كانت تحدق عبر نافذة الغرفة البيضاء التي تقبع فيها ممددة على فراش هو الآخر أبيضٌ جدًا، ورغم كل هذا السطوع إلا أن السواد يحيق بكل شيء حولها، فلا تتبدى لها سوى العتمة التي تعيشها، تلك التي ينزف ظلمتها كل الأوجاع التي تتخطف سكونها، والذكريات التي لا تنفك تتكرر بلا توقف كأسطوانة مشروخة تعيد نفسها مرارًا مرًا.
الألم لا يغادر جسدها ورائحة فمه النتنة لم تغادر أنفها وطعم الحزن يعبر حلقها كغصة لا تنتهي، تتحسس أسفل بطنها، تجهش في البكاء، فكل شيء أبعد من أن يكون مجرد حلم، فهو أقبح وأبشع حقيقة قد يعيشها إنسان. فقدت من شدة النحيب واختناق الفرح في صدرها، لم تقوى على التنفس، وغلبتها بشاعة الواقع. أيقظتها يد تكمم فمها همس صاحبها “هششش.. أنا هنا لمساعدتك” كان ذلك بعد ميلاد الدهشة والخوف والرغبة في الصراخ التي اجتاحتها، ثم أردف يقول “سمعت قصتك، وسمعت بكاءك، وأصغيت لحزنك، وما جرني إليك سوى أمانيك الصامتة التي تيممت بها طوال اليومين الماضيين، سأحرر يدي رويدًا، فهل لك ألّا تصرخي؟ لم تستطع تمالك نفسها فصرخت ما أن أرخى كفه، فأعادها من حيث كانت.
تنهد وقال: يبدو أننا سنكمل حوارنا بهذا الشكل، إسمي انكسار، أنا هنا حتى أحررك، ولكن لأفعل ذلك، لدي فقط خياران يمكنني مساعدتك بهما، عليك أن تختاري أحدهما، هزي رأسك إن كنت تريدين معرفة خياراتك. هزت رأسها وقلبها يخفق بقوة، فهذا المشهد يعيدها للقاع الذي خرجت منه للتو. ابتسم وعقب: خيارك الأول أن تفقدي ذاكرة ذلك اليوم كليًا وكأنه لم يحدث، لكن آثاره ستبقى على جسدك كما هي الآن. أما خيارك الثاني فهو أن يشفى جسدك كاملًا ولكن ذاكرتك ستبقى حاضرة، كألم في الخاصرة لا يمكنك الفكاك منه. كنت أتمنى لو كان بإمكاني أن أفعل أكثر، ولكن هذا أقصى ما يمكنه فعله لأجلك. لا أريد إجابة مستعجلة، خذي وقتك لتفكري، أما الآن فأريدك أن تغمضي عينك قليلًا، انصاعت له مباشرة لشدة خوفها، وحين فتحت عينها لم تجده، ولم تجد له أي أثر، كأنه حلم، أو نسمة هواء انسلت من نافذة وتلاشت.
انفجرت باكية، فهرعت الممرضة إلى غرفتها لتعرف ما الخطب، وقفت تسألها ما خطبها، ولكنها لم تستطع النطق بكلمة واحدة، وبقيت على حالها حتى غادرتها الممرضة وبعدها جرّها النوم إليه. استيقظت في منتصف الليل فرأته في حلته البيضاء ذاتها، شابٌ وسيم في مقتبل الثلاثين، يرتدي قبعة ناصعة البياض، كشف عن طقم من اللؤلؤ مختبئ خلف شفتيه النضرتين، وعينان زرقاوان، وذن بني اللون. قال لها: هل اخترت؟ هزت رأسها نافية تجيب عن سؤاله، ولكنها كانت أقل خوفًا منه.
وضع سبابته على شفاهه بينما ابهامه جلس على ذقنه، أخذ يحدق من خلال عينيها ثم قال: أعل أنكِ قد لا تثقين بي، فما يدريك أنني قد لا أفعل ما فعله بك ذلك المجرم الحقير. لن استعجل قرارك فالخيارات صعبة كما قلت لك، سأزورك لاحقًا لأطمئن عليك، ومن ثم سنرى إن كنت ستزاولين هذا الصمت الحزين طويلًا. أغمضي عينيك مرة أخرى، حاولت ألا تفعل لتجد نفسها وكأنها قد أفاقت للتو وقد اختفى ذو السترة البيضاء. حاولت أن تفهم ما الذي حدث، كيف تعثرت بالنوم دون أن تشعر، فخمنت أن كل ذلك لم يكن سوى حلم دفنته في وسادتها.
عادت أمها صباحًا وقد احضرت لها حاجياتها وطعاما كانت قد أعدته لها، وأخذت تعتذر لأنها لم تبت تلك الليلة معها. لكنها كانت شاردة الذهن، تحدق في العدم كعادتها. مر يومان وهي تنتظر ظهوره، ولكن دون جدوى، لم يعد يزورها، شعور كان يساورها ويخبرها أنه ليس مجرد حلم عابر. نظرت نحو أمها وقالت: أمي، هل لك أن أبقى اليوم وحدي. وبعد كثير من الإلحاح والإصرار وافقت أمها على مضض.
حل المساء وحل اليأس ضيفًا ثقيلا عليه، أغمضت عينيها ورموشها تعلن الحداد على آخر أضواء الأمل برؤيته، ولكنها فتحت عينيها بسرعة ليتراءى لها واقفا عند طرف السرير. حاولت الاعتدال في جلستها ولكن دون جدوى، فأخذت تهذب شعرها، بينما جلس هو من حيث كان واقفا. ابتسم وهو يسألها: هل اخترتِ. هزت رأسها وابتسامة في وجهها. ثم فرقت بين ضفتي نهرها، كانت تحاول أن تبوح بشيء، لكن دون جدوى. ودون أن تفارق تلك الابتسامة وجهه قال: أعلم ما الذي تريدين أن تسألي عنه، تريدين أن تعرفي من أنا! صحيح؟ هزت رأسها مسرورة. قال: ليس الآن لاحقًا. ثم أردف يقول: ها، ماذا اخترت، النسيان أم الشفاء التام؟ أشارت بسبابتها لتجيبه. هز رأسه ثم أطرق لبرهة، وقال: اتفهم ذلك، وقد توقعته منذ أن انجبتني محنتك. لا بأس، لك ذلك. اقترب منها ببطء، وضع كفه على رأسها وقال: غدا تنسين كل شيء، كأن شيء لم تريه أو تسمعي به. غلبها النعاس فجأة، حاولت مقاومة ذلك، كانت تقاوم لأنها تملك الكثير من الأسئلة التي تريد أن تسأله عنها، ولكن محاولتها اليتيمة تلك باءت بالفشل.
استيقظت في اليوم التالي، كان البياض يخيم على كل شيء، “هذه ليست غرفتي” كانت تلك أول خاطرة راودتها، قفزت برأسها من وسادتها لتجتاحها الكثير من الآلام المتفرقة. حاولت تحريك قدمها ولكن دون جدوى فقد كان عليها لف طبي، تحسست وجهها بعد أن لمحت لونا أبيض تحت عينها، الكثير من الضمادات كما يبدو، حاولت أن تستوعب ما الذي يجري، أصيبت بنوبة هلع، أخذت تصرخ، وأخذ جسدها يرتجف بشكل لم تعد مه تقوى على الحركة بتاتًا، هرع الأطباء نحوها، وكان الحل الوحيد أبرة مهدئة وكثير من محاولات التطمين والتودد من الممرضات.
دخلت والدتها غرفتها، وما أن رأتها حتى أجهشت بالبكاء وسبقتها بالأسئلة: ما الذي يحدث، لم أنا هنا وهكذا، ما سبب كل تلك الآلام التي أشعر بها أسفل بطني، ما الذي حدث لي أرجوك أخبريني أمي. كانت والدتها في صدمة ممتزجة بحيرة مفرطة، ظنت كأول تخمين راودها أن أبنتها تدّعي النسيان، ولكن حين رأت نظرة الهلع التي تعتريها، أدركت أن هنالك خطب ما. ابتسمت وقالت لها: حادث مروري ولم تزد على تلك الكلمات أي شيء وخرجت مسرعة نحو الممرضات تطلب مقابلة الطبيب.
عادت برفقته وقد أطلعته على ما حدث، أخذ الطبيب يقيس درجة حرارتها وفحوصات اعتيادية أخرى، ثم وجه لها عد أسئلة حول آخر ما تذكره. لاحظ الطبيب أنها لا تذكر شيئًا يخص حادث الاعتداء الذي تعرضت له، لا شيء من الرعب الذي مرت به، ولا شيء من الوحشية التي وسّمت جسدها وعلقت في ذاكرتها، حسب التقارير الطبية أن المجرم لم يكتفي باغتصابها، بل وأقحم أداة حادة أسفل جسدها بعد أن دنسه بجسده القذر. كل تلك الجروح والندوب والنزيف نسيته وكأن لم يكن. كان الطبيب يعيش لحظة ذهول، طلب أشعة مقطعية لرأسها فلربما هنالك إصابة في رأسها تسببت في هذا النسيان، ولكن عادت النتائج سلبية، لا يوجد أضرار في الأجزاء الخاصة بالذاكرة.
دون الطبيب ملاحظاته، وأخبر والدتها بالآتي: سيدتي، يبدو أن ابنتك فقدت ذاكرتها نتيجة للصدمة التي مرت بها بعد الاعتداء الوحشي الذي مرت به، نادرًا ما يحدث هذا الأمر، في محاولة من العقل لتجاوز المحنة. سأطلع الطبيب المناوب بذلك، فقد انتهت نوبتي، وأرى من الأفضل ألا تخبروها بحقيقة الأمر فقد يساعدها ذلك على تجاوز المحنة، وسنبقيها تحت الملاحظة فربما هو غياب مؤقت للذاكرة.
خرج الطبيب ليدخل بعد برهة الطبيب المناوب، امسك بملفات المرضى وقد عاين الجناح كاملًا حتى وصل إليها، أمسك الملف وهو ينظر إليها، نظرت إليه وقد خفق قلبها بشدة، رأت فيه شيئًا جعلها تشعر لوهلة أنها تعرفه، ابتسامة لؤلؤية، ذقن بني، وعينان زرقاوان كسماء ذلك اليوم الذي ابتسمت فيه لأول مرة منذ استيقظت في المستشفى.