62209877_10157102768765446_9124442009266814976_n

 

نمضي نصف عمرنا بلا وجه واضحة ولا اتجاهات ثابتة، نعبث منذ طفولتنا بكل شيء، لنتخلص من الشعور بالرتابة، نجرب قدرتنا على التأثير على محيطنا منذ طفولتنا، تجد الطفل مبتهجًا بلعبة تصدر أصواتا كلما قام بتحريكها، أو لعبة ضوئية كلما قام بضغط أزرارها، هو سعيد لأنه ككائن صغير ومتواضع قادر على التأثير على محيطه، نكبر قليلًا ونبدأ في تكسير الأشياء بحثًا عن أسرارها، كيف تعمل، ما الذي بالداخل، ما الذي يجعلها تسير أو تطير أو تضيء. العالم يبدو كبيرًا جدًا والخيارات تبدو لا محدودة، ولكننا ورغم ذلك نشعر بالرتابة، فننزوي بحثًا عن محفزات جديدة نستكشفها ونطرد من خلالها هذا الشعور الذي يدعى الملل.

يقال ملّل فلان الشيء، أي قلبه، لذا فربما من وجهة نظري فإن مصدر الملل هو كثرة تقليب الشيء الذي يفضي للشعور بالضجر، نستطيع بذلك أن نقول باختصار أن الشعور بالملل هو الشعور بغياب محفز يجعل الدماغ منشغلا عن المحيط الرتيب والاعتيادي بشيء يضمن بقاءه يعمل بشكل صحي، ويحدث ذلك عندما تفقد اهتمامك بالعالم الخارجي أو حتى الداخلي لأفكارك،

غالبا عند الشعور بالملل فإن الإنسان يكون حبيس أفكاره وحسب، ولهذا يبدأ في البحث عن محفزات من محيطه، في تجربة قام بها صاحب قناة اليوتيوبVsauce   المدعو مايكل، قام بحبس نفسه في غرفة لمدة ثلاثة أيام، غرفة بيضاء جدًا، كل شيء فيها أبيض حتى قوارير المياه، لدراسة حال الإنسان حال عدم وجود أية محفزات خارجية.

يظهر في الفيديو جليًا الساعات الأولى تمر بشكل عادي، حيث يستطيع مايكل القيام بحساب الوقت وإيجاد كل ما في الغرفة محفزًا، فيبدأ بعد القوارير ومربعات الرخام، وبعد مرور الوقت، يفقد العقل اهتمامه بهذه الأشياء ويبدأ في البحث عن أي شيء آخر، وحين يفشل، يلجأ الدماغ إلى النوم حتى يحافظ على استقراره، الساعات الأولى تبين حاجة الدماغ بشدة للمحفزات.
كحال الأطفال، فالأطفال عندما يشعرون بالملل والضجر يبحثون عن متع جديدة واستكشافات مثيرة في المحيط، أو في نفس اللعبة التي كان يلعب بها، وهو ما يساعد الأطفال على النمو ويهبهم القدرة على الاكتشاف والابتكار، لذا فإن اللعبة الجديدة تفقد أهميتها، ويصبح مفتاح السيارة أكثر أهمية للطفل من تلك اللعبة.

عند الشعور بالملل، فإن أنشطة الدماغ تقل بنسبة 5% فقط، بينما تنشط في الدماغ الأجزاء الخاصة بالذاكرة الشخصية، وكذلك الخاصة باستيعاب أفكار ومشاعر الآخرين، وأخيرا الأجزاء الخاصة باستحضار الأحداث الافتراضية في الدماغ ( بمعنى آخر الأجزاء الخاصة بالخيال)، ولهذا تجد الشخص يراجع شريط حياته، ويفكر في وضعه وشخصيته، كيف يحسن من نفسه، يراجع علاقاته، ويحاول استعادة المواقف والقصص والأحداث التي عاشها. لكن إذا استمر الشعور بالملل ولم يحصل الدماغ على ما يكفي من محفزات (داخلية أو خارجية)، فإنه يدخل في حالة الهلوسة، والهلوسة هي محاولة الدماغ لاختلاق تصاوير ومحفزات غير موجودة، فتجد الشخص يتحدث مع شخص غير موجود، أو يرى ارواحا أو أشكالًا وشخصيات وهمية.

ولاستيعاب خطورة عدم إعطاء الطفل مساحة من المحفزات، فلنا في قصة جيني ويلي عظة وعبرة، فقد عمد والدها منذ طفولتها إلى  حبسها في غرفة خاوية إلا من سرير وكرسي، بل وعمد الأب على عدم التواصل مع جيني ابدًا وكان يضربها لو أصدرت أي صوت، ولم تكتشف الشرطة وجود هذه الطفلة إلا عندما بلغت سن الثالثة عشر، عانت الطفلة بسبب عدم وجود أي محفزات من توقف أجزاء من الدماغ عن النمو، مما جعلها تعاني من صعوبة في تعلم الكثير من المهارات، بل وكانت لديها سلوكيات مضطربة، كضرب رأسها في الجدار بلا سبب وهو ما يقودنا للفكرة التالية، وهي الألم كمحفز.

في تجربة قام بها علماء بوضع مجموعة من المتطوعين داخل غرفة لا تحوي أي شيء سوى طاولة وبوسطها زر، حال قمت بضغط الزر سيصعقك تيار كهربائي، طلبوا من المتطوعين الانتظار وأخبروهم عن الزر، والكل كان ينظر للزر بريبة، ولم يفكر أحدهم بالضغط عليه، وبعد أن طال وقت انتظارهم، بدأ المتطوعون الضغط على الزر بحثًا عن محفز خارجي عدى التحديق في الغرفة الفارغة التي هم فيها، وكان الشعور بالصعقة أفضل من الشعور بالملل، لذا ربما عمدت جيني للتخلص من الملل وإبقاء عقلها يعمل بشكل صحي إلى ضرب رأسها بالجدار بشكل مستمر.

كما أن انعدام المحفزات يشكل خطورة على الفرد فهو أحد أسباب الاكتئاب، وأحد أهم أسباب تعاطي المخدرات لدى المراهقين، فإن كثرة المحفزات تشكل أيضًا خطورة عليه، فكثرة المحفزات يعني أن عليك التنقل بين المهام والأشياء والأفكار بشكل متواصل ومستمر، وفي كل مرة تنقل انتباهك، فإن المخ يعمد إلى تغيير الوصلات الكيميائية داخل دماغك مستهلكًا كمية من الجلكوز في هذه القفزات. تشير الاحصائيات إلى أن متوسط تحويل انتباهنا من مهمة إلى أخرى هو مرة كل 45 ثانية، وأن متوسط تفقدنا للبريد هو 74 مرة كل يوم، وأخيرًا فإن معدل تنقلنا بين المهام هو 566 مرة خلال اليوم!

في تصويت للمتابعين في تويتر عن معدل الشعور بالملل، فإن ما يقارب 13% من المصوتين لا يراودهم الشعور بالملل إطلاقًا، وهو يعني أنهم منشغلين دائمًا، إما باستخدام التكنلوجيا أو مهام أخرى متنوعة يتنقلون بينها، بينما ما يقارب 50% يشعر بالملل أكثر من 6 مرات شهريًا، وهو ما يعكس أن الأغلبية العظمى يشعرون بالملل بمستويات مختلفة بالطبع، ولكن الإشكالية ليست في الشعور به ولا اختلاف مستوياته، بقدر كيف يستغل هؤلاء هذه المشاعر للمضي قدمًا وتحسين أنفسهم ومستقبلهم.

يقال الحاجة أم الاختراع، يتوقف الإنسان عن الاختراع حين لا يحتاج لذلك، فإن لم يشعر الإنسان بالملل، فكيف سيخلق شيئًا جديدًا للتسلية، إن لم يحتاج لأن يقف مع أفكاره وقفة جادة ليراجعها، كيف سيتأكد منها أو من خطأها، كيف يمكن أن يرى وضعه ويحسنه، وكيف سيفكر في مستقبل وهو منشغل بحاضره واللحظة التي يقضيها في زمن بات فيه من السهل الحصول على زر يبعد عنا الشعور بالملل، ولا يسبب أي صعقة كهربائية زر التحكم بالتلفاز، زر الفأرة وزر الهاتف، هذه الأزرار تخرجنا من الملل، إلى عوالم مستمرة من التسلية التي لا تنتهي، ولكن لا نعلم أبدًا أننا بهذه الطريقة نقتل أهم احتياجاتنا البشرية، حاجتنا للبقاء مع أفكارنا

إن حجم الترفية الكبير الذي وفره هذا العصر، حرمنا وأطفالنا القدرة على اختلاق الأفكار والإبداعات، لهذا قبل أن تشتم الملل وتبعده عن أطفالك وكأنه شبح عن طريق ألعاب الفيديو والألواح الذكية (التابلت) والتلفاز، تذكر أنك تقتل شيئًا قبل مولده، وقبل أن تخرج هاتفك أثناء نزهتك تذكر المشهد الملهم الذي أمامك، والذي تركته آلاف المرات دون أن يخرجك من الداخل أو يدخل إليك من الخارج، لأن الملل جميل ونبيل، يقول الفيلسوف الإيطالي جاكومو ليوباردي في نص رسالته لوالده: الملل من أسمى المشاعر الإنسانية إطلاقًا، فهو يعكس حقيقة أن روح الإنسان بمعنى ما أكبر من الكون برمته، الملل تعبير عن يأس عميق، وعدم العثور على أي شيء يمكن أن يشبع حاجات الروح غير المحدودة.

عطش لزخاتكم

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s