أولئك المنشغلون بالحياة ومتعها محظوظون جدًا، فهم بعيدون جدًا عن البحث في أكبر معضلة بشرية تطاردنا؛ أن نحاول أن نفهم من نحن. هم بكل بساطة منشغلين بالحياة للحد الذي يفقدون اتصالهم الحقيقي بأنفسهم، إلى الحد الذي يعتقدون أنهم يفهمون أنفسهم جيدًا. ولكن في الجانب الآخر، هم لا يفهمون من سيكونونه غدًا، فهم بذلك يعانون من نصف المشكلة.
من الحماقة بمكان الاعتقاد بأنك في يوم ما ستعرف جيدًا من أنت، لأن هذه رحلة أزلية لا نهاية لها، تجد فيها الأسئلة التي لا يوزع عليك الوقت إجابتها. وما يرهق في هذه الرحلة أنك تنظر إلى المرآة ولا تعرف تحديدا من ذلك الوجه الذي يحدق بك، هل هو ذلك المخادع الذي يجيد الحديث، ذلك الماهر في ارتداء الأقنعة بحسب الزمان والمكان، أم ذلك النرجسي الذي يرى نفسه الأفضل وأن العالم كله تحت ساقيه، أم ذلك العاشق الغارق في الحب حد الكتمان، أم هو ذلك الضعيف الذي يجعل الآخرين يملون عليه ما يفعله، فهو لا يجيد فعل شيء سوى محاولة إرضاء الآخرين عنه.
ولا تقف الأسئلة هنا، فهذه مقدمتها فقط، فأنت تفتح كل الصناديق التي حولك لتسأل عن احلك أفكارك، ما الذي حققته وما الذي أصبحت عليه، هل استحقه أم كل هذا نتاج أكاذيب نسجتها لأقنع الآخرين بأنني جيدٌ كفاية. كيف سأكون وما الذي سأكونه غدًا، هل عليَّ تصنع الرضا. ما الذي أحاول الهرب منه؟ هل يمكنني الاحتفال بهذا الإنجاز؟ هل أنا وحيد وكل من أعرفهم مجرد أرقام امر من خلالها دون مبالاة. متى سأموت وكيف ستبدو الأماكن والقلوب من بعد رحيلي! هل سيفتقدني الناس أم كل تلك مجرد مشاعر عابر ستتلاشى مع احتضار آخر دموع الفقد وآخر تلاويح الوداع.
كل الإجابات التي نختلقها لا تصلح لأن تملأنا؛ فهي غير مقنعة، وإلا لما عدنا إلى المرآة نراها وترانا، ونهرب منها فترانا ونتصنع عدم رؤيتنا لها مرارًا وتكرارًا.
الهروب المستمر من هذه الأسئلة من خلال التفكير في أمور أخرى مثل الألعاب والمسلسلات، الطبخ والعمل الكثيرلا يجدي نفعًا، بل سيفضي بك إلى القاع، القاع نفسه سيحملك إليه عدم حصولك لى وقتٍ كافٍ من الانشغال، سواء بهواية، وظيفة أو تعليم؛ حتى جلوسك في المكتب بلا وجهة محددة يجرك ببطء نحو ذات القاع؛ لذلك تحتاج إلى توازن مستمر بين احتياجاتك، وانشغالاتك والجلوس مع انعكاسك.
احتياجك للإيمان، للأكل والشرب، والعلاقات. وانشغالاتك بالمشاريع، بالوظيفة أو حتى بالهواية، واخيرًا التأمل في ذاتك للتفكير في إجابات أفضل وفهم لجوانبك التي تتغافل عنها. وكأننا نقول، ثلث لاحتياجاتك، وثلث لانشغالاتك، وثلث لنفسك.
أن تهمل أو تتخلى عن إحداها وتعول على الباقي قد يكون له عواقب مكلفة، لينتهي بك ذلك إلى مربع واحد. قد يتطلب الأمر منك عدة أسابيع أو شهور حتى تدرك أجزاء مهمة تخطو بك نحو تصحيح مسارك وفهم جزء من ذاتك، تتعلم كيف تتخذ قراراتك، كيف تباشر الأعمال التي اهملتها، كيف تنهي مشروعك، كيف تسعى لأهدافك.
حين تنظر لنفسك في المرآة فإن ما قد تستطيع فهمه هو من/ما كنت عليه في الماضي، لكن أكبر مشكلة قد تقع فيها هي أن وجوها أخرى قد تتبدى لك في المرآة، أخوك الذي تظنه أحظى منك، زميلك الذي تعتقد بأنه أفضل منك، صديقك الذي تراه أسعد منك، وجارك الذي تتخيل أنه اشد ثراء منك. تأملك في هذه الوجوه طويلًا سيكون أكبر خنجر تغرزه في عزيمتك، وسببًا في بعثرة قطع الأحجية الناقصة اصلًا والتي تفسر جزءًا منك؛ لذلك من الأفضل أن تمسح المرآة جيدًا ولا تترك سوى انعكاسين لك، انعكاسك الذي تعتقد أنه أنت الآن، والآخر ما كنت عليه في الماضي.
في تلك المرحلة قد تجد أن أحد أسباب عدم ادراكك هو أنك لا تحمل أهدافا، أو لأنك تتجاهل مهاما كثيرة خشية ألا تجيد انهائها، كرواية لم تكتب، كتقرير لم تبدأه، تخشى من ذلك الظلام الذي يتخلل ملفات ومستندات عملك، أو ذلك البياض الذي تعكسه صفحاتك البيضاء الخاوية. أغلبنا يحمل مهمات يخشى القيام بها ويمكنه أن يسير إلى نهاية العالم قبل أن يباشرها، كله بدافع الخوف من الفشل، وهو ما يجعل الكائن المسوف يتعاظم بداخلنا، فنهرب إلى التلفاز والهاتف وألعاب الفيديو وحتى سقف الغرفة، فقط أي وسيلة للهرب من ذلك الألم الذي بين مهامنا المؤجلة.
كل شيء يحتاج إلى خطوات صغيرة، السيارة لا تصل إلى مائة ميل في الساعة إلا من خلال حركة الترس الصغير لناقل الحركة، وهو بدوره ينقله إلى ترس أكبر ثم اكبر حتى تصل لسرعتك المطلوبة. دعني أبدأ بكتابة سطر أو بالجري لخمس دقائق أو قراءة سطرين في اليوم، أي خطوة صغيرة؛ فهذا يعيد الحياة لنا. فبدون تحريكك لترسك الصغير، لن تمضي قدمًا لتصنع شيئًا كبيرًا يساعدك في فهم ذاتك وتغيير حياتك.
عندما تنظر إلى حياتك ومحيطك انظر كما تفعل الأفاعي، فهي تنظر بدون ردود أفعال عاطفية، فقط انظر بدون أن تفكر في رغباتك، طموحاتك، فيما تريده لنفسك وما تحلم به، إنما قراءة الوقائع وتحليلها وتفكيكها وتجريدها من تعقيداتها العاطفية ومؤثراتها النفسية، لتنظر لنفسك وكأنك لا تعرفها، لأنها البداية التي توصلك إلى فهم نفسك على أقل تقدير، وليست معرفتها، وقم بتحدي نفسك لترى كيف تدفع نفسك لمكان أبعد من الذي وصلت إليه، هذا يمنحك القدرة على تجاوز عجزك وانهزاميتك ويرفع معنوياتك لتحدي المرحلة؛ لتخطو لما بعدها.
يمكنك النظر إلى هذا التحدي على أنه مغامرة ما، ستشعر بشيء من العزلة، بكثير من الغرابة والوحدة لأنك معتقل في تلك المحاولات المستمرة في فهم نفسك، ولكنها رغم كل ذلك الطريقة الوحيدة لتشعر بأنك موجود، بأنك على قيد الحياة، وبأن لحياتك معنى.