هل تعرف من أنت؟

96138681_10158123381220446_5668718108953542656_o

أولئك المنشغلون بالحياة ومتعها محظوظون جدًا، فهم بعيدون جدًا عن البحث في أكبر معضلة بشرية تطاردنا؛ أن نحاول أن نفهم من نحن. هم بكل بساطة منشغلين بالحياة للحد الذي يفقدون اتصالهم الحقيقي بأنفسهم، إلى الحد الذي يعتقدون أنهم يفهمون أنفسهم جيدًا. ولكن في الجانب الآخر، هم لا يفهمون من سيكونونه غدًا، فهم بذلك يعانون من نصف المشكلة.

من الحماقة بمكان الاعتقاد بأنك في يوم ما ستعرف جيدًا من أنت، لأن هذه رحلة أزلية لا نهاية لها، تجد فيها الأسئلة التي لا يوزع عليك الوقت إجابتها. وما يرهق في هذه الرحلة أنك تنظر إلى المرآة ولا تعرف تحديدا من ذلك الوجه الذي يحدق بك، هل هو ذلك المخادع الذي يجيد الحديث، ذلك الماهر في ارتداء الأقنعة بحسب الزمان والمكان، أم ذلك النرجسي الذي يرى نفسه الأفضل وأن العالم كله تحت ساقيه، أم ذلك العاشق الغارق في الحب حد الكتمان، أم هو ذلك الضعيف الذي يجعل الآخرين يملون عليه ما يفعله، فهو لا يجيد فعل شيء سوى محاولة إرضاء الآخرين عنه.

ولا تقف الأسئلة هنا، فهذه مقدمتها فقط، فأنت تفتح كل الصناديق التي حولك لتسأل عن احلك أفكارك، ما الذي حققته وما الذي أصبحت عليه، هل استحقه أم كل هذا نتاج أكاذيب نسجتها لأقنع الآخرين بأنني جيدٌ كفاية. كيف سأكون وما الذي سأكونه غدًا، هل عليَّ تصنع الرضا. ما الذي أحاول الهرب منه؟ هل يمكنني الاحتفال بهذا الإنجاز؟ هل أنا وحيد وكل من أعرفهم مجرد أرقام امر من خلالها دون مبالاة. متى سأموت وكيف ستبدو الأماكن والقلوب من بعد رحيلي! هل سيفتقدني الناس أم كل تلك مجرد مشاعر عابر ستتلاشى مع احتضار آخر دموع الفقد وآخر تلاويح الوداع.

كل الإجابات التي نختلقها لا تصلح لأن تملأنا؛ فهي غير مقنعة، وإلا لما عدنا إلى المرآة نراها وترانا، ونهرب منها فترانا ونتصنع عدم رؤيتنا لها مرارًا وتكرارًا.

الهروب المستمر من هذه الأسئلة من خلال التفكير في أمور أخرى مثل الألعاب والمسلسلات، الطبخ والعمل الكثيرلا يجدي نفعًا، بل سيفضي بك إلى القاع، القاع نفسه سيحملك إليه عدم حصولك لى وقتٍ كافٍ من الانشغال، سواء بهواية، وظيفة أو تعليم؛ حتى جلوسك في المكتب بلا وجهة محددة يجرك ببطء نحو ذات القاع؛ لذلك تحتاج إلى توازن مستمر بين احتياجاتك، وانشغالاتك والجلوس مع انعكاسك.

احتياجك للإيمان، للأكل والشرب، والعلاقات. وانشغالاتك بالمشاريع، بالوظيفة أو حتى بالهواية، واخيرًا التأمل في ذاتك للتفكير في إجابات أفضل وفهم لجوانبك التي تتغافل عنها. وكأننا نقول، ثلث لاحتياجاتك، وثلث لانشغالاتك، وثلث لنفسك.

أن تهمل أو تتخلى عن إحداها وتعول على الباقي قد يكون له عواقب مكلفة، لينتهي بك ذلك إلى مربع واحد. قد يتطلب الأمر منك عدة أسابيع أو شهور حتى تدرك أجزاء مهمة تخطو بك نحو تصحيح مسارك وفهم جزء من ذاتك، تتعلم كيف تتخذ قراراتك، كيف تباشر الأعمال التي اهملتها، كيف تنهي مشروعك، كيف تسعى لأهدافك.

حين تنظر لنفسك في المرآة فإن ما قد تستطيع فهمه هو من/ما كنت عليه في الماضي، لكن أكبر مشكلة قد تقع فيها هي أن وجوها أخرى قد تتبدى لك في المرآة، أخوك الذي تظنه أحظى منك، زميلك الذي تعتقد بأنه أفضل منك، صديقك الذي تراه أسعد منك، وجارك الذي تتخيل أنه اشد ثراء منك. تأملك في هذه الوجوه طويلًا سيكون أكبر خنجر تغرزه في عزيمتك، وسببًا في بعثرة قطع الأحجية الناقصة اصلًا والتي تفسر جزءًا منك؛ لذلك من الأفضل أن تمسح المرآة جيدًا ولا تترك سوى انعكاسين لك، انعكاسك الذي تعتقد أنه أنت الآن، والآخر ما كنت عليه في الماضي.

في تلك المرحلة قد تجد أن أحد أسباب عدم ادراكك هو أنك لا تحمل أهدافا، أو لأنك تتجاهل مهاما كثيرة خشية ألا تجيد انهائها، كرواية لم تكتب، كتقرير لم تبدأه، تخشى من ذلك الظلام الذي يتخلل ملفات ومستندات عملك، أو ذلك البياض الذي تعكسه صفحاتك البيضاء الخاوية. أغلبنا يحمل مهمات يخشى القيام بها ويمكنه أن يسير إلى نهاية العالم قبل أن يباشرها، كله بدافع الخوف من الفشل، وهو ما يجعل الكائن المسوف يتعاظم بداخلنا، فنهرب إلى التلفاز والهاتف وألعاب الفيديو وحتى سقف الغرفة، فقط أي وسيلة للهرب من ذلك الألم الذي بين مهامنا المؤجلة.

كل شيء يحتاج إلى خطوات صغيرة، السيارة لا تصل إلى مائة ميل في الساعة إلا من خلال حركة الترس الصغير لناقل الحركة، وهو بدوره ينقله إلى ترس أكبر ثم اكبر حتى تصل لسرعتك المطلوبة. دعني أبدأ بكتابة سطر أو بالجري لخمس دقائق أو قراءة سطرين في اليوم، أي خطوة صغيرة؛ فهذا يعيد الحياة لنا. فبدون تحريكك لترسك الصغير، لن تمضي قدمًا لتصنع شيئًا كبيرًا يساعدك في فهم ذاتك وتغيير حياتك.

عندما تنظر إلى حياتك ومحيطك انظر كما تفعل الأفاعي، فهي تنظر بدون ردود أفعال عاطفية، فقط انظر بدون أن تفكر في رغباتك، طموحاتك، فيما تريده لنفسك وما تحلم به، إنما قراءة الوقائع وتحليلها وتفكيكها وتجريدها من تعقيداتها العاطفية ومؤثراتها النفسية، لتنظر لنفسك وكأنك لا تعرفها، لأنها البداية التي توصلك إلى فهم نفسك على أقل تقدير، وليست معرفتها، وقم بتحدي نفسك لترى كيف تدفع نفسك لمكان أبعد من الذي وصلت إليه، هذا يمنحك القدرة على تجاوز عجزك وانهزاميتك ويرفع معنوياتك لتحدي المرحلة؛ لتخطو لما بعدها.

يمكنك النظر إلى هذا التحدي على أنه مغامرة ما، ستشعر بشيء من العزلة، بكثير من الغرابة والوحدة لأنك معتقل في تلك المحاولات المستمرة في فهم نفسك، ولكنها رغم كل ذلك الطريقة الوحيدة لتشعر بأنك موجود، بأنك على قيد الحياة، وبأن لحياتك معنى.

يمكننا أن نتعلم الحب !

 

DSC_6839-42

تعلم الحب ليس صعبًا ولا حتى مستحيلا، ولكنه أمرٌ مركب للغاية، بحاجة للكثير من المحاولات والصبر على الآخر، للكثير من التجاوزات والمغفرة وحسن الظن، ويحتاج أيضًا إلى قليل من التنازلات والتضحيات والإيثار، ومحاولة النظر للآخر على أن العالم لا يدور إلا حوله ومن أجله. نعم أعلم أنها كلها بديهيات لا تحتاج لأن يخبرك بها شخص متواضع مثلي، فلماذا يصعب علينا فعل كل ذلك؟ هيا بنا نبدأ من نقطة الصفر.

السؤال الذي يتبادر دائمًا هل نحن بحاجة لأن نكون على معرفة سابقة بالطرف الآخر لضمان نجاح العلاقة؟ لن أقول نعم ولا كلا، فلكل قصة أسباب نجاح، الأخذ بها هو السبيل لاستقرار العلاقة. لكن خذ على سبيل المثال لا الحصر علاقتك بطفلك، من العجيب أننا نحب أطفالنا ونحن نلتقيهم للتو، لم نتعرف عليهم من قبل، ولم نجالسهم ولم نتفق معهم ولم نتواصل حتى نخلق علاقة قوية بيننا وبينهم، وكلما كبر الطفل زاد حبنا غير المشروط به. فلماذا إذا نشترط المعرفة السابقة في الزواج للوقوع في الحب قبل الزواج حتى نستطيع أن نحب شخصًا جديدًا، عوضًا عن الظروف التي تجعلنا نحب الآخر، كالقواسم المشتركة والاتفاق والتفاهم والتواصل والمشاركة والاستكشاف.

نعم يجب أن يتأكد الطرفان من قبولهما للآخر، بلا مجاملات وبكل شفافية، ولا تقل لي “ارتحت له” فهذا لا يعد سوى الانطباع الأول، ولا تخبرني أبدًا أنك “تعرفه جيدًا” فحتى ذلك الذي تعرفه جيدًا قد يفاجئك بما لا يمكنك تصوره. ولا تقل لي سأصلى استخارة، فهذه لا تفعلها إلا بعد أن يطمئن قلبك، ويهرول سمعك خلف سمعة الآخر، ويشاور عقلك من حولك ممن تثق به. ثم وبعد أن حزمت أمتعتك، واتخذت قرار وجهتك، يسعك أن تصلي وتستخير وتدعو بما تشاء.

هنالك فرق بين الحب والشاعرية (الرومانسية) الحب شعور مركب لا يمكن ترجمته فقط بمجرد كلمات وحروف تصف على نوتة معزوفة هادئة، الحب تصرفات وردود أفعال ومشاعر مختلفة تتخلق وتتشكل وتتقلب، مستقرها ما بين القلب والعقل، يترجمها اللسان والعينان، وغالبًا كل الجوارح.

الحب ليس يوم الحب، ولا علاقة جسدية عابرة، ولا كلمات عاطفية مستهلكة. الحب يحتوي الرومانسية ولكن الرومانسية وحدها لا تحتوي الحب، إذا الرومانسية جزء من الحب وليست الحب. لذا حين تجد علاقة بنيت على الشاعرية وحدها، فإنك ستلاحظ كيف تتلاشى رويدًا حتى تختفي ولا يبقى منها سوى جروح واغرة، وأحزان لا تمحوها سوى الأيام.

الحب هو تلك التفاصيل التي قد لا تراها، الغداء الذي تتناولانه سويا وأنتما تستعيدان الذكريات، الفلم الذي تناقشانه، اللعبة التي يريد كل منكما أن يكون الفائز فيها، الحب أن يغطي أحدكما الآخر حين يغفو فجأة، الحب هو الإفطار الذي يعده من يستيقظ أولًا، الحب هو انعكاس ابتساماتكما في كوب القهوة، الحب هو المساحة  التي تمنحانها لبعض مهما طالت، الحب هو الخوف من فقدان الآخر، والشعور بأنه جزء مهم من تفاصيلك، الحب هو المساهمة في ترتيب البيت، وإعداد سرير النوم، الحب أن تقتسما الحلوى واللقمة الأخيرة، الحب أن تخفي حاجتك الملحة للنوم وتعبك العظيم من أجل أن تصنع شيئًا للآخر. الحب أن تزيل شيئًا عالقًا في ثيابه أو تنبهه لشيء لم ينتبه له فتكون مرآته وانعكاسا وانعكاسا لحاجته بأن يكون أنيقًا أمام الآخرين. يمكن لكل شيء اعتيادي أن يكون تعبيرًا مثاليًا عن الحب ولكن لأننا ننظر إلى الضفة الأخرى الأكثر اخضرارًا، لا نرى ما هو جاثم أمامنا.

في العلاقة بين الرجل والمرأة، تجد الطرفان مستعجلان جدًا، هم يريدون من الآخر أن يفهمهم بدون كلام، وهذا ما نمى في عقلنا اللاوعي، فالطفل يحظى بالرعاية دون أن يطلبها، يجاهد أهله في محاولة فهم احتياجاته دون أن يتحدث عنها، يبدلون حفاظاته حين تتسخ، يطعمونه حين يشعر بالجوع، يحملونه حين يحتاج للاهتمام، يهيئون له بيئة مريحة ليخلد للنوم، وحين يحتاج لحمام دافئ يوفرونه، وكل ذلك دون أن ينطق بكلمة واحدة؛ فهما يسعيان جاهدًا لفهم احتياجاته. كبر هذا الشعور فينا حتى أصبح لزامًا على الآخر فهمنا وإن لم يفعل، فكل التأويلات تنصب في “هو لا يهتم، إذا هو لا يحبني”. لذا تذكر، أنك حتى تُفهم، يجب أن تتحدث وتعبر فلم يخلق الله لك لسانا عبثًا، ولا تعتقد أن الآخر ساحر يمكنه قراءة الطالع والأفكار والكف. حتى يمكن للآخر أن يعتذر، أن يبرر أن يلبي أن يُقَبِل، أن يحتوي، عليه أن يسمع ويتفاعل ويلمس ويصغي ويتعاطف، فامنح الآخر قدرة الساحر من خلال التواصل معه.

من السهل رؤية محاسن الشخصية التي أمامنا، ومن الصعب اكتشاف عيوبها عن بعد، فنحن نرتدي أقنعة كثيرة لا نزيلها إلا عند عتبة الباب، هنا خلف الأبواب المؤصدة، تتضح معالمنا الحقيقية، تلك المعالم التي قد تصدم العالم، وتجعله أحيانا يكرهنا، أو هكذا نشعر على أقل تقدير، لذلك نخفيها. يمكننا ان نحب الجمال والجميل، ولكن من الصعب علينا أن نقبل العيوب في الآخر، لهذا، في الزواج؛ فإن أصعب فترة قد يمر فيها الطرفان هي سنوات الزواج الأولى، حيث تتكشف كل الأقنعة. المشكلة ليست في العيوب، بقدر تعاملنا معها، فنحن نتعامل معها على أنها مشكلة كبيرة يجب أن نجد لها حلًا بأسرع وقت ممكن، لهذا نجد أنفسنا في معارك يومية مع الآخر في محاولة تغييره، وعندما نجد أنها مسؤولية كبيرة، نقرر الانفصال. التغيير شيء يحتاج للكثير من الوقت الذي يشعر الطرفان أحيانا أنهما لا يملكانه، على عكس المدرس، فهو ليس لديه سباق مع الوقت في تعليم الطالب حتى ينجح، فإن فشل الطالب فهنالك سنة ثانية وثالثة، بينما في العلاقة الزوجية نريد نتائج فورية وسريعة يمكن ملاحظتها، رغم قناعتنا الشخصية أن التغيير شيء لا يحدث فجأة وبسرعة، لذا حين يحتد النقاش ونتوتر ونصرخ ونتشاجر حتى على مكان الجوارب المتسخة.

قنوات التواصل الاجتماعي نقشت شكلًا جديدًا من الحب لا يمكن تطبيقه على أرض الواقع، روجت للحب على أنه تلك اللحظة الشاعرية التي لا تنتهي ولا تتغير ولا تتبدل ولا تُمل. فاللحظة التي تختزلها صورة، تبقى في عقلنا الباطن أكثر مما ينبغي، فتجعل الآخرين يبدون أكثر سعادة، وأشد حبًا، وأعظم رومانسية، إنها لتبقى للدرجة التي يصبح بإمكانها محو كل لحظاتك السعيدة وتجعلها تبدو بلا قيمة. من الطبيعي أن يضع أحدهم لحظاته السعيدة، والسعيدة فقط، من يريد أن يكون ضعيفًا أو حزينًا أو وحيدًا أمام الآخرين! يمكن لزوجين أن يظهرا للعالم أجمع كم هما متفقان، وسيصدقهما العالم كله إلا أنفسهم التي تخلد معهم على ذات الوسادة، لذا تذكر، لا تأخذ كل ما تراه على محمل التصديق، فكل ما يعرض هو من أجل العرض ليس إلا.

لذا يتضح بأن المجتمع رسم تصورات صعبة للحب لا يمكن تطبيقها ولكن يمكن تمثيلها وتدوينها واصطناعها، بأن المتحابين يعيشون حياة وردية، لا خلاف فيها، يحتضن المحب حبيبه كل يوم، ويغازلها كل ساعة، ويسامرها كل مساء، رغباتهما لممارسة الحب لا تنقطع حتى ليوم واحد، وهو تصور برّاق، ولكنه أشبه بالمعتقل، حيث أن من الصعب تطبيقه، لذلك قسم اليونايون الحب إلى ثلاثة أقسام وهي المشاعر الحسية التي نشعر بها في بداية العلاقة واطلقوا عليها مسمى إيروس على اعتبار أن هذه المشاعر تتلاشى تدريجيًا بعد العام الأول أو الثاني وتلاشيها لا يعني بالضرورة غياب الحب، بل تحول الحب إلى نوع آخر وهو “الصداقة” واطلقوا عليها فيليا وهي لا تعني الصداقة بمفهومها المجرد بل بمفهوم أشد عمقًا لقوة هذه الصداقة ونقائها ومشاعرها أكثر اخلاصًا وصدقًا، فتحول هذا الحب إلى هذا القالب يعني أن الشخص الآخر أصبح متعلقًا للحد الذي يكون فيه مستعدًا للتضحية بنفسه من أجل أن يعيش الآخر، أن يضحي أن يتنازل أن يقتطع مما عنده حتى يكتمل ا عند محبوبه. أما النوع الثالث فليس عملية مرور من خلال مراحل الحب، بل هي مرحلة خاصة تحدث مع الوقت وهي “قبول الآخر” بعيوبه والتعاطي مع أخطاءه ونواقصه بشعور ممتلئ بالتعاطف، ويرى بعض الفلاسفة أن هذه الكلمات قد تكون أكثر بديل منصف للحب، لأنها تصف شكلًا منطقيًا للحب، بعيدًا عن مجرداته الأدبية وتصوراته المجتمعية التي تجعل الحب لا يحدث سوى في الأفلام والمسلسلات والروايات وصور مواقع التواصل الاجتماعي، ومن المستحيل أن يحدث بين طرفين يلتقيان للمرة الأولى في موعد مدبر.

الملل النبيل

62209877_10157102768765446_9124442009266814976_n

 

نمضي نصف عمرنا بلا وجه واضحة ولا اتجاهات ثابتة، نعبث منذ طفولتنا بكل شيء، لنتخلص من الشعور بالرتابة، نجرب قدرتنا على التأثير على محيطنا منذ طفولتنا، تجد الطفل مبتهجًا بلعبة تصدر أصواتا كلما قام بتحريكها، أو لعبة ضوئية كلما قام بضغط أزرارها، هو سعيد لأنه ككائن صغير ومتواضع قادر على التأثير على محيطه، نكبر قليلًا ونبدأ في تكسير الأشياء بحثًا عن أسرارها، كيف تعمل، ما الذي بالداخل، ما الذي يجعلها تسير أو تطير أو تضيء. العالم يبدو كبيرًا جدًا والخيارات تبدو لا محدودة، ولكننا ورغم ذلك نشعر بالرتابة، فننزوي بحثًا عن محفزات جديدة نستكشفها ونطرد من خلالها هذا الشعور الذي يدعى الملل.

يقال ملّل فلان الشيء، أي قلبه، لذا فربما من وجهة نظري فإن مصدر الملل هو كثرة تقليب الشيء الذي يفضي للشعور بالضجر، نستطيع بذلك أن نقول باختصار أن الشعور بالملل هو الشعور بغياب محفز يجعل الدماغ منشغلا عن المحيط الرتيب والاعتيادي بشيء يضمن بقاءه يعمل بشكل صحي، ويحدث ذلك عندما تفقد اهتمامك بالعالم الخارجي أو حتى الداخلي لأفكارك،

غالبا عند الشعور بالملل فإن الإنسان يكون حبيس أفكاره وحسب، ولهذا يبدأ في البحث عن محفزات من محيطه، في تجربة قام بها صاحب قناة اليوتيوبVsauce   المدعو مايكل، قام بحبس نفسه في غرفة لمدة ثلاثة أيام، غرفة بيضاء جدًا، كل شيء فيها أبيض حتى قوارير المياه، لدراسة حال الإنسان حال عدم وجود أية محفزات خارجية.

يظهر في الفيديو جليًا الساعات الأولى تمر بشكل عادي، حيث يستطيع مايكل القيام بحساب الوقت وإيجاد كل ما في الغرفة محفزًا، فيبدأ بعد القوارير ومربعات الرخام، وبعد مرور الوقت، يفقد العقل اهتمامه بهذه الأشياء ويبدأ في البحث عن أي شيء آخر، وحين يفشل، يلجأ الدماغ إلى النوم حتى يحافظ على استقراره، الساعات الأولى تبين حاجة الدماغ بشدة للمحفزات.
كحال الأطفال، فالأطفال عندما يشعرون بالملل والضجر يبحثون عن متع جديدة واستكشافات مثيرة في المحيط، أو في نفس اللعبة التي كان يلعب بها، وهو ما يساعد الأطفال على النمو ويهبهم القدرة على الاكتشاف والابتكار، لذا فإن اللعبة الجديدة تفقد أهميتها، ويصبح مفتاح السيارة أكثر أهمية للطفل من تلك اللعبة.

عند الشعور بالملل، فإن أنشطة الدماغ تقل بنسبة 5% فقط، بينما تنشط في الدماغ الأجزاء الخاصة بالذاكرة الشخصية، وكذلك الخاصة باستيعاب أفكار ومشاعر الآخرين، وأخيرا الأجزاء الخاصة باستحضار الأحداث الافتراضية في الدماغ ( بمعنى آخر الأجزاء الخاصة بالخيال)، ولهذا تجد الشخص يراجع شريط حياته، ويفكر في وضعه وشخصيته، كيف يحسن من نفسه، يراجع علاقاته، ويحاول استعادة المواقف والقصص والأحداث التي عاشها. لكن إذا استمر الشعور بالملل ولم يحصل الدماغ على ما يكفي من محفزات (داخلية أو خارجية)، فإنه يدخل في حالة الهلوسة، والهلوسة هي محاولة الدماغ لاختلاق تصاوير ومحفزات غير موجودة، فتجد الشخص يتحدث مع شخص غير موجود، أو يرى ارواحا أو أشكالًا وشخصيات وهمية.

ولاستيعاب خطورة عدم إعطاء الطفل مساحة من المحفزات، فلنا في قصة جيني ويلي عظة وعبرة، فقد عمد والدها منذ طفولتها إلى  حبسها في غرفة خاوية إلا من سرير وكرسي، بل وعمد الأب على عدم التواصل مع جيني ابدًا وكان يضربها لو أصدرت أي صوت، ولم تكتشف الشرطة وجود هذه الطفلة إلا عندما بلغت سن الثالثة عشر، عانت الطفلة بسبب عدم وجود أي محفزات من توقف أجزاء من الدماغ عن النمو، مما جعلها تعاني من صعوبة في تعلم الكثير من المهارات، بل وكانت لديها سلوكيات مضطربة، كضرب رأسها في الجدار بلا سبب وهو ما يقودنا للفكرة التالية، وهي الألم كمحفز.

في تجربة قام بها علماء بوضع مجموعة من المتطوعين داخل غرفة لا تحوي أي شيء سوى طاولة وبوسطها زر، حال قمت بضغط الزر سيصعقك تيار كهربائي، طلبوا من المتطوعين الانتظار وأخبروهم عن الزر، والكل كان ينظر للزر بريبة، ولم يفكر أحدهم بالضغط عليه، وبعد أن طال وقت انتظارهم، بدأ المتطوعون الضغط على الزر بحثًا عن محفز خارجي عدى التحديق في الغرفة الفارغة التي هم فيها، وكان الشعور بالصعقة أفضل من الشعور بالملل، لذا ربما عمدت جيني للتخلص من الملل وإبقاء عقلها يعمل بشكل صحي إلى ضرب رأسها بالجدار بشكل مستمر.

كما أن انعدام المحفزات يشكل خطورة على الفرد فهو أحد أسباب الاكتئاب، وأحد أهم أسباب تعاطي المخدرات لدى المراهقين، فإن كثرة المحفزات تشكل أيضًا خطورة عليه، فكثرة المحفزات يعني أن عليك التنقل بين المهام والأشياء والأفكار بشكل متواصل ومستمر، وفي كل مرة تنقل انتباهك، فإن المخ يعمد إلى تغيير الوصلات الكيميائية داخل دماغك مستهلكًا كمية من الجلكوز في هذه القفزات. تشير الاحصائيات إلى أن متوسط تحويل انتباهنا من مهمة إلى أخرى هو مرة كل 45 ثانية، وأن متوسط تفقدنا للبريد هو 74 مرة كل يوم، وأخيرًا فإن معدل تنقلنا بين المهام هو 566 مرة خلال اليوم!

في تصويت للمتابعين في تويتر عن معدل الشعور بالملل، فإن ما يقارب 13% من المصوتين لا يراودهم الشعور بالملل إطلاقًا، وهو يعني أنهم منشغلين دائمًا، إما باستخدام التكنلوجيا أو مهام أخرى متنوعة يتنقلون بينها، بينما ما يقارب 50% يشعر بالملل أكثر من 6 مرات شهريًا، وهو ما يعكس أن الأغلبية العظمى يشعرون بالملل بمستويات مختلفة بالطبع، ولكن الإشكالية ليست في الشعور به ولا اختلاف مستوياته، بقدر كيف يستغل هؤلاء هذه المشاعر للمضي قدمًا وتحسين أنفسهم ومستقبلهم.

يقال الحاجة أم الاختراع، يتوقف الإنسان عن الاختراع حين لا يحتاج لذلك، فإن لم يشعر الإنسان بالملل، فكيف سيخلق شيئًا جديدًا للتسلية، إن لم يحتاج لأن يقف مع أفكاره وقفة جادة ليراجعها، كيف سيتأكد منها أو من خطأها، كيف يمكن أن يرى وضعه ويحسنه، وكيف سيفكر في مستقبل وهو منشغل بحاضره واللحظة التي يقضيها في زمن بات فيه من السهل الحصول على زر يبعد عنا الشعور بالملل، ولا يسبب أي صعقة كهربائية زر التحكم بالتلفاز، زر الفأرة وزر الهاتف، هذه الأزرار تخرجنا من الملل، إلى عوالم مستمرة من التسلية التي لا تنتهي، ولكن لا نعلم أبدًا أننا بهذه الطريقة نقتل أهم احتياجاتنا البشرية، حاجتنا للبقاء مع أفكارنا

إن حجم الترفية الكبير الذي وفره هذا العصر، حرمنا وأطفالنا القدرة على اختلاق الأفكار والإبداعات، لهذا قبل أن تشتم الملل وتبعده عن أطفالك وكأنه شبح عن طريق ألعاب الفيديو والألواح الذكية (التابلت) والتلفاز، تذكر أنك تقتل شيئًا قبل مولده، وقبل أن تخرج هاتفك أثناء نزهتك تذكر المشهد الملهم الذي أمامك، والذي تركته آلاف المرات دون أن يخرجك من الداخل أو يدخل إليك من الخارج، لأن الملل جميل ونبيل، يقول الفيلسوف الإيطالي جاكومو ليوباردي في نص رسالته لوالده: الملل من أسمى المشاعر الإنسانية إطلاقًا، فهو يعكس حقيقة أن روح الإنسان بمعنى ما أكبر من الكون برمته، الملل تعبير عن يأس عميق، وعدم العثور على أي شيء يمكن أن يشبع حاجات الروح غير المحدودة.

أدب الندم !

28378785_10155999177400446_660591033870003216_n

الندم، شعور يقتحم الإنسان حين ينظر لما افتعله وأوجده من اشكالية حلت به وسلبت منه احساسه بالراحة تجاه قراره أو قراراته، خليط من الحزن والكآبة والأسى والقهر والألم، هذه الحالة التي تمر بك، بعد أن تكتشف أن خياراتك لم تكن موفقة تجاه شيء ما. هو شعور لا يحتاج لمدة زمنية، قد يكون شيء لحظي، فور اقتناءك لشيء أو بيعك له، فور زواجك أو بعد طلاقك بسنوات.

يتعاظم شعورنا بالندم حسب الخسارة التي حلت بنا، وقد يرتبط الأمر برأي الناس أحيانا، تكون سعيدا بخيار ما، فتحل عليك لعنة الآراء التي لم تطلبها اصلا، بشع، صغير، باهظ، رخيص.

شعورك بالندم على تفويت الموعد ببضع دقائق أكبر منه عند تأخرك عنه بما يزيد عن ساعة، لأنك ترسم كل الاحتمالات التي كادت أن تمنحك تلك الدقائق المطلوبة. وكلما زادت احتمالات انقاذك للموقف، كلما تعاظم شعورك بالندم.

حين يراودنا شعور الندم، نود العودة بالزمن لتصحيح أو تغيير خياراتنا، صحيح أن ذلك غير وارد، ولكن لو عدنا، فإننا لن نغير شيئا، فنحن نتعلم من ندمنا الدرس الذي يجعلنا نعتقد بأن خيارنا الآخر أكثر صوابا، فإن عدنا بالزمن، وإن افترضنا أننا غيرنا خيارانا، فإن شعورنا بالندم من الخيار الأول سيتلاشى من ذاكرتنا، وتجربتنا ستكون وكأنها لم تمر بنا اصلا، وعندما نعود للحاضر، سنتمنى العودة بالزمن لتغيير خيارنا لاعتقادنا أن الخيار الآخر هو الأفضل لمستقبلنا، وهذه هي متناقضة الخيار الآخر.

لا يمكنك التخلص من الشعور بالندم أبدا، وهذا ما لخصه الفيلسوف سورين كيركيقارد في كتابه: اما/أو: تزوج وستندم، لا تتزوج وستندم ايضا، تزوج أو لا تتزوج ستندم في كلا الحالتين، صدق زوجتك وستندم، لا تصدق زوجتك وستندم أيضًا، صدقها أو لا تصدقها، ستندم في كل الحالات. ولأننا نظن أن الضفة الأخرى من النهر دائما أكثر اخضرارا، لهذا نندم.

في تصويت على تويتر قمت به، كان ندم الناس على العلاقات والصداقات والخيار الأكاديمي أكبر من التربية والوظيفة، ليس لأنهما أقل أهمية بالطبع، بل لأننا لا نرى نتائجها بسرعة كما يحدث مع العلاقات والمجال الدراسي، فالتربية كمثال لا نرى نتائجها إلا بعد عقود أو سنوات عديدة من الزمن، وكذلك خيار الوظيفة، وذلك لأننا نتعلم أخطائنا من نتائجها وحسب.

نحن نستطيع النظر للماضي، ولكن لا يمكننا استشراف المستقبل، وهذا ما يجعل من المستحيل أن نصنع خيارات لا نندم عليها، ولأنه أيضًا لا يوجد قرارات مطلقة الصواب. لهذا حاول أن تأخذ الدرس وتتعلم منه كيف تتعامل مع مواقف مشابهة بحذر أكبر وتفكير أكثر عمقًا، حتى يقل شعورك بالندم على خياراتك القادمة، لأنك دائما ستخطئ التقدير. وكلما ازدادت معرفتك وتعمقت تجربتك زاد احتمال شعورك بالندم، لأننا لا نندم، إلا حين نتعلم.

الفضيحة والفضيلة

DSC_7050_preview

كلنا نختبئ خلف حاجزنا الورقي المسمى بالفضيلة، وما أن يمزق ذلك الحاجز حتى نطفق خصفًا من ورق التبريرات التي نستر بها ما انكشف، هذا الحاجز نخفي وراءه كل عيوبنا، كل أسرارنا، كل نزعاتنا ورغائبنا التي نحاول سترها ليل نهار بكل ما أوتينا من قوة ومن رباط الخير، لا أحد لا يملك خطيئة، أو عيبًا لا يريد لأحد حتى الله أن يراه. وهذا الافتضاح الذي يحصل بإرادتنا أو دون ذلك يعتبر فضيحة، أيًا كان الشخص وأيما كان المجتمع الذي فيه والذي يحدد شكل الفضيحة وحجمها.

في البدئ يجب الفصل بين الفضيحة الجنسية، والفضيحة كمفهوم عام أي ما يحاول الآخر إخفاءه من عيوب. مطاردتنا للفضيحة الجنسية لا يقارن بباقي الفضائح، فهي تعيد رسم خيالاتنا ورغباتنا، فأحيانا نتمنى أن نكون برفقة هذا الشخص، ومعرفة تجربة الحب معه، وملاحقة هذه الفضيحة تتيح لخيالنا الفرصة بأن نجنح قليلًا من الخيال التام، إلى الخيال المربوط بحقيقة مرئية وشبه ملموسة، فمطاردتنا لها دافعها اللاواعي، وهو أحيان الرغبة الخفية. ليس بالضرورة تلك الرغبة مرتبطة بشخص تحبه، أحيانا بالمشهور أو قالب الشهرة بحد ذاته، فهو بعيد المنال غالبًا، وهو يبدو أكثر جاذبية من غيره بسبب هذا البعد الكوني الذي خلقه حشد من المعجبين والمتابعين. جانب آخر وهو بحثنًا عن تلك التفاصيل التي تخفيها الثياب والأخلاق، فهي لا تظهر لنا الجانب الآخر من الشخص، الجانب الذي قد لا يدركه إلا أقرب المقربين، وهي نزعة من فضول لا يؤمن بالقيود

نحن نحب الفضائح، بل أكثر من ذلك؛ نحن نعشقها، نحب أن يكون الآخر دائما متاحًا، دائمًا معيوبًا، لا نحب ما نراه منه عبر فضائله وحكمته وإحسانه، لا نحب ان نراه خلف نجاحاته ومقابلاته وانتصاراته، فنحن نحاول أن ننتصر على عقد نقصنا بهذا الشكل أحيانًا، وأحيانا أخرى نود أن نشعر بأننا طبيعيون، نخطئ كما ذلك الذي بنينا له تمثالًا في أذهاننا، على الرغم من أنه لم يُطلب منا ذلك، يبدو دائمًا البقاء في الجانب الآخر سهلًا، حيث يمكنك أن تلقي أحكامك على الآخرين، وتتفرد بسلطتك التي تظنها وهبت لك حال وقوع الآخر في خطأ.

ربما تشعرنا الفضيحة بأننا أفضل من الآخرين -وإن لم نكن كذلك- وأننا أكثر استقامة وكمالا، نحاول أن نجد طريقة لهدم الصرح الذي بناه هذا الممثل أو تلك الفنانة وهذا المقدم، قد نظن أن سبب فشلنا هو نجاح هؤلاء، فلو منحنا ذات الجمال، ذات الصوت، أو حتى ذات الكاريزما لربما كنا مكانه، نحن نكشف ونفضح أنفسنا في خضم هذا السعي عن عدم رضانا الداخلي، عن حالات انهزامنا أمام الحياة التي نظنها لم تنصفنا كفاية، وانصفت كل هؤلاء.

اما الجانب الأبرز في القضية هو الفضول، الإنسان يحب أن يعرف، أن يعرف عما يخصه وما لا يخصه، والفضيحة تبدو مادة مثيرة للانتباه، لمدى الأثر الذي تسببه تلك الفضيحة، لأنها تؤثر على الشخص ومن حوله، وتغير حياته أحيانا بشكل تام، وهذا يخرجنا من الأحداث الروتينية إلى حدث مُغرٍ، وهذا الفضول نفسه يدفع الناس للتلصص والنظر عبر نوافذ الآخرين.

الفضيحة تساعدنا أحيانا في تفادي الافتضاحات، والتفكير في كيفية التعاطي مع الفضيحة في حال كنا مكانه، وما يدور في عقل المتلقي للفضيحة عدى تمنيه ألا يكون مكانه، هو التحليلات والتخمينات والمخارج التي يبحث عنها لينأى بنفسه عن ما قد يحدث الفضيحة، أو يهذب تصرفاته بحيث يتخلص من مسبباتها. الفضيحة تبدو ورغم خطورتها، موضوعًا مثيرًا يصلح للدردشة، مهمًا يصلح للنقاش، مسليًا أحيانا، يصلح للضحك وإلقاء النكت.

دعنا لا نكن مثاليين بعض الشيء، ولنكن أناسي، لست بالضرورة شخصًا سيئًا حين تبحث أو تصغي باهتمام إلى فضيحة، أو تناقشها، كل ما في الأمر أنك إنسان، ربما كل ما في الأمر أنك تود أن تعرف، وإن لم تكن مهتمًا بالفضيحة، ولم تبحث أبدًا عنها، أبدًا أبدًا…. اقترب لحظة، انظر في عيني، آه صدّقتك الآن، يبدو أننا بحاجة لنسخ عديدة منك، أو ربما ببساطة، نحن بحاجة لأن نتعلم كيف نتعاطى مع الفضيحة، ألّا نحولها لموضوع نقاش، ألا نشارك ما يصلنا مع الآخرين، فقد نكون يومًا ما بين زوايا المستطيل الذي يسمى بالهاتف، يتبادلنا الناس، ينظرون إلى سروالنا الذي تمزق، ورسائلنا الغرامية التي تسربت، وصورنا المضحكة التي نحتفظ بها دون أن ندري لمّ نفعل ذلك، حينها سنتمنى حقًا، لو كان العالم كله فاضلًا مثلك، لا يشارك فضائحك، لا يحولها لنكتة، لا يلوح بها لك، كلما وقفت على المسرح لتقول شيئًا مفيدًا للآخرين، ليذكرك بأنك ملطخ بالخطيئة التي لا يمكن للزمن أن يغسلها، وحينها فقط، قد تتمنى لو أن الأرض انشقت، أو السماء انفطرت، أو أنك كنت نسيا منسيا. وتذكر فقط، أن حرفًا واحدًا يصنع الفرق بين الفضيلة والفضيحة، حاول أن تتجنبه قدر الإمكان، وستجد حرف الحاء يطاردك في عين حاقد وحاسد، فتجنب أن تكون أحدهما.

دعيني أخبرك بسر!

26060318_10155809463350446_4788323466595308592_o

كنت أشاهد أحد الأنمي المفضلين لدي، أكاديمية الأبطال، وفي أحد المشاهد المحورية والمؤثرة، همست عيني ببعض الدمع في نفس اللحظة التي دخلت فيها زوجتي الغرفة، حاولت إخفاء الدمع ولكن دون جدوى، ما كان من زوجتي إلا أن أتت من خلفي وأخذت تمسح دموعي وهي تبتسم وتقول “علمت من الخلفية الموسيقية أنك ستبكي هنا”، ابتسمت وقلت لها اجلسي هنا دعيني أخبرك بسر.

كان ذلك السر هو نظرتي الشخصية وراء الأسباب التي تدفعنا للبكاء أو التأثر بشدة لمشهد ما.

في مشاهد الأفلام والمسلسلات وحتى القصص التي نقرؤها قد نتأثر، نحزن، أو في حالات التعلق العظمى نبكي، نبكي لأن المشهد حزين، والموسيقى مهيئة للحالة النفسية القادمة، ولأن النص يحكي بتفصيل يجعلنا ندهن لوحة المشهد الدرامي المحبوك بعناية، غالبا يبكي الناس عندما يتعلقون بشخصية، أما أولئك الموتى على هوامش النص أو المشهد فلا تربطنا به علاقة وطيدة حتى يتسنى لنا أن نعيش اللحظة، بل وجهاز التحكم بمشاعرنا موجودة لدى المؤلف أو المخرج، يسلط الضوء على الشخصيات التي تساهم في ذلك الرابط الخفي الذي نكونه مع الشخصيات الوهمية التي تؤدي الدور.

غالبا يظن الناس أن تأثرهم بسبب حزن المشهد، ولكن هذا فهم عام وسطحي بعض الشيء، فليست كل المشاهد الحزينة مستفزة للدموع، ربما التعاطف غالبًا، ولكن الدموع لا تنهمر بسهولة في تلك المشاهد، وما يجعلنا حقًا نبكي عدة أمور نسردها منفردة.

مجمل حالات تعاطفنا وتأثرنا يكون مع شخصيات محورية جاهد الكاتب في ربطنا بحياته وتفاصيله حتى أصبح بيننا وبينه علاقة حميمة وكأنه صديق أو فرد من أسرة أو حتى حبيب سري. وأي شيء يصيب تلك الشخصية يستحث بكائنا ودموعنا وتعاطفنا. ودعنا نسميه، العلاقة العاطفية الوهمية مع الشخصية.

يأتي في المرتبة الثانية، استعدادنا العاطفي للتأثر بالمشهد، فقد نكون بحاجة للتعبير عن أحزاننا ولكننا نفشل بجدارة في اخراج تلك الكومة الكبيرة من المشاعر، فنحن معتادين على الكتمان والتجاهل وعدم إعطاء الحزن حقه وكفايته في حياتنا، وحين يمر من بين أطراف رموشنا مشهد حزين، فإننا نخرج ما نظنه تأثر بالمشهد، وكل ما في الأمر أننا نخرج تلك الأحزان التي لم نمارس البكاء معها.

في عصر التكنلوجيا والسرعة والمال، تضيع مشاعرنا بين حزمة العلاقات المادية وعلاقات المصلحة حتى بين أفراد العائلات والأسر، مما يفقدنا كثير من المشاعر الإنسانية، والمحبة والمودة والحنان وكذلك الشاعرية، تلك المشاعر المكبوتة والمحبوسة في زنزانة الجفاف العاطفي تبحث عن مستقرها ومستودعها، والذي غالبا لا تجده، فيجد المرء نفسه تائها روحيا، لا يدري ماذا يفعل حتى يفرغ تلك الكمية من المشاعر، أو كيف يمارسها، ولا يتأتى له إلا عبر الشاشة أن يعيش تلك المشاعر لتستفز وعيه واللاوعي بداخله، فتجده يبكي ويحزن ويحب ويصرخ ويشجع ويتعاطف مع المشاهد والشخصيات والمواقف، فممارسة المشاعر الوهمية أفضل طريقة لحياة نفسية مستقرة، في عالم المصالح والمادة.

وأخيرا وليس آخرًا، وهو أهم نقطة لا يشعر بها الناس، وهي الرابط الواقعي بين المشهد وحياتنا الشخصية، من حالات الخذلان والخيانة، لحظات الإحباط والحاجة، ومشاهد الحياة التي تشبهنا إلى حد ما. نحن نبكي حين يكون المشهد مرآة لحالاتنا الشخصية، وتراكماتنا النفسية العميقة، وشعورنا بأن هنالك أمل قابع في ركن ما، شعورنا بأننا لسنا وحدنا من يعاني، لسنا وحدنا من يحمل وجعًا، لسنا وحدنا من يحمل جرحا أو ندبة عميقة، ولأن هذه المشاهد تقتحم العمق في عقلنا اللاوعي أكثر من عقلنا الواعي، فإننا نبكي أحيانا دون أن ندري أننا وفي العمق نبكي على أنفسنا التي نراها متمثلة في فلم سينمائي، مشهد أنمي، أو حتى رواية.

لذا حين تجد أحدهم يبكي على مشهد، لا تسخر من مشاعره، فأنت لا تعلم حقًا ما يوجد في العمق، ولكنك تعلم الآن أن في العمق ربما توجد شخصية هشة، أضعفتها الحياة، ولم تجد متسعًا سوى تلك الشاشة لتفرغ فيها تلك الحجارة عبر محجريها. وأننا حقًا بحاجة لأن نتذكر دائمًا أننا كنا ولا زلنا بشرًا ولسنا مجموعة حجارة.

المنبه الذي لا يرن

22491486_10155623227045446_2779728727379722435_n

إنها الثانية عشر منتصف الليل، يحصل يوسف على وجبة العشاء، وهي عبارة عن زجاجة حليب، يتهجى النوم على وسادته الصغيرة حتى ينام، يحاول الثرثرة، وكل ما يخرج من فمه هي محض أصوات يحاول تلحينها حتى ينام.

لأكسب بعض الوقت اتناول زجاجات الرضاعة لأغسلها، صدقني لن ترغب في غسل زجاجة مخصصة لتقليل الغازات، ففيها الكثير من القطع التي عليك أن تدخل فيها أنواع مختلفة من فرش التنظيف. عيني تراقب الساعة حتى لا تفر بالوقت، ادس الزجاجات والقطع في جهاز التعقيم، اضع الماء في الغلاية، اجهز سريري واتمدد.

اتذكر أنه يتعين على ضبط المنبه على الوقت المحدد، اضغط على زر التشغيل، وأكاد اقسم أن الجهاز اللعين يسخر مني حين يظهر لي ما تبقى من وقت ليرن المنبه، ساعتان وأربعون دقيقة، إن الوقت لا يجامل أحدا. ارفع كفي إلى السماء وادعو أن ينام هو بشكل جيد حتى يتسنى لي أن أنام بشكل أقل من جيد.

استيقظ مفزوعًا، اطل عليه، إنه نائم، هو فقط يصدر اصواتًا، اضع يدي قرب انفه، إنه يتنفس الحمد لله، اعاود النوم، وبعد ساعة اسمع صياحا متقطع، ارفع يدي من تحت الغطاء متمنيا أنه لم يستيقظ بعد وأن هذه اضغاث أحلامه الصغيرة. يتحول الصياح المتقطع إلى بكاء متصل، انهض مثقلا بسهر الأيام الماضية، أمضي نحو المصباح وأصنع به عكس ما اصنعه بجهاز التكييف.

اخرج الزجاجة وبالملقط احشر القطع في بعضها، اغلي الماء، احضر الثلج، ابرد بعض الماء الجاري وأضعه في كأس أحشر فيها الحليب ليبرد، الصياح يتعالى، اهرع لأحمله حتى يسكت، اتناول الحليب بعد ان فتر، احمله واضمه إلى صدري، وأرضعه من الزجاجة، بينما يتردد على نظري ضباب النعاس.

الممرضة قالت: دعه يتجشأ حتى لا يتقيأ، هكذا انظر. عملية صعبة، ضمه إلى صدرك ورأسه على مستوى كتفك، ربت على ظهره، واقسم بالله أن التربيت ليس جزء من العملية، ولكنني تعودت على ذلك لأوهم نفسي أنها أسرع طريقة لجعله يتجشأ، الوقت يمضي بسرعة خيالية، وبعد أن يفرغ من زجاجته، اضعه في مهده واقوم بتغطيته ثم اجلس لادردش معه، لا يبدو أنه يريد النوم ما الخطب يا ترى. انظر إلى الساعة، إنها الثالثة والنصف صباحا!

حبيبي متى ننام، أنا متعب جدًا، أتذكر شيئًا، علي تغيير الحفاظ، وقبل أن افكها، ارفع كلتا كفي إلى السماء، ثم أهمس له وأقول لا تقل لي أنك فعلتها ! هذا ليس الوقت المناسب لأسوأ مهمة، لست مستعدا لذلك يا حبيبي، وللأسف، يبتسم هو معلنا أنني في ورطة. انظفه واضطر لاعداد كمية صغيرة من الحليب حتى ينام بها.

اضبط المنبه كل ثلاث ساعات كما قالت الطبيبة، إنها عملية شاقة جدًا، بالكاد يمكنك أن تقضي منها ساعتين، لأن الساعة الأولى تنقضي في غسل الزجاجات وتعقيمها، وفي استيقاظه قبل منبهك بالطبع، ينقضي المساء وبالكاد حصلت على ثلاث إلى أربع ساعات من النوم المتقطع، كأنك تحمل شطيرة، تتناول منها قضمة كل ساعة، فلا أنت شبعت، ولا أنت استمتعت، وتبقى أمام خيار واحد، أن تقرر النهوض والاستحمام لتطرد النوم متمنيا أن يكون نوم الغد أفضلا حالا من اليوم.

وينقضي النهار بنفس الوتيرة، ولكن استبدل النوم بقضية أخرى، الكتابة، القراءة، مشاهدة التلفاز أو حتى النوم… الخ

آه نسيت أن أخبركم، زوجتي سافرت لتقدم امتحانات نهاية السنة، وأنا الآن في نهاية الأسبوع الثانية منذ استلامي العهدة الكاملة لرعاية ابني يوسف، الآن فقط فهمت معنى الأم الحقيقي، معنى أن تسهر أمك وأنت نائم، معنى أن تتعب وأنت مرتاح، معنى أن تقلق وأنت مطمئن.

الآن فقط فهمت لماذا لا يستطيع أغلب النساء أن يعتنين بأنفسهن، لماذا لا يملكن الوقت للقيام بمهام أخرى سوى الرعاية، لماذا مزاجهن متعكر، لماذا أجسادهن منهكة، أنا انقطعت عن الكتابة والقراءة والخروج من البيت، فلا يمكنك أن تنظم وقت الأطفال، فالأطفال كائنات عشوائية، لهذا لا تظن أن بإمكانك تنظيم وقتك، فهم وقتك ومنبهك الوحيد.

اعتذر لجميع المتابعين عن الانقطاع، ولكن حقا قلة النوم مأزق كبير، ودور الأم أعظم من أن يتقمصه رجل.

هنا وصلة لمقال اشكالية النوم، مرتبط جزئيا بهذا المقال

https://altaye6.com/2017/10/06/sleepingprob/

لماذا تفشل علاقاتنا

22550472_10155615138395446_4375303614313961386_o

العلاقات والمعارف هي هدف الإنسان الدائم في الحياة، فهو كائن مفطور على المشاركة والتفاعل والحب، ومن دون الآخر الإنسان لا يمكنه أن يعيش، وسيبحث بطبيعة الحال عن شبيه له، حتى لو كان ذلك الشبيه شيء مختلق من خياله. استحضر في هذه اللحظة الكرة التي كان يصادقها بطل فلم castaway والتي أسماها بويلسون. تلك الكرة التي كان يدردش معها ويشكو لها ويصطحبها أينما ذهب وارتحل ويحاول استشارتها وحتى اطعامها، رغم عدم تجاوبها معه واستحالة ذلك -إلا في عقله طبعا-. وذلك حتى لا يصبح مجنونا لاتساع بقعة الوحدة التي يعاني منها بطل الفلم.

الذكاء الاجتماعي مصطلح جديد يصف مدى قدرة الشخص على التعاطي، التنقل والتفاوض في العلاقات الاجتماعية المعقدة والبيئات المختلفة بفاعلية، لكن كون الشخص ذكي اجتماعيا، لا يخوله ولا يمنحه القدرة المطلقة للمحافظة على العلاقات، إنما على فتح وتكوين علاقات جديدة بالأصح؛ فلماذا ومهما بلغنا من مهارات اجتماعية، نخسر علاقات كثيرة كلما مضينا قدمًا بأعمارنا؟ الإجابة الأقصر! لأن حالاتنا البشرية متغيرة ومتقلبة سواء من جهتنا نحن أم من جهة الآخر الذي نحاول التمسك به.

في كل مرة تقابل أحدًا ما، لن تكون حاملا ذات الأفكار والهموم أو حتى المشاعر، وهذا ما يجعلنا أو الآخر نرسم الكثير من الخيالات حول سبب تغير هذا الشخص، ربما غاضب مني، ربما لم يعد يحبني، ربما ازعجته، ونبدأ بوضع كلماته وجمله وحتى تنهيداته على طاولة التحقيق، نحاول أن نفكك كل جملة، وأن نحلل كل عبارة، ما يضعنا في موقف دفاعي جدًا يؤهلنا لتعكير صفو اللقاء، وقد نحمل تلك الأفكار معنا إلى البيت حتى السنة القادمة من التفكير، وقد يستحيل الأمر في أفضل الحالات إلى سوء ظن وتسرع في إطلاق الأحكام

ولا نكتفي بهذه الجريمة وحدها، بل حتى لا نبادر في مصارحة الآخر “ربما” حول المشكلة أو الأفكار التي تجول في رؤوسنا عمومًا، وهذا يترك فجوة كبيرة بين طرفي القضية، فالمصارحة مهمة، ولكن يجب أن يتم الباسها ثوب الهدوء والمودة.

الصدق فضيلة، ولكنه في العلاقات ليس كذلك دائمًا، فغالبا الصدق ليس بمنجاة فيها، بل أحد أكبر مدمريها. ولأننا لا نجيد أخبار كذبة محكمة، نفقد ثقة الآخر، وأحيانا ليس لأننا لا نخبر كذبة جيدة، بل لأننا ننسى الأكاذيب التي رتلناها، وبعد مدة طويلة يُفتضح أمرنا، فحبل الكذب أقصر من المسافة بين ألسنتنا وأسماعهم، لسنا بحاجة لأن نكون “كَذَبَة” إنما الأمر متوقف على الوضع الراهن والذي يحتم علينا أن نكذب، فقد يكون الكذب هو حبل النجاة الأخير الذي يجعل العلاقة متماسكة أكثر. قد يعترض البعض على هذه الفكرة ولكنني مؤمن أن العلاقات لا تنجو إلا بمس من كذب.

لا عيب أن نتمسك بعاداتنا وألا نخرج من قوالبنا، لكننا نبالغ أحيانا في ذلك، للدرجة التي نجعل من حولنا رهن تلك العادات والتصرفات، كأن نشترط شرب الماء في كوب زجاجي أزرق، أو نضع الجميع تحت رحمة التكييف الذي تشير لوحته للرقم 16 درجة مئوية! يمكنك بكل بساطة أن تجد أرضية مشتركة لكل شيء، فلست وحدك في تلك الغرفة، وليست المطابخ مجمعا تجاريا لتناسب ذوق شربك، فاوض في التكييف، واقبل ما يقدم لك، وراقب عاداتك وتذكر أن تجعلها في حدودٍ لا تضايق أحدًا منك أو من نفسه.

وكونك قد تنازلت لا يعني بالضرورة أن يشعرك ذلك بأنك أكثر من قدم التضحيات، فهذه هي علة العلاقات، أن جميع الأطراف تظن أنها قدمت ما لم يقدمه الآخر، أو قدمت أكبر التضحيات والتنازلات، وكأن الموضوع تحدٍ، وكأن القضية سباق، أنا فعلت وفعلت، نرددها وكأننا نتحسر على ما قدمناه، فنجعل الآخر يشعر بأن الأمر منّة وحتى نشعر أنفسنا بأن هذا هو أصل العلاقة، وأننا لم نقدم له من باب المودة أو الحب، إنما من باب التداين، قدم وسأرد لك، افعل وسأفعل لك، وهو ما اخرج العلاقات من سياق المودة إلى سياق أقرب ما يكون إلى المن منه إلى العتاب.

ولا نكف حتى نخوض غمار سباق آخر، فنحن وكأننا في مسابقة من سيخسر المليون، نستسهل التخلي عن علاقاتنا، لا نكلف أنفسنا إلا ما نظنه وسعها، فلو اجفل منا شخص أو غاب، فإننا نهمله ونتخلى عنه بسهولة. كنت أدردش مع أحد أقربائي قبل فترة طويلة عن الصداقات والعلاقات وكيف أنني استطعت الحفاظ على علاقاتي الأهم بكل السبل الممكنة، فحدثني عن صديق مقرب له، وكيف أنه وعده وبعد طول غياب بزيارته حين عاد من السفر، صديقه الذي بكى فراقه، لم يكن حاضرًا ابدًا في عدة زيارات خاطفة له. فقلت له: افعل ما ينبغي، اطمئن عليه، فلربما هنالك ما يضايقه في حياته الخاصة، وحين بادر قريبي بالتصرف، ما كان من صديقه إلا أن فتح قلبه وأخبره أنه يمر بظروف لا تطاق وأنه سيلتقيه ليفضفض له. نحن لا نعذر الناس، ولا نفترض حسن النوايا في الغياب، ونصغي دائمًا لأولئك الذين يرددون “ارحل عمن انشغل عنك” “لا تطارد من يتخلى عنك”، دون أن نضع كل شيء تحت المجهر، لنرى ما الذي يحدث، وكل ما نفعله أننا نبادر بالرحيل، فذلك يشعرنا بالرضى المؤقت والحسرة الطويلة، نرحل لأننا ببساطة نكتفي بسبب واحد للفراق، بينما لا يكفينا ألف سبب لنستعيد صديقا.

وآخر إشكالية وأهمها، أننا تحولنا لكائنات مادية، يهمها ما ستحصل عليه من الآخر أكثر مما عليها تقديمه، نهمل التفاصيل الصغيرة، كالاهتمام، والتقدير والحب والامتنان والشكر والمشاعر التي يكنها الآخرين، ننسى المساعدة و”الفزعة” حين يفشل الآخر في تلبية رغائبنا المادية، نتيه في دائرة “العشم” ورفع الآمال والتوقعات؛ فالأقرباء أو الآباء أو حتى الأصدقاء تجد بعضهم ينتظر من الآخر أن يقدم له شيئا ما مقابل صداقته، مقابل أبوته، مقابل قرابته، وكأن أساس العلاقات هو توزيع الماديات والأموال، ومن لا يقدم أو لايدفع مقابل العلاقة فهو غير مخلص لها. والمشكل يحصل لو كان لديهم قريب ثري، أو ربح اليانصيب، أو حظى على منصب رفيع، فالكل يأمل أن ينال حظا من ذلك الثراء أو تلك الجائزة أو هذا المنصب، كأن يهبهم سيارة، عقدا من الذهب، مبلغا مجزيا من المال، هم لا يطلبونه، هم يشعرون أن ع الآخر دائما المبادرة والنظر بعين العطاء تجاههم، الطرف الآخر لا ينظر للمعادلة دائما بنفس الشكل، لذلك يخسر الناس دون أن يدري ما المشكل، قد لا يراهم هو محتاجين له أو لثروته جائزته أو منصبه، فهذا ما يعكسونه في أحاديثهم، أما مكنوناتهم الشاعرة بالخذلان، فتحمل الكثير من الحزن والغضب والكراهية، التي تنخر جدار المودة حتى ينهار ويفصل بينهما. وأعتقد بأن من يربح اليانصيب سيخسر الجائزة وكذلك الناس.

هذه أهم الأسباب التي تفشل بسببها علاقاتنا وتفسد غالبا مودتنا، متى بدأنا في التخلص منها تباعا، عشنا مرتاحين مطمئنين متفائلين بعلاقات عظيمة نحكيها ونربيها في أبنائنا وأحفادنا. وتذكر أن العلاقات الاجتماعية تحتاج لصيانة مستمرة، وحسن ظن كبير، وتواصل ووضوح متصل.

انتهى المقال. بالأسفل قصة مرتبطة بالمقال لمن أراد أن يكمل المشوار.

 

 

حين كنت في الصف الخامس الابتدائي، اختصمت وصديق لي لا اذكر سبب الخلاف، امتنعت عن مرافقته للمدرسة، والجلوس معه في الفسحة ومشاغبته من خلال النافذة أثناء الحصة، وكل شيء تقريبا يصنعه الأصدقاء. بينما كان هو يلاحقني في الطريق، وينتظرني عند باب الفصل قبل الفسحة، وكل هذا وأنا متعصب للخصام متمسك به، وحين لم يجد مخرجًا، لم يرضى أن يعود بخفي حنين، بل عاد بأمه وطرق باب بيتنا، صدمت لرؤيته مع أمه، وهي تشكو خلافنا: يا أم طارق، لماذا يختصم أحمد وسلمان، سلمان يود الاعتذار ولكن أحمد لا يريد، أريدهما أصدقاء، ولا أريد لهما أن يختصما. كنت متجهما اطل من خلف أمي بغضب، حينها نادتني وقالت، هيا تصافحا وتصالحا أنتما صديقان جيدان. وحينها كما يقال “طاح الحطب” وعدنا صديقين حميمين جدا. هذه القصة لفتتني لأمر جعلني لا أنساها، وهو أن هذا الصديق فعل كل شيء، كل شيء للتمسك بالعلاقة وعدم خسارتها، رغم عنادي وتعصبي وحنقي، لم يستسلم، لم يستسهل خسارة صديق، لم يتردد في أن يحرج نفسه بجلب والدته للقيام بصلح الابتدائية. هكذا فقط يجب أن تحفظ العلاقات، بنفس البراءة، فالعلاقات أعظم قيمة من أن نبعثرها ونتهاون في افشالها.

 

إشكالية النوم !

20799080_10155428005025446_2437439476368240886_n

نذهب للنوم في المساء كجزء من قائمة مهامنا اليومية، أو كمهرب منها، وفي أسوأ حالاتنا هو مهمتنا الوحيدة التي تبدو ذات معنى. نلجأ للنوم أحيانا كوسيلة للهرب من أحلامنا التي لم تتحقق، من مصائبنا التي لا تنتهي، من مآسينا، من حالات جوعنا، أو وحدتنا المقيتة، ونلجأ إليه أحيانا كمخبأ من حزننا الذي لا يكف عن مطاردتنا حتى ونحن مختبئين تحت الغطاء، الحزن ليس كالأشباح، تختفي ما أن نلتحف أسرتنا أو نغمض أعيننا، الحزن يحتاج لحالة من الإغماء حتى يرحل بشكل مؤقت.

نستطيع أن نعتبر النوم زر إعادة التشغيل لأجسادنا، فهو يعيد لنا نشاطنا، يمحو ذاكرتنا المؤقتة، ويلوذ بنا من ألم الانتظار الطويل، ويسقط عن كاهلنا ذاكرة الحزن والفقد، ويبدد عنا الشعور بالوحدة لو كان استيقاظنا صباحا؛ فالوحدة تخشى النور، وتهاب الضجيج وأبواق السيارات وأصوات الجيران وأبواب العمارات. النوم يساعدنا في إيجاد حلول لمشاكلنا، وأفكار جيدة تصلح لمشاريع عملاقة، بل ويمكنه أن يدربنا على ردود أفعال قد تنقذ حياتنا، ويطور مهاراتنا. لذا ننام ونحن آملين بأن أحلامنا ستحمل لنا بشارات وأن شمس الغد تحمل أجمل مما حمل قمر المساء الحزين.

النوم لذيذ جدًا، طعمه ألذ من القهوة، ورائحته تفوح بالراحة والسكينة، وملمسه نختاره بأنفسنا بعناية فائقة، نلقي بكاهل اليوم على أطرافه الأربع، ونمدد جسدنا – إن لم يشاطرنا السرير أحد – بكل الاتجاهات التي نريد والتي لا نريد، نبحث بلهفة عن تلك البقعة الباردة منه قبل أن تبدد حرارة أجسادنا لذة الغرق في تلك البقع. نتقلب ونتموضع مرارا وتكرارا في بعض الليالي بحثا عن النوم في تفاصيل الوسادة، أو في بياض السقف.

نأخذ النوم على أنه جزء بيولوجي من حياتنا، ولا ندرك كم يقتحم تفاصيلنا وأمزجتنا وحياتنا الاجتماعية ويؤثر حتى على علاقاتنا، وربما لا ننتبه لكم الخلافات التي يتسبب بها النوم، وليس النوم تحديدًا، ولكن عدم اخذنا كفايتنا منه، ورضانا عنه، وراحتنا بعده. دعنا نغوص في تفاصيل يومٍ واحدٍ من قِلة النوم، لنرى كيف يفسد علينا نفسياتنا وتفاصيلنا.

تستيقظ في اليوم التالي بالكاد تود أن تفارق السرير، سواء قضيت الساعات المناسبة للنوم، أم انقصت منها أم زدت عليها ورتلت الأحلام ترتيلا. يوقظنا عمل، أم يوم دراسي أو حتى حاجة في نفس الإنسان يقضيها. تأخذ حماما، وتهم بالذهاب إلى العمل، منهك من قلة النوم، تسير في الطريق تلعن من أعطى رخصة القيادة لسائق يختال في الشارع، ويشتمك أحدهم لأنك لم تنتبه له أثناء محاولته العبور، تصل إلى العمل، بالكاد تقوى على العمل، يصفعك المدير باجتماع مفاجئ، تبدو فيه كالسكارى، تنظر للساعة كل دقيقة؛ علّها استعجلت نفسها أو انسلت من بين عقاربها عشر دقائق دون أن تدري، ثم تفرك عينيك بحثا عن ملامح يقظة أمام الحاضرين، وكلما اقترب انتهاء الاجتماع، قفز زميل لك بسؤال أقعدك عشر دقائق أخرى، وأنت تتلوى من سكرات الاجهاد، تشتم السهر والحاضرين والسائق المختال، وتقسم بألا تكررها.

تعود إلى البيت مستاءً جدًا، وقبل أن تخلع ثيابك “حبيبي، احضر لنا بعض الخضروات، البارحة وعدتني بأنك ستحضرها في طريق عودتك” فتنهرها، أمك، أختك أو زوجتك، يوووه أنا متعب وأريد أن أنام. تدلف إلى الغرفة وتلقي بثيابك، فتدخل خلفك وتدخل في عراك طويل معك، تلعن فيه اليوم الذي تزوجتها فيه. تنهض أنت لتحضر حاجيات البيت لأنها لن تدعك تنام بسلام، قد تغلق التكييف، تفتح المصابيح بدعوى أنها تبحث عن شيء ما، فالأفضل أن ترفع الراية البيضاء مبكرًا.

ترجع فيتصل بك صديق نسيت موعدك معه، تحاول التهرب، ولكنه يضغط عليك، تعد لك هي الطعام، ثم تخرج، ولسوء حظك تضطر لأن تعود متأخرًا. تنظر إلى الساعة، آه يمكنني أن أنام مبكرًا، تضع رأسك، فتدخل عليك، وتحاول أن تقضي وقتًا معك، ولكنك ما تلبث أن تنظر للساعة متحججا بالذهاب إلى النوم، فأنت حقا متعب، تلقي عليك جملة تصفعك بها “لو كان صديقك، لنهضت وخرجت معه، أما أنا فهذا ما تصنعه بي” وتعجز أن تشرح كيف أنك لم تستطع التهرب. وتدخل في خصام لست بحاجته، تحاول النوم ولكنك لا زلت تفكر بأنك لا زلت مضطرا للاعتذار وأن ترضيها، تنظر إلى الساعة، إنها الواحدة، إنك على وشك تكرار مأساتك مرة أخرى.

هنا فقط نسرد مأزقا واحدا قد يصنعه النوم معك، إننا حقا نهمل ما يصنعه النوم بتفاصيلنا، قلته أو زيادته، لا أود الدخول في المشاكل الصحية التي يخلفها من سمنة وأمراض السكري، وتلف خلايا الدماغ، الإرهاق وكذلك الاضطراب. فبغيتي شرح أن قلة النوم تجعلنا ذوي مزاج سيء جدًا، تجعلنا أقل احتمالا للضغوطات، أقل رغبة في العمل، وأقل تركيزًا، تجعلنا عصبيين جدًا، لا نحتمل أي نقاش أو جدال أو حتى مجرد طلب أو سؤال، فكم من شجار احتدم بسبب أن أحدهم لم ينم جيدًا، وكم خلاف دب لأن أخا لم يستيقظ ليوصل أخته أو ليجلبها من المدرسة، أو زوجة لم تستيقظ لتجهز إفطار الأبناء فاضطر الزوج أن يعده متأخرًا بذلك عن عمله، مما تسبب له بمشكلة مع مسؤوله، فعاد على اثرها ليتشاجر مع السائقين والمارة وبواب العمارة وختمها بشجاره معها.

إن قلة النوم تفسد علاقاتنا بشكل كبير وواضح، وقد تجعلنا نشعر بالكآبة دون أن ندرك ذلك، نلجأ للقهوة والشاي والمنبهات لخداع أنفسنا بأن القضية لا تستحق، وأن قلة النوم ليس أمرا ذو أهمية، وبأن التفاصيل الكبرى هي التي جعلتنا نرتدي هذا الشعور البائس، كغلاء الأسعار، الأوضاع السياسية، والمشاريع المتعطلة، وليس حاجتنا الحقيقية للراحة. من يعتني بطفل جديد يدرك ذلك الشعور الذي يقتحمه ويقلب حياته رأسا على عقب، لذا ومهما بدى السهر فاتنا وساحرا، وأن النوم المبكر ليس سوى مضيعة للوقت، وأن العمل ليلا يحقق لنا الكثير، تذكر أن تجاهل ساعتك الداخلية اشبه بإقحام نفسك في زجاجة، وستصل لعنقها قريبًا حيث لن يحتمل جسدك ما تصنعه به، وسيتحتم عليك أن تحاول التعويض عما فاتك من نوم دون جدوى، لذا حاول أن تذهب للنوم باكرا وتأخذ  من النوم حاجتك وكفايتك، وإلا أنقلب النوم من ملجأ لك، إلى عدو يهوي بكل شيء فوق رأسك.

بدأ النعاس يتسلل من تحت السرير متشبثا بجفني، اجر الستار فيصدر صوت أشبه بتمزيق ورقة طويلة، اسحب غطائي، أضع اليوم تحت الوسادة والغد فوق المنبه، حان وقت النوم. تصبحون على خير.

ليتني لست مكانه

20232900_10155359582130446_269131498027709967_o

أول ما يسبق الإنسان هو الفرضيات. تسبق قراراته وآرائه فرضيات لا يمكنه التخلي عنها حتى يحل محلها الواقع، أو قد تبقى على ما هي عليه، قد يفترض من يقرأ نصوصي أنني خريج كلية آداب، ولن يأتي في باله لوهلة أنني قد أكون خريج هندسة حاسوب وهو ما أنا عليه. وهذه الخصلة هي التي تجعل الإنسان كيان صانع ومطلق للأحكام، هذا ذكي، هذا مغفل، هذا فقير وهذا غني، وهذا “مبهدل”. ولهذا أحكامنا دائما سطحية وساذجة وقشرية جدًا، لا تملك من المقومات ما يعتمد عليها كرأي، ولا تفتقر لما يبقيها مجرد انطباع، هي نتاج اجهاض مفاجئ لعقلانيتنا.

يحدث أن ترى مشهدًا رجل يشد طفلة بعنف وهي تصرخ، تراودك فكرة أنه رجل يحاول اختطافها، ثم ومن خلف المشهد تبدأ في قراءة تقاسيم وجهه ووجهها، وتبدأ في ملاحظة الفروقات السبعة، وبعد أن تثبت لنفسك ألا شبه بينهما وأنه من الممكن ألا يكون والدها، تكتشف أنك ورغما عنك قد أطلقت حكمك. تمر بعدها مباشرة بفتاة وقد تكشف جزء من صدرها، تنظر باهتمام كبير، ثم تدير وجهك وتترك عينيك عند عتبتيها، وتقول في نفسك هذه منحطة وتريد أن تغري الناس، وفجأة تتعثر أمام مشهد احمرار وجهها وقد امسكت بفستانها الذي فكت ازراره. تنظر لأحدهم يتناول طعامه بشماله، تستغفر الله وتشتمه مع اصدقاءك، ثم يغيب عن المشهد أن يده الأخرى مبتورة. تهمس لصديقك “صديقك هذا مدلل، انه لا يشرب سوى المياه المعلبة، كيف سيعيش لو سافر لأفريقيا!” ولا تريد أنت أن تتقبل فكرة أنه لم يعتد سوى أن يشرب هذه المياه، وبينما أنت عائد لا تنفك تواصل رمي أحكامك يمنة ويسرة حتى تصل إلى منزلك معتدًا بنفسك وقد مارست دور الرقيب على العالمين.

في خضم نقاشنا سألني صديقي: هل تستطيع ألا تحكم على الآخرين، قلت بثقة مهزوزة: أحاول ذلك، فأنا اترك الخلق للخالق قدر ما جاهدت نفسي. لكنني لا أستطيع ألا أكون مطلقا للأحكام على أقل تقدير داخل زنزانة افكاري المتهمة. فتلك الأحكام نتيجة ما تشربناه وتربينا عليه وتوارثناه في أزقتنا الثقافية. لكن ما أحاول صنعه ألا أؤثر على من هو أمامي بأحكامي، وألا تخرج من سجنها، وإن حاولت الخروج، وضعتها في سجن انفرادي، معلقٌ في جدرانها كل عيوبي. فمتى يذكر الفرد عيوبه، يقل انتقاده وحكمه على الآخرين. قال لي: إذا نحن كما أردت أن اخبرك لا نستطيع إلا أن نكون قضاة لمتهمينا الذي لا يدركون أنهم في قاعة محاكمنا. ابتسمت وقلت نعم، ولكن يجب علينا ألا نحاكم الآخرين، ننظر لهم شزرًا، نتمتم بلعناتنا وشتائمنا، نردد هذا خطأ وهذي غير أخلاقي ولو كنت مكانه.

كثيرًا ما رددنا جملتي ليتني كنت مكانه، أو لو كنت مكانه. الأولى تمني ما في يد الأول، وهي فخ الأنانية الذي نهوي فيه دائمًا، فأنت لا تعلم بماذا ضحى حتى يصل، وكم يقاسي حتى يستمر في هذا المكان. والثانية محاولة تقييم الآخرين تبعًا لأخلاقياتنا وقدرتنا على أن نكون أفضل منه، أكثر احسانا، أفضل هندامًا، أو حتى أكثر ثباتا أمام الصعاب.

دائما ما يظن الفرد أنه القاعدة الذهبية، أو المعادلة الكونية التي إينما وضعتها ستخرج لك أفضل النتائج وأجمل اللوحات الأخلاقية، لو رأى رجلًا يضرب ويهان ذليل لا يملك حيلة سيهم بقول “لو كنت مكانه لطمست أنوفهم”، وهو من حيث لا يدري يغلف نفسه بحالة من المثالية الكاذبة، هو يزعم أنه أكثر شجاعا من الرجل الماثل أمامه، ولو كان حقًا مكانه لكان أول من يخنع. ولو فرضًا افتراضًا أنه شجاع حقًا وسيقف في وجه هؤلاء جميعهم، فإنه غفل عما يغفل عنه الناس حال اطلاق احكامهم، وهو “ما الذي يدريك ما الذي مر به هذا الرجل في حياته ليقبل كل هذا الذل والضرب، كم ابنًا يعوله، بماذا تم تهديده، هل يملك بنية قوية أم أنه مريض يعاني، كم مرة وعد زوجته بأنه لن يقحم نفسه في مشاكل وهو ما حذى به للاستسلام، أفكار كثيرة قد نجهلها ونركلها في لحظة واحدة، لحظة مطلقة الظلم.

لو كنت مكانه هي أكثر الجمل ديكتاتورية، فنحن نفترض أننا وما بداخل رؤوسنا هو الصواب، وأن كل ما لا يعجبنا أو لا نستطيع فهمه أو تقبله أو حتى تفهمه لا يعدو كونه قلة أدب وسفالة وجبن وحماقة وغباء. لو انتحر أحدهم سيقفز البعض ويقول: “هذا غباء كيف ينتحر، حتى لو كانت حياته سيئة يجب أن يصبر، لو كان صالح ما انتحر، لو كان عاقل ما انتحر” وقائمة التهم تنهمر كالمطر أمام جثة هامدة تركها صاحبها، يتنازعون أمرها.

الانتحار ليس شيئًا سهلًا ولا حتى مستساغا لمن يفكر في الانتحار، ولا ينتحر الشخص من حيث يريد، ولكنه وصل مرحلة من البؤس والقنوط واليأس والكآبة تبعًا لظروفه ما لم تحتمله نفسه ولم يقوى على التغلب عليه عقله. الشخص الذي يمر بحالة الكآبة قد يظن نفسه عالة على أهله، ويظن أن أفضل ما يقدمه لهم هو أن يخلصهم منه ومن تقلباته النفسية، قد يكون وصل إليها بسبب تحرش أو حالة اغتصاب في الصغر، قد يكون بسبب معاملة قاسية من أهله، أو حتى من التنمر المستمر من زملاءه، أو سخرية الناس من شكله، أو حتى ملاحقة العالم لفضيحة ألمت به لم يجد لها من مفر سوى التخلص من حياته. لهذا اتعاطف كثيرا مع من تخلصوا من حياتهم بسبب ما كابدوه من مشاعر لا يعلمها سواهم.

مشكلة بعض العامة وربما أغلبهم أحيانا، أنهم يظنون أن خبايا الناس كلها متشابهة ومتساوية، ليس البشر جميعا متشابهون من الداخل، وإن تشابهوا في القشور، فالشخصيات تحدد تعاطي الفرد مع المواقف، فمثلًا، لو أنك احضرت زجاجتين فارغتين وألقيت بهما من ذات الارتفاع وعلى نفس السطح وبنفس الزاوية، هل من الضروري أن تنكسر الزجاجتان؟ بالطبع لا، فقد تنجو إحداهما، وحتى لو انكسرتا، فإحدى الزجاجات ستتحول لشظايا صغيرة مبعثرة، بينما الأخرى قد تتحول لسلاح قاتل، رغم أن الزجاجتين مهشمتين عمومًا لكن النتيجة النهائية مختلفة جدًا.

لذا لا تنتظر أن يتحول كل ضحية إلى سلاح، ولا تغضب إن تحول إلى حطام، ففي الختام، دواخلهما مهشمة مهما بدت صلابتهما من الخارج، حتى معادلة “حط نفسك مكانه” أي أن تطلب من أحدهم أن يحس بالآخر غير منصفة هي الأخرى، فكل شخص له كيانه وطريقة تفكيره، حالته الذهنية في تلك اللحظة، وظروفه التي لن تتشابه معك وإن جمعتهما في غرفة واحدة.

يجب أن نغير نظرتنا للآخرين ونتوقف عن إطلاق الاحكام على تصرفات الآخرين؛ فنحن لم نذق الآمهم، لم نجرب جروحهم، لم نعبر من خلال همومهم، لم نتخيل حتى الظروف التي مروا بها لتصنع بهم ما صنعت، كونك نجوت بأعجوبة من الهموم والمشاكل والاضطهاد والاستغلال والتحرش، لا يعني أن الكون كله محظوظ مثلك.