغير هذا الشخص، ربما غاضب مني، ربما لم يعد يحبني، ربما ازعجته، ونبدأ بوضع كلماته وجمله وحتى تنهيداته على طاولة التحقيق، نحاول أن نفكك كل جملة، وأن نحلل كل عبارة، ما يضعنا في موقف دفاعي جدًا يؤهلنا لتعكير صفو اللقاء، وقد نحمل تلك الأفكار معنا إلى البيت حتى السنة القادمة من التفكير، وقد يستحيل الأمر في أفضل الحالات إلى سوء ظن وتسرع في إطلاق الأحكام
ولا نكتفي بهذه الجريمة وحدها، بل حتى لا نبادر في مصارحة الآخر “ربما” حول المشكلة أو الأفكار التي تجول في رؤوسنا عمومًا، وهذا يترك فجوة كبيرة بين طرفي القضية، فالمصارحة مهمة، ولكن يجب أن يتم الباسها ثوب الهدوء والمودة.
الصدق فضيلة، ولكنه في العلاقات ليس كذلك دائمًا، فغالبا الصدق ليس بمنجاة فيها، بل أحد أكبر مدمريها. ولأننا لا نجيد أخبار كذبة محكمة، نفقد ثقة الآخر، وأحيانا ليس لأننا لا نخبر كذبة جيدة، بل لأننا ننسى الأكاذيب التي رتلناها، وبعد مدة طويلة يُفتضح أمرنا، فحبل الكذب أقصر من المسافة بين ألسنتنا وأسماعهم، لسنا بحاجة لأن نكون “كَذَبَة” إنما الأمر متوقف على الوضع الراهن والذي يحتم علينا أن نكذب، فقد يكون الكذب هو حبل النجاة الأخير الذي يجعل العلاقة متماسكة أكثر. قد يعترض البعض على هذه الفكرة ولكنني مؤمن أن العلاقات لا تنجو إلا بمس من كذب.
لا عيب أن نتمسك بعاداتنا وألا نخرج من قوالبنا، لكننا نبالغ أحيانا في ذلك، للدرجة التي نجعل من حولنا رهن تلك العادات والتصرفات، كأن نشترط شرب الماء في كوب زجاجي أزرق، أو نضع الجميع تحت رحمة التكييف الذي تشير لوحته للرقم 16 درجة مئوية! يمكنك بكل بساطة أن تجد أرضية مشتركة لكل شيء، فلست وحدك في تلك الغرفة، وليست المطابخ مجمعا تجاريا لتناسب ذوق شربك، فاوض في التكييف، واقبل ما يقدم لك، وراقب عاداتك وتذكر أن تجعلها في حدودٍ لا تضايق أحدًا منك أو من نفسه.
وكونك قد تنازلت لا يعني بالضرورة أن يشعرك ذلك بأنك أكثر من قدم التضحيات، فهذه هي علة العلاقات، أن جميع الأطراف تظن أنها قدمت ما لم يقدمه الآخر، أو قدمت أكبر التضحيات والتنازلات، وكأن الموضوع تحدٍ، وكأن القضية سباق، أنا فعلت وفعلت، نرددها وكأننا نتحسر على ما قدمناه، فنجعل الآخر يشعر بأن الأمر منّة وحتى نشعر أنفسنا بأن هذا هو أصل العلاقة، وأننا لم نقدم له من باب المودة أو الحب، إنما من باب التداين، قدم وسأرد لك، افعل وسأفعل لك، وهو ما اخرج العلاقات من سياق المودة إلى سياق أقرب ما يكون إلى المن منه إلى العتاب.
ولا نكف حتى نخوض غمار سباق آخر، فنحن وكأننا في مسابقة من سيخسر المليون، نستسهل التخلي عن علاقاتنا، لا نكلف أنفسنا إلا ما نظنه وسعها، فلو اجفل منا شخص أو غاب، فإننا نهمله ونتخلى عنه بسهولة. كنت أدردش مع أحد أقربائي قبل فترة طويلة عن الصداقات والعلاقات وكيف أنني استطعت الحفاظ على علاقاتي الأهم بكل السبل الممكنة، فحدثني عن صديق مقرب له، وكيف أنه وعده وبعد طول غياب بزيارته حين عاد من السفر، صديقه الذي بكى فراقه، لم يكن حاضرًا ابدًا في عدة زيارات خاطفة له. فقلت له: افعل ما ينبغي، اطمئن عليه، فلربما هنالك ما يضايقه في حياته الخاصة، وحين بادر قريبي بالتصرف، ما كان من صديقه إلا أن فتح قلبه وأخبره أنه يمر بظروف لا تطاق وأنه سيلتقيه ليفضفض له. نحن لا نعذر الناس، ولا نفترض حسن النوايا في الغياب، ونصغي دائمًا لأولئك الذين يرددون “ارحل عمن انشغل عنك” “لا تطارد من يتخلى عنك”، دون أن نضع كل شيء تحت المجهر، لنرى ما الذي يحدث، وكل ما نفعله أننا نبادر بالرحيل، فذلك يشعرنا بالرضى المؤقت والحسرة الطويلة، نرحل لأننا ببساطة نكتفي بسبب واحد للفراق، بينما لا يكفينا ألف سبب لنستعيد صديقا.
وآخر إشكالية وأهمها، أننا تحولنا لكائنات مادية، يهمها ما ستحصل عليه من الآخر أكثر مما عليها تقديمه، نهمل التفاصيل الصغيرة، كالاهتمام، والتقدير والحب والامتنان والشكر والمشاعر التي يكنها الآخرين، ننسى المساعدة و”الفزعة” حين يفشل الآخر في تلبية رغائبنا المادية، نتيه في دائرة “العشم” ورفع الآمال والتوقعات؛ فالأقرباء أو الآباء أو حتى الأصدقاء تجد بعضهم ينتظر من الآخر أن يقدم له شيئا ما مقابل صداقته، مقابل أبوته، مقابل قرابته، وكأن أساس العلاقات هو توزيع الماديات والأموال، ومن لا يقدم أو لايدفع مقابل العلاقة فهو غير مخلص لها. والمشكل يحصل لو كان لديهم قريب ثري، أو ربح اليانصيب، أو حظى على منصب رفيع، فالكل يأمل أن ينال حظا من ذلك الثراء أو تلك الجائزة أو هذا المنصب، كأن يهبهم سيارة، عقدا من الذهب، مبلغا مجزيا من المال، هم لا يطلبونه، هم يشعرون أن ع الآخر دائما المبادرة والنظر بعين العطاء تجاههم، الطرف الآخر لا ينظر للمعادلة دائما بنفس الشكل، لذلك يخسر الناس دون أن يدري ما المشكل، قد لا يراهم هو محتاجين له أو لثروته جائزته أو منصبه، فهذا ما يعكسونه في أحاديثهم، أما مكنوناتهم الشاعرة بالخذلان، فتحمل الكثير من الحزن والغضب والكراهية، التي تنخر جدار المودة حتى ينهار ويفصل بينهما. وأعتقد بأن من يربح اليانصيب سيخسر الجائزة وكذلك الناس.
هذه أهم الأسباب التي تفشل بسببها علاقاتنا وتفسد غالبا مودتنا، متى بدأنا في التخلص منها تباعا، عشنا مرتاحين مطمئنين متفائلين بعلاقات عظيمة نحكيها ونربيها في أبنائنا وأحفادنا. وتذكر أن العلاقات الاجتماعية تحتاج لصيانة مستمرة، وحسن ظن كبير، وتواصل ووضوح متصل.
انتهى المقال. بالأسفل قصة مرتبطة بالمقال لمن أراد أن يكمل المشوار.
حين كنت في الصف الخامس الابتدائي، اختصمت وصديق لي لا اذكر سبب الخلاف، امتنعت عن مرافقته للمدرسة، والجلوس معه في الفسحة ومشاغبته من خلال النافذة أثناء الحصة، وكل شيء تقريبا يصنعه الأصدقاء. بينما كان هو يلاحقني في الطريق، وينتظرني عند باب الفصل قبل الفسحة، وكل هذا وأنا متعصب للخصام متمسك به، وحين لم يجد مخرجًا، لم يرضى أن يعود بخفي حنين، بل عاد بأمه وطرق باب بيتنا، صدمت لرؤيته مع أمه، وهي تشكو خلافنا: يا أم طارق، لماذا يختصم أحمد وسلمان، سلمان يود الاعتذار ولكن أحمد لا يريد، أريدهما أصدقاء، ولا أريد لهما أن يختصما. كنت متجهما اطل من خلف أمي بغضب، حينها نادتني وقالت، هيا تصافحا وتصالحا أنتما صديقان جيدان. وحينها كما يقال “طاح الحطب” وعدنا صديقين حميمين جدا. هذه القصة لفتتني لأمر جعلني لا أنساها، وهو أن هذا الصديق فعل كل شيء، كل شيء للتمسك بالعلاقة وعدم خسارتها، رغم عنادي وتعصبي وحنقي، لم يستسلم، لم يستسهل خسارة صديق، لم يتردد في أن يحرج نفسه بجلب والدته للقيام بصلح الابتدائية. هكذا فقط يجب أن تحفظ العلاقات، بنفس البراءة، فالعلاقات أعظم قيمة من أن نبعثرها ونتهاون في افشالها.
بالفعل! شكرا جزيلا على هذا السرد الرائع. بعض الوقود للعقل كما يقال. لكنني اتسائل هل ما يزال سلمان صديقا مقربا الان؟
رائعة 👌