تعلم الحب ليس صعبًا ولا حتى مستحيلا، ولكنه أمرٌ مركب للغاية، بحاجة للكثير من المحاولات والصبر على الآخر، للكثير من التجاوزات والمغفرة وحسن الظن، ويحتاج أيضًا إلى قليل من التنازلات والتضحيات والإيثار، ومحاولة النظر للآخر على أن العالم لا يدور إلا حوله ومن أجله. نعم أعلم أنها كلها بديهيات لا تحتاج لأن يخبرك بها شخص متواضع مثلي، فلماذا يصعب علينا فعل كل ذلك؟ هيا بنا نبدأ من نقطة الصفر.
السؤال الذي يتبادر دائمًا هل نحن بحاجة لأن نكون على معرفة سابقة بالطرف الآخر لضمان نجاح العلاقة؟ لن أقول نعم ولا كلا، فلكل قصة أسباب نجاح، الأخذ بها هو السبيل لاستقرار العلاقة. لكن خذ على سبيل المثال لا الحصر علاقتك بطفلك، من العجيب أننا نحب أطفالنا ونحن نلتقيهم للتو، لم نتعرف عليهم من قبل، ولم نجالسهم ولم نتفق معهم ولم نتواصل حتى نخلق علاقة قوية بيننا وبينهم، وكلما كبر الطفل زاد حبنا غير المشروط به. فلماذا إذا نشترط المعرفة السابقة في الزواج للوقوع في الحب قبل الزواج حتى نستطيع أن نحب شخصًا جديدًا، عوضًا عن الظروف التي تجعلنا نحب الآخر، كالقواسم المشتركة والاتفاق والتفاهم والتواصل والمشاركة والاستكشاف.
نعم يجب أن يتأكد الطرفان من قبولهما للآخر، بلا مجاملات وبكل شفافية، ولا تقل لي “ارتحت له” فهذا لا يعد سوى الانطباع الأول، ولا تخبرني أبدًا أنك “تعرفه جيدًا” فحتى ذلك الذي تعرفه جيدًا قد يفاجئك بما لا يمكنك تصوره. ولا تقل لي سأصلى استخارة، فهذه لا تفعلها إلا بعد أن يطمئن قلبك، ويهرول سمعك خلف سمعة الآخر، ويشاور عقلك من حولك ممن تثق به. ثم وبعد أن حزمت أمتعتك، واتخذت قرار وجهتك، يسعك أن تصلي وتستخير وتدعو بما تشاء.
هنالك فرق بين الحب والشاعرية (الرومانسية) الحب شعور مركب لا يمكن ترجمته فقط بمجرد كلمات وحروف تصف على نوتة معزوفة هادئة، الحب تصرفات وردود أفعال ومشاعر مختلفة تتخلق وتتشكل وتتقلب، مستقرها ما بين القلب والعقل، يترجمها اللسان والعينان، وغالبًا كل الجوارح.
الحب ليس يوم الحب، ولا علاقة جسدية عابرة، ولا كلمات عاطفية مستهلكة. الحب يحتوي الرومانسية ولكن الرومانسية وحدها لا تحتوي الحب، إذا الرومانسية جزء من الحب وليست الحب. لذا حين تجد علاقة بنيت على الشاعرية وحدها، فإنك ستلاحظ كيف تتلاشى رويدًا حتى تختفي ولا يبقى منها سوى جروح واغرة، وأحزان لا تمحوها سوى الأيام.
الحب هو تلك التفاصيل التي قد لا تراها، الغداء الذي تتناولانه سويا وأنتما تستعيدان الذكريات، الفلم الذي تناقشانه، اللعبة التي يريد كل منكما أن يكون الفائز فيها، الحب أن يغطي أحدكما الآخر حين يغفو فجأة، الحب هو الإفطار الذي يعده من يستيقظ أولًا، الحب هو انعكاس ابتساماتكما في كوب القهوة، الحب هو المساحة التي تمنحانها لبعض مهما طالت، الحب هو الخوف من فقدان الآخر، والشعور بأنه جزء مهم من تفاصيلك، الحب هو المساهمة في ترتيب البيت، وإعداد سرير النوم، الحب أن تقتسما الحلوى واللقمة الأخيرة، الحب أن تخفي حاجتك الملحة للنوم وتعبك العظيم من أجل أن تصنع شيئًا للآخر. الحب أن تزيل شيئًا عالقًا في ثيابه أو تنبهه لشيء لم ينتبه له فتكون مرآته وانعكاسا وانعكاسا لحاجته بأن يكون أنيقًا أمام الآخرين. يمكن لكل شيء اعتيادي أن يكون تعبيرًا مثاليًا عن الحب ولكن لأننا ننظر إلى الضفة الأخرى الأكثر اخضرارًا، لا نرى ما هو جاثم أمامنا.
في العلاقة بين الرجل والمرأة، تجد الطرفان مستعجلان جدًا، هم يريدون من الآخر أن يفهمهم بدون كلام، وهذا ما نمى في عقلنا اللاوعي، فالطفل يحظى بالرعاية دون أن يطلبها، يجاهد أهله في محاولة فهم احتياجاته دون أن يتحدث عنها، يبدلون حفاظاته حين تتسخ، يطعمونه حين يشعر بالجوع، يحملونه حين يحتاج للاهتمام، يهيئون له بيئة مريحة ليخلد للنوم، وحين يحتاج لحمام دافئ يوفرونه، وكل ذلك دون أن ينطق بكلمة واحدة؛ فهما يسعيان جاهدًا لفهم احتياجاته. كبر هذا الشعور فينا حتى أصبح لزامًا على الآخر فهمنا وإن لم يفعل، فكل التأويلات تنصب في “هو لا يهتم، إذا هو لا يحبني”. لذا تذكر، أنك حتى تُفهم، يجب أن تتحدث وتعبر فلم يخلق الله لك لسانا عبثًا، ولا تعتقد أن الآخر ساحر يمكنه قراءة الطالع والأفكار والكف. حتى يمكن للآخر أن يعتذر، أن يبرر أن يلبي أن يُقَبِل، أن يحتوي، عليه أن يسمع ويتفاعل ويلمس ويصغي ويتعاطف، فامنح الآخر قدرة الساحر من خلال التواصل معه.
من السهل رؤية محاسن الشخصية التي أمامنا، ومن الصعب اكتشاف عيوبها عن بعد، فنحن نرتدي أقنعة كثيرة لا نزيلها إلا عند عتبة الباب، هنا خلف الأبواب المؤصدة، تتضح معالمنا الحقيقية، تلك المعالم التي قد تصدم العالم، وتجعله أحيانا يكرهنا، أو هكذا نشعر على أقل تقدير، لذلك نخفيها. يمكننا ان نحب الجمال والجميل، ولكن من الصعب علينا أن نقبل العيوب في الآخر، لهذا، في الزواج؛ فإن أصعب فترة قد يمر فيها الطرفان هي سنوات الزواج الأولى، حيث تتكشف كل الأقنعة. المشكلة ليست في العيوب، بقدر تعاملنا معها، فنحن نتعامل معها على أنها مشكلة كبيرة يجب أن نجد لها حلًا بأسرع وقت ممكن، لهذا نجد أنفسنا في معارك يومية مع الآخر في محاولة تغييره، وعندما نجد أنها مسؤولية كبيرة، نقرر الانفصال. التغيير شيء يحتاج للكثير من الوقت الذي يشعر الطرفان أحيانا أنهما لا يملكانه، على عكس المدرس، فهو ليس لديه سباق مع الوقت في تعليم الطالب حتى ينجح، فإن فشل الطالب فهنالك سنة ثانية وثالثة، بينما في العلاقة الزوجية نريد نتائج فورية وسريعة يمكن ملاحظتها، رغم قناعتنا الشخصية أن التغيير شيء لا يحدث فجأة وبسرعة، لذا حين يحتد النقاش ونتوتر ونصرخ ونتشاجر حتى على مكان الجوارب المتسخة.
قنوات التواصل الاجتماعي نقشت شكلًا جديدًا من الحب لا يمكن تطبيقه على أرض الواقع، روجت للحب على أنه تلك اللحظة الشاعرية التي لا تنتهي ولا تتغير ولا تتبدل ولا تُمل. فاللحظة التي تختزلها صورة، تبقى في عقلنا الباطن أكثر مما ينبغي، فتجعل الآخرين يبدون أكثر سعادة، وأشد حبًا، وأعظم رومانسية، إنها لتبقى للدرجة التي يصبح بإمكانها محو كل لحظاتك السعيدة وتجعلها تبدو بلا قيمة. من الطبيعي أن يضع أحدهم لحظاته السعيدة، والسعيدة فقط، من يريد أن يكون ضعيفًا أو حزينًا أو وحيدًا أمام الآخرين! يمكن لزوجين أن يظهرا للعالم أجمع كم هما متفقان، وسيصدقهما العالم كله إلا أنفسهم التي تخلد معهم على ذات الوسادة، لذا تذكر، لا تأخذ كل ما تراه على محمل التصديق، فكل ما يعرض هو من أجل العرض ليس إلا.
لذا يتضح بأن المجتمع رسم تصورات صعبة للحب لا يمكن تطبيقها ولكن يمكن تمثيلها وتدوينها واصطناعها، بأن المتحابين يعيشون حياة وردية، لا خلاف فيها، يحتضن المحب حبيبه كل يوم، ويغازلها كل ساعة، ويسامرها كل مساء، رغباتهما لممارسة الحب لا تنقطع حتى ليوم واحد، وهو تصور برّاق، ولكنه أشبه بالمعتقل، حيث أن من الصعب تطبيقه، لذلك قسم اليونايون الحب إلى ثلاثة أقسام وهي المشاعر الحسية التي نشعر بها في بداية العلاقة واطلقوا عليها مسمى إيروس على اعتبار أن هذه المشاعر تتلاشى تدريجيًا بعد العام الأول أو الثاني وتلاشيها لا يعني بالضرورة غياب الحب، بل تحول الحب إلى نوع آخر وهو “الصداقة” واطلقوا عليها فيليا وهي لا تعني الصداقة بمفهومها المجرد بل بمفهوم أشد عمقًا لقوة هذه الصداقة ونقائها ومشاعرها أكثر اخلاصًا وصدقًا، فتحول هذا الحب إلى هذا القالب يعني أن الشخص الآخر أصبح متعلقًا للحد الذي يكون فيه مستعدًا للتضحية بنفسه من أجل أن يعيش الآخر، أن يضحي أن يتنازل أن يقتطع مما عنده حتى يكتمل ا عند محبوبه. أما النوع الثالث فليس عملية مرور من خلال مراحل الحب، بل هي مرحلة خاصة تحدث مع الوقت وهي “قبول الآخر” بعيوبه والتعاطي مع أخطاءه ونواقصه بشعور ممتلئ بالتعاطف، ويرى بعض الفلاسفة أن هذه الكلمات قد تكون أكثر بديل منصف للحب، لأنها تصف شكلًا منطقيًا للحب، بعيدًا عن مجرداته الأدبية وتصوراته المجتمعية التي تجعل الحب لا يحدث سوى في الأفلام والمسلسلات والروايات وصور مواقع التواصل الاجتماعي، ومن المستحيل أن يحدث بين طرفين يلتقيان للمرة الأولى في موعد مدبر.