يمكننا أن نتعلم الحب !

 

DSC_6839-42

تعلم الحب ليس صعبًا ولا حتى مستحيلا، ولكنه أمرٌ مركب للغاية، بحاجة للكثير من المحاولات والصبر على الآخر، للكثير من التجاوزات والمغفرة وحسن الظن، ويحتاج أيضًا إلى قليل من التنازلات والتضحيات والإيثار، ومحاولة النظر للآخر على أن العالم لا يدور إلا حوله ومن أجله. نعم أعلم أنها كلها بديهيات لا تحتاج لأن يخبرك بها شخص متواضع مثلي، فلماذا يصعب علينا فعل كل ذلك؟ هيا بنا نبدأ من نقطة الصفر.

السؤال الذي يتبادر دائمًا هل نحن بحاجة لأن نكون على معرفة سابقة بالطرف الآخر لضمان نجاح العلاقة؟ لن أقول نعم ولا كلا، فلكل قصة أسباب نجاح، الأخذ بها هو السبيل لاستقرار العلاقة. لكن خذ على سبيل المثال لا الحصر علاقتك بطفلك، من العجيب أننا نحب أطفالنا ونحن نلتقيهم للتو، لم نتعرف عليهم من قبل، ولم نجالسهم ولم نتفق معهم ولم نتواصل حتى نخلق علاقة قوية بيننا وبينهم، وكلما كبر الطفل زاد حبنا غير المشروط به. فلماذا إذا نشترط المعرفة السابقة في الزواج للوقوع في الحب قبل الزواج حتى نستطيع أن نحب شخصًا جديدًا، عوضًا عن الظروف التي تجعلنا نحب الآخر، كالقواسم المشتركة والاتفاق والتفاهم والتواصل والمشاركة والاستكشاف.

نعم يجب أن يتأكد الطرفان من قبولهما للآخر، بلا مجاملات وبكل شفافية، ولا تقل لي “ارتحت له” فهذا لا يعد سوى الانطباع الأول، ولا تخبرني أبدًا أنك “تعرفه جيدًا” فحتى ذلك الذي تعرفه جيدًا قد يفاجئك بما لا يمكنك تصوره. ولا تقل لي سأصلى استخارة، فهذه لا تفعلها إلا بعد أن يطمئن قلبك، ويهرول سمعك خلف سمعة الآخر، ويشاور عقلك من حولك ممن تثق به. ثم وبعد أن حزمت أمتعتك، واتخذت قرار وجهتك، يسعك أن تصلي وتستخير وتدعو بما تشاء.

هنالك فرق بين الحب والشاعرية (الرومانسية) الحب شعور مركب لا يمكن ترجمته فقط بمجرد كلمات وحروف تصف على نوتة معزوفة هادئة، الحب تصرفات وردود أفعال ومشاعر مختلفة تتخلق وتتشكل وتتقلب، مستقرها ما بين القلب والعقل، يترجمها اللسان والعينان، وغالبًا كل الجوارح.

الحب ليس يوم الحب، ولا علاقة جسدية عابرة، ولا كلمات عاطفية مستهلكة. الحب يحتوي الرومانسية ولكن الرومانسية وحدها لا تحتوي الحب، إذا الرومانسية جزء من الحب وليست الحب. لذا حين تجد علاقة بنيت على الشاعرية وحدها، فإنك ستلاحظ كيف تتلاشى رويدًا حتى تختفي ولا يبقى منها سوى جروح واغرة، وأحزان لا تمحوها سوى الأيام.

الحب هو تلك التفاصيل التي قد لا تراها، الغداء الذي تتناولانه سويا وأنتما تستعيدان الذكريات، الفلم الذي تناقشانه، اللعبة التي يريد كل منكما أن يكون الفائز فيها، الحب أن يغطي أحدكما الآخر حين يغفو فجأة، الحب هو الإفطار الذي يعده من يستيقظ أولًا، الحب هو انعكاس ابتساماتكما في كوب القهوة، الحب هو المساحة  التي تمنحانها لبعض مهما طالت، الحب هو الخوف من فقدان الآخر، والشعور بأنه جزء مهم من تفاصيلك، الحب هو المساهمة في ترتيب البيت، وإعداد سرير النوم، الحب أن تقتسما الحلوى واللقمة الأخيرة، الحب أن تخفي حاجتك الملحة للنوم وتعبك العظيم من أجل أن تصنع شيئًا للآخر. الحب أن تزيل شيئًا عالقًا في ثيابه أو تنبهه لشيء لم ينتبه له فتكون مرآته وانعكاسا وانعكاسا لحاجته بأن يكون أنيقًا أمام الآخرين. يمكن لكل شيء اعتيادي أن يكون تعبيرًا مثاليًا عن الحب ولكن لأننا ننظر إلى الضفة الأخرى الأكثر اخضرارًا، لا نرى ما هو جاثم أمامنا.

في العلاقة بين الرجل والمرأة، تجد الطرفان مستعجلان جدًا، هم يريدون من الآخر أن يفهمهم بدون كلام، وهذا ما نمى في عقلنا اللاوعي، فالطفل يحظى بالرعاية دون أن يطلبها، يجاهد أهله في محاولة فهم احتياجاته دون أن يتحدث عنها، يبدلون حفاظاته حين تتسخ، يطعمونه حين يشعر بالجوع، يحملونه حين يحتاج للاهتمام، يهيئون له بيئة مريحة ليخلد للنوم، وحين يحتاج لحمام دافئ يوفرونه، وكل ذلك دون أن ينطق بكلمة واحدة؛ فهما يسعيان جاهدًا لفهم احتياجاته. كبر هذا الشعور فينا حتى أصبح لزامًا على الآخر فهمنا وإن لم يفعل، فكل التأويلات تنصب في “هو لا يهتم، إذا هو لا يحبني”. لذا تذكر، أنك حتى تُفهم، يجب أن تتحدث وتعبر فلم يخلق الله لك لسانا عبثًا، ولا تعتقد أن الآخر ساحر يمكنه قراءة الطالع والأفكار والكف. حتى يمكن للآخر أن يعتذر، أن يبرر أن يلبي أن يُقَبِل، أن يحتوي، عليه أن يسمع ويتفاعل ويلمس ويصغي ويتعاطف، فامنح الآخر قدرة الساحر من خلال التواصل معه.

من السهل رؤية محاسن الشخصية التي أمامنا، ومن الصعب اكتشاف عيوبها عن بعد، فنحن نرتدي أقنعة كثيرة لا نزيلها إلا عند عتبة الباب، هنا خلف الأبواب المؤصدة، تتضح معالمنا الحقيقية، تلك المعالم التي قد تصدم العالم، وتجعله أحيانا يكرهنا، أو هكذا نشعر على أقل تقدير، لذلك نخفيها. يمكننا ان نحب الجمال والجميل، ولكن من الصعب علينا أن نقبل العيوب في الآخر، لهذا، في الزواج؛ فإن أصعب فترة قد يمر فيها الطرفان هي سنوات الزواج الأولى، حيث تتكشف كل الأقنعة. المشكلة ليست في العيوب، بقدر تعاملنا معها، فنحن نتعامل معها على أنها مشكلة كبيرة يجب أن نجد لها حلًا بأسرع وقت ممكن، لهذا نجد أنفسنا في معارك يومية مع الآخر في محاولة تغييره، وعندما نجد أنها مسؤولية كبيرة، نقرر الانفصال. التغيير شيء يحتاج للكثير من الوقت الذي يشعر الطرفان أحيانا أنهما لا يملكانه، على عكس المدرس، فهو ليس لديه سباق مع الوقت في تعليم الطالب حتى ينجح، فإن فشل الطالب فهنالك سنة ثانية وثالثة، بينما في العلاقة الزوجية نريد نتائج فورية وسريعة يمكن ملاحظتها، رغم قناعتنا الشخصية أن التغيير شيء لا يحدث فجأة وبسرعة، لذا حين يحتد النقاش ونتوتر ونصرخ ونتشاجر حتى على مكان الجوارب المتسخة.

قنوات التواصل الاجتماعي نقشت شكلًا جديدًا من الحب لا يمكن تطبيقه على أرض الواقع، روجت للحب على أنه تلك اللحظة الشاعرية التي لا تنتهي ولا تتغير ولا تتبدل ولا تُمل. فاللحظة التي تختزلها صورة، تبقى في عقلنا الباطن أكثر مما ينبغي، فتجعل الآخرين يبدون أكثر سعادة، وأشد حبًا، وأعظم رومانسية، إنها لتبقى للدرجة التي يصبح بإمكانها محو كل لحظاتك السعيدة وتجعلها تبدو بلا قيمة. من الطبيعي أن يضع أحدهم لحظاته السعيدة، والسعيدة فقط، من يريد أن يكون ضعيفًا أو حزينًا أو وحيدًا أمام الآخرين! يمكن لزوجين أن يظهرا للعالم أجمع كم هما متفقان، وسيصدقهما العالم كله إلا أنفسهم التي تخلد معهم على ذات الوسادة، لذا تذكر، لا تأخذ كل ما تراه على محمل التصديق، فكل ما يعرض هو من أجل العرض ليس إلا.

لذا يتضح بأن المجتمع رسم تصورات صعبة للحب لا يمكن تطبيقها ولكن يمكن تمثيلها وتدوينها واصطناعها، بأن المتحابين يعيشون حياة وردية، لا خلاف فيها، يحتضن المحب حبيبه كل يوم، ويغازلها كل ساعة، ويسامرها كل مساء، رغباتهما لممارسة الحب لا تنقطع حتى ليوم واحد، وهو تصور برّاق، ولكنه أشبه بالمعتقل، حيث أن من الصعب تطبيقه، لذلك قسم اليونايون الحب إلى ثلاثة أقسام وهي المشاعر الحسية التي نشعر بها في بداية العلاقة واطلقوا عليها مسمى إيروس على اعتبار أن هذه المشاعر تتلاشى تدريجيًا بعد العام الأول أو الثاني وتلاشيها لا يعني بالضرورة غياب الحب، بل تحول الحب إلى نوع آخر وهو “الصداقة” واطلقوا عليها فيليا وهي لا تعني الصداقة بمفهومها المجرد بل بمفهوم أشد عمقًا لقوة هذه الصداقة ونقائها ومشاعرها أكثر اخلاصًا وصدقًا، فتحول هذا الحب إلى هذا القالب يعني أن الشخص الآخر أصبح متعلقًا للحد الذي يكون فيه مستعدًا للتضحية بنفسه من أجل أن يعيش الآخر، أن يضحي أن يتنازل أن يقتطع مما عنده حتى يكتمل ا عند محبوبه. أما النوع الثالث فليس عملية مرور من خلال مراحل الحب، بل هي مرحلة خاصة تحدث مع الوقت وهي “قبول الآخر” بعيوبه والتعاطي مع أخطاءه ونواقصه بشعور ممتلئ بالتعاطف، ويرى بعض الفلاسفة أن هذه الكلمات قد تكون أكثر بديل منصف للحب، لأنها تصف شكلًا منطقيًا للحب، بعيدًا عن مجرداته الأدبية وتصوراته المجتمعية التي تجعل الحب لا يحدث سوى في الأفلام والمسلسلات والروايات وصور مواقع التواصل الاجتماعي، ومن المستحيل أن يحدث بين طرفين يلتقيان للمرة الأولى في موعد مدبر.

دعيني أخبرك بسر!

26060318_10155809463350446_4788323466595308592_o

كنت أشاهد أحد الأنمي المفضلين لدي، أكاديمية الأبطال، وفي أحد المشاهد المحورية والمؤثرة، همست عيني ببعض الدمع في نفس اللحظة التي دخلت فيها زوجتي الغرفة، حاولت إخفاء الدمع ولكن دون جدوى، ما كان من زوجتي إلا أن أتت من خلفي وأخذت تمسح دموعي وهي تبتسم وتقول “علمت من الخلفية الموسيقية أنك ستبكي هنا”، ابتسمت وقلت لها اجلسي هنا دعيني أخبرك بسر.

كان ذلك السر هو نظرتي الشخصية وراء الأسباب التي تدفعنا للبكاء أو التأثر بشدة لمشهد ما.

في مشاهد الأفلام والمسلسلات وحتى القصص التي نقرؤها قد نتأثر، نحزن، أو في حالات التعلق العظمى نبكي، نبكي لأن المشهد حزين، والموسيقى مهيئة للحالة النفسية القادمة، ولأن النص يحكي بتفصيل يجعلنا ندهن لوحة المشهد الدرامي المحبوك بعناية، غالبا يبكي الناس عندما يتعلقون بشخصية، أما أولئك الموتى على هوامش النص أو المشهد فلا تربطنا به علاقة وطيدة حتى يتسنى لنا أن نعيش اللحظة، بل وجهاز التحكم بمشاعرنا موجودة لدى المؤلف أو المخرج، يسلط الضوء على الشخصيات التي تساهم في ذلك الرابط الخفي الذي نكونه مع الشخصيات الوهمية التي تؤدي الدور.

غالبا يظن الناس أن تأثرهم بسبب حزن المشهد، ولكن هذا فهم عام وسطحي بعض الشيء، فليست كل المشاهد الحزينة مستفزة للدموع، ربما التعاطف غالبًا، ولكن الدموع لا تنهمر بسهولة في تلك المشاهد، وما يجعلنا حقًا نبكي عدة أمور نسردها منفردة.

مجمل حالات تعاطفنا وتأثرنا يكون مع شخصيات محورية جاهد الكاتب في ربطنا بحياته وتفاصيله حتى أصبح بيننا وبينه علاقة حميمة وكأنه صديق أو فرد من أسرة أو حتى حبيب سري. وأي شيء يصيب تلك الشخصية يستحث بكائنا ودموعنا وتعاطفنا. ودعنا نسميه، العلاقة العاطفية الوهمية مع الشخصية.

يأتي في المرتبة الثانية، استعدادنا العاطفي للتأثر بالمشهد، فقد نكون بحاجة للتعبير عن أحزاننا ولكننا نفشل بجدارة في اخراج تلك الكومة الكبيرة من المشاعر، فنحن معتادين على الكتمان والتجاهل وعدم إعطاء الحزن حقه وكفايته في حياتنا، وحين يمر من بين أطراف رموشنا مشهد حزين، فإننا نخرج ما نظنه تأثر بالمشهد، وكل ما في الأمر أننا نخرج تلك الأحزان التي لم نمارس البكاء معها.

في عصر التكنلوجيا والسرعة والمال، تضيع مشاعرنا بين حزمة العلاقات المادية وعلاقات المصلحة حتى بين أفراد العائلات والأسر، مما يفقدنا كثير من المشاعر الإنسانية، والمحبة والمودة والحنان وكذلك الشاعرية، تلك المشاعر المكبوتة والمحبوسة في زنزانة الجفاف العاطفي تبحث عن مستقرها ومستودعها، والذي غالبا لا تجده، فيجد المرء نفسه تائها روحيا، لا يدري ماذا يفعل حتى يفرغ تلك الكمية من المشاعر، أو كيف يمارسها، ولا يتأتى له إلا عبر الشاشة أن يعيش تلك المشاعر لتستفز وعيه واللاوعي بداخله، فتجده يبكي ويحزن ويحب ويصرخ ويشجع ويتعاطف مع المشاهد والشخصيات والمواقف، فممارسة المشاعر الوهمية أفضل طريقة لحياة نفسية مستقرة، في عالم المصالح والمادة.

وأخيرا وليس آخرًا، وهو أهم نقطة لا يشعر بها الناس، وهي الرابط الواقعي بين المشهد وحياتنا الشخصية، من حالات الخذلان والخيانة، لحظات الإحباط والحاجة، ومشاهد الحياة التي تشبهنا إلى حد ما. نحن نبكي حين يكون المشهد مرآة لحالاتنا الشخصية، وتراكماتنا النفسية العميقة، وشعورنا بأن هنالك أمل قابع في ركن ما، شعورنا بأننا لسنا وحدنا من يعاني، لسنا وحدنا من يحمل وجعًا، لسنا وحدنا من يحمل جرحا أو ندبة عميقة، ولأن هذه المشاهد تقتحم العمق في عقلنا اللاوعي أكثر من عقلنا الواعي، فإننا نبكي أحيانا دون أن ندري أننا وفي العمق نبكي على أنفسنا التي نراها متمثلة في فلم سينمائي، مشهد أنمي، أو حتى رواية.

لذا حين تجد أحدهم يبكي على مشهد، لا تسخر من مشاعره، فأنت لا تعلم حقًا ما يوجد في العمق، ولكنك تعلم الآن أن في العمق ربما توجد شخصية هشة، أضعفتها الحياة، ولم تجد متسعًا سوى تلك الشاشة لتفرغ فيها تلك الحجارة عبر محجريها. وأننا حقًا بحاجة لأن نتذكر دائمًا أننا كنا ولا زلنا بشرًا ولسنا مجموعة حجارة.

المنبه الذي لا يرن

22491486_10155623227045446_2779728727379722435_n

إنها الثانية عشر منتصف الليل، يحصل يوسف على وجبة العشاء، وهي عبارة عن زجاجة حليب، يتهجى النوم على وسادته الصغيرة حتى ينام، يحاول الثرثرة، وكل ما يخرج من فمه هي محض أصوات يحاول تلحينها حتى ينام.

لأكسب بعض الوقت اتناول زجاجات الرضاعة لأغسلها، صدقني لن ترغب في غسل زجاجة مخصصة لتقليل الغازات، ففيها الكثير من القطع التي عليك أن تدخل فيها أنواع مختلفة من فرش التنظيف. عيني تراقب الساعة حتى لا تفر بالوقت، ادس الزجاجات والقطع في جهاز التعقيم، اضع الماء في الغلاية، اجهز سريري واتمدد.

اتذكر أنه يتعين على ضبط المنبه على الوقت المحدد، اضغط على زر التشغيل، وأكاد اقسم أن الجهاز اللعين يسخر مني حين يظهر لي ما تبقى من وقت ليرن المنبه، ساعتان وأربعون دقيقة، إن الوقت لا يجامل أحدا. ارفع كفي إلى السماء وادعو أن ينام هو بشكل جيد حتى يتسنى لي أن أنام بشكل أقل من جيد.

استيقظ مفزوعًا، اطل عليه، إنه نائم، هو فقط يصدر اصواتًا، اضع يدي قرب انفه، إنه يتنفس الحمد لله، اعاود النوم، وبعد ساعة اسمع صياحا متقطع، ارفع يدي من تحت الغطاء متمنيا أنه لم يستيقظ بعد وأن هذه اضغاث أحلامه الصغيرة. يتحول الصياح المتقطع إلى بكاء متصل، انهض مثقلا بسهر الأيام الماضية، أمضي نحو المصباح وأصنع به عكس ما اصنعه بجهاز التكييف.

اخرج الزجاجة وبالملقط احشر القطع في بعضها، اغلي الماء، احضر الثلج، ابرد بعض الماء الجاري وأضعه في كأس أحشر فيها الحليب ليبرد، الصياح يتعالى، اهرع لأحمله حتى يسكت، اتناول الحليب بعد ان فتر، احمله واضمه إلى صدري، وأرضعه من الزجاجة، بينما يتردد على نظري ضباب النعاس.

الممرضة قالت: دعه يتجشأ حتى لا يتقيأ، هكذا انظر. عملية صعبة، ضمه إلى صدرك ورأسه على مستوى كتفك، ربت على ظهره، واقسم بالله أن التربيت ليس جزء من العملية، ولكنني تعودت على ذلك لأوهم نفسي أنها أسرع طريقة لجعله يتجشأ، الوقت يمضي بسرعة خيالية، وبعد أن يفرغ من زجاجته، اضعه في مهده واقوم بتغطيته ثم اجلس لادردش معه، لا يبدو أنه يريد النوم ما الخطب يا ترى. انظر إلى الساعة، إنها الثالثة والنصف صباحا!

حبيبي متى ننام، أنا متعب جدًا، أتذكر شيئًا، علي تغيير الحفاظ، وقبل أن افكها، ارفع كلتا كفي إلى السماء، ثم أهمس له وأقول لا تقل لي أنك فعلتها ! هذا ليس الوقت المناسب لأسوأ مهمة، لست مستعدا لذلك يا حبيبي، وللأسف، يبتسم هو معلنا أنني في ورطة. انظفه واضطر لاعداد كمية صغيرة من الحليب حتى ينام بها.

اضبط المنبه كل ثلاث ساعات كما قالت الطبيبة، إنها عملية شاقة جدًا، بالكاد يمكنك أن تقضي منها ساعتين، لأن الساعة الأولى تنقضي في غسل الزجاجات وتعقيمها، وفي استيقاظه قبل منبهك بالطبع، ينقضي المساء وبالكاد حصلت على ثلاث إلى أربع ساعات من النوم المتقطع، كأنك تحمل شطيرة، تتناول منها قضمة كل ساعة، فلا أنت شبعت، ولا أنت استمتعت، وتبقى أمام خيار واحد، أن تقرر النهوض والاستحمام لتطرد النوم متمنيا أن يكون نوم الغد أفضلا حالا من اليوم.

وينقضي النهار بنفس الوتيرة، ولكن استبدل النوم بقضية أخرى، الكتابة، القراءة، مشاهدة التلفاز أو حتى النوم… الخ

آه نسيت أن أخبركم، زوجتي سافرت لتقدم امتحانات نهاية السنة، وأنا الآن في نهاية الأسبوع الثانية منذ استلامي العهدة الكاملة لرعاية ابني يوسف، الآن فقط فهمت معنى الأم الحقيقي، معنى أن تسهر أمك وأنت نائم، معنى أن تتعب وأنت مرتاح، معنى أن تقلق وأنت مطمئن.

الآن فقط فهمت لماذا لا يستطيع أغلب النساء أن يعتنين بأنفسهن، لماذا لا يملكن الوقت للقيام بمهام أخرى سوى الرعاية، لماذا مزاجهن متعكر، لماذا أجسادهن منهكة، أنا انقطعت عن الكتابة والقراءة والخروج من البيت، فلا يمكنك أن تنظم وقت الأطفال، فالأطفال كائنات عشوائية، لهذا لا تظن أن بإمكانك تنظيم وقتك، فهم وقتك ومنبهك الوحيد.

اعتذر لجميع المتابعين عن الانقطاع، ولكن حقا قلة النوم مأزق كبير، ودور الأم أعظم من أن يتقمصه رجل.

هنا وصلة لمقال اشكالية النوم، مرتبط جزئيا بهذا المقال

https://altaye6.com/2017/10/06/sleepingprob/

لماذا تفشل علاقاتنا

22550472_10155615138395446_4375303614313961386_o

العلاقات والمعارف هي هدف الإنسان الدائم في الحياة، فهو كائن مفطور على المشاركة والتفاعل والحب، ومن دون الآخر الإنسان لا يمكنه أن يعيش، وسيبحث بطبيعة الحال عن شبيه له، حتى لو كان ذلك الشبيه شيء مختلق من خياله. استحضر في هذه اللحظة الكرة التي كان يصادقها بطل فلم castaway والتي أسماها بويلسون. تلك الكرة التي كان يدردش معها ويشكو لها ويصطحبها أينما ذهب وارتحل ويحاول استشارتها وحتى اطعامها، رغم عدم تجاوبها معه واستحالة ذلك -إلا في عقله طبعا-. وذلك حتى لا يصبح مجنونا لاتساع بقعة الوحدة التي يعاني منها بطل الفلم.

الذكاء الاجتماعي مصطلح جديد يصف مدى قدرة الشخص على التعاطي، التنقل والتفاوض في العلاقات الاجتماعية المعقدة والبيئات المختلفة بفاعلية، لكن كون الشخص ذكي اجتماعيا، لا يخوله ولا يمنحه القدرة المطلقة للمحافظة على العلاقات، إنما على فتح وتكوين علاقات جديدة بالأصح؛ فلماذا ومهما بلغنا من مهارات اجتماعية، نخسر علاقات كثيرة كلما مضينا قدمًا بأعمارنا؟ الإجابة الأقصر! لأن حالاتنا البشرية متغيرة ومتقلبة سواء من جهتنا نحن أم من جهة الآخر الذي نحاول التمسك به.

في كل مرة تقابل أحدًا ما، لن تكون حاملا ذات الأفكار والهموم أو حتى المشاعر، وهذا ما يجعلنا أو الآخر نرسم الكثير من الخيالات حول سبب تغير هذا الشخص، ربما غاضب مني، ربما لم يعد يحبني، ربما ازعجته، ونبدأ بوضع كلماته وجمله وحتى تنهيداته على طاولة التحقيق، نحاول أن نفكك كل جملة، وأن نحلل كل عبارة، ما يضعنا في موقف دفاعي جدًا يؤهلنا لتعكير صفو اللقاء، وقد نحمل تلك الأفكار معنا إلى البيت حتى السنة القادمة من التفكير، وقد يستحيل الأمر في أفضل الحالات إلى سوء ظن وتسرع في إطلاق الأحكام

ولا نكتفي بهذه الجريمة وحدها، بل حتى لا نبادر في مصارحة الآخر “ربما” حول المشكلة أو الأفكار التي تجول في رؤوسنا عمومًا، وهذا يترك فجوة كبيرة بين طرفي القضية، فالمصارحة مهمة، ولكن يجب أن يتم الباسها ثوب الهدوء والمودة.

الصدق فضيلة، ولكنه في العلاقات ليس كذلك دائمًا، فغالبا الصدق ليس بمنجاة فيها، بل أحد أكبر مدمريها. ولأننا لا نجيد أخبار كذبة محكمة، نفقد ثقة الآخر، وأحيانا ليس لأننا لا نخبر كذبة جيدة، بل لأننا ننسى الأكاذيب التي رتلناها، وبعد مدة طويلة يُفتضح أمرنا، فحبل الكذب أقصر من المسافة بين ألسنتنا وأسماعهم، لسنا بحاجة لأن نكون “كَذَبَة” إنما الأمر متوقف على الوضع الراهن والذي يحتم علينا أن نكذب، فقد يكون الكذب هو حبل النجاة الأخير الذي يجعل العلاقة متماسكة أكثر. قد يعترض البعض على هذه الفكرة ولكنني مؤمن أن العلاقات لا تنجو إلا بمس من كذب.

لا عيب أن نتمسك بعاداتنا وألا نخرج من قوالبنا، لكننا نبالغ أحيانا في ذلك، للدرجة التي نجعل من حولنا رهن تلك العادات والتصرفات، كأن نشترط شرب الماء في كوب زجاجي أزرق، أو نضع الجميع تحت رحمة التكييف الذي تشير لوحته للرقم 16 درجة مئوية! يمكنك بكل بساطة أن تجد أرضية مشتركة لكل شيء، فلست وحدك في تلك الغرفة، وليست المطابخ مجمعا تجاريا لتناسب ذوق شربك، فاوض في التكييف، واقبل ما يقدم لك، وراقب عاداتك وتذكر أن تجعلها في حدودٍ لا تضايق أحدًا منك أو من نفسه.

وكونك قد تنازلت لا يعني بالضرورة أن يشعرك ذلك بأنك أكثر من قدم التضحيات، فهذه هي علة العلاقات، أن جميع الأطراف تظن أنها قدمت ما لم يقدمه الآخر، أو قدمت أكبر التضحيات والتنازلات، وكأن الموضوع تحدٍ، وكأن القضية سباق، أنا فعلت وفعلت، نرددها وكأننا نتحسر على ما قدمناه، فنجعل الآخر يشعر بأن الأمر منّة وحتى نشعر أنفسنا بأن هذا هو أصل العلاقة، وأننا لم نقدم له من باب المودة أو الحب، إنما من باب التداين، قدم وسأرد لك، افعل وسأفعل لك، وهو ما اخرج العلاقات من سياق المودة إلى سياق أقرب ما يكون إلى المن منه إلى العتاب.

ولا نكف حتى نخوض غمار سباق آخر، فنحن وكأننا في مسابقة من سيخسر المليون، نستسهل التخلي عن علاقاتنا، لا نكلف أنفسنا إلا ما نظنه وسعها، فلو اجفل منا شخص أو غاب، فإننا نهمله ونتخلى عنه بسهولة. كنت أدردش مع أحد أقربائي قبل فترة طويلة عن الصداقات والعلاقات وكيف أنني استطعت الحفاظ على علاقاتي الأهم بكل السبل الممكنة، فحدثني عن صديق مقرب له، وكيف أنه وعده وبعد طول غياب بزيارته حين عاد من السفر، صديقه الذي بكى فراقه، لم يكن حاضرًا ابدًا في عدة زيارات خاطفة له. فقلت له: افعل ما ينبغي، اطمئن عليه، فلربما هنالك ما يضايقه في حياته الخاصة، وحين بادر قريبي بالتصرف، ما كان من صديقه إلا أن فتح قلبه وأخبره أنه يمر بظروف لا تطاق وأنه سيلتقيه ليفضفض له. نحن لا نعذر الناس، ولا نفترض حسن النوايا في الغياب، ونصغي دائمًا لأولئك الذين يرددون “ارحل عمن انشغل عنك” “لا تطارد من يتخلى عنك”، دون أن نضع كل شيء تحت المجهر، لنرى ما الذي يحدث، وكل ما نفعله أننا نبادر بالرحيل، فذلك يشعرنا بالرضى المؤقت والحسرة الطويلة، نرحل لأننا ببساطة نكتفي بسبب واحد للفراق، بينما لا يكفينا ألف سبب لنستعيد صديقا.

وآخر إشكالية وأهمها، أننا تحولنا لكائنات مادية، يهمها ما ستحصل عليه من الآخر أكثر مما عليها تقديمه، نهمل التفاصيل الصغيرة، كالاهتمام، والتقدير والحب والامتنان والشكر والمشاعر التي يكنها الآخرين، ننسى المساعدة و”الفزعة” حين يفشل الآخر في تلبية رغائبنا المادية، نتيه في دائرة “العشم” ورفع الآمال والتوقعات؛ فالأقرباء أو الآباء أو حتى الأصدقاء تجد بعضهم ينتظر من الآخر أن يقدم له شيئا ما مقابل صداقته، مقابل أبوته، مقابل قرابته، وكأن أساس العلاقات هو توزيع الماديات والأموال، ومن لا يقدم أو لايدفع مقابل العلاقة فهو غير مخلص لها. والمشكل يحصل لو كان لديهم قريب ثري، أو ربح اليانصيب، أو حظى على منصب رفيع، فالكل يأمل أن ينال حظا من ذلك الثراء أو تلك الجائزة أو هذا المنصب، كأن يهبهم سيارة، عقدا من الذهب، مبلغا مجزيا من المال، هم لا يطلبونه، هم يشعرون أن ع الآخر دائما المبادرة والنظر بعين العطاء تجاههم، الطرف الآخر لا ينظر للمعادلة دائما بنفس الشكل، لذلك يخسر الناس دون أن يدري ما المشكل، قد لا يراهم هو محتاجين له أو لثروته جائزته أو منصبه، فهذا ما يعكسونه في أحاديثهم، أما مكنوناتهم الشاعرة بالخذلان، فتحمل الكثير من الحزن والغضب والكراهية، التي تنخر جدار المودة حتى ينهار ويفصل بينهما. وأعتقد بأن من يربح اليانصيب سيخسر الجائزة وكذلك الناس.

هذه أهم الأسباب التي تفشل بسببها علاقاتنا وتفسد غالبا مودتنا، متى بدأنا في التخلص منها تباعا، عشنا مرتاحين مطمئنين متفائلين بعلاقات عظيمة نحكيها ونربيها في أبنائنا وأحفادنا. وتذكر أن العلاقات الاجتماعية تحتاج لصيانة مستمرة، وحسن ظن كبير، وتواصل ووضوح متصل.

انتهى المقال. بالأسفل قصة مرتبطة بالمقال لمن أراد أن يكمل المشوار.

 

 

حين كنت في الصف الخامس الابتدائي، اختصمت وصديق لي لا اذكر سبب الخلاف، امتنعت عن مرافقته للمدرسة، والجلوس معه في الفسحة ومشاغبته من خلال النافذة أثناء الحصة، وكل شيء تقريبا يصنعه الأصدقاء. بينما كان هو يلاحقني في الطريق، وينتظرني عند باب الفصل قبل الفسحة، وكل هذا وأنا متعصب للخصام متمسك به، وحين لم يجد مخرجًا، لم يرضى أن يعود بخفي حنين، بل عاد بأمه وطرق باب بيتنا، صدمت لرؤيته مع أمه، وهي تشكو خلافنا: يا أم طارق، لماذا يختصم أحمد وسلمان، سلمان يود الاعتذار ولكن أحمد لا يريد، أريدهما أصدقاء، ولا أريد لهما أن يختصما. كنت متجهما اطل من خلف أمي بغضب، حينها نادتني وقالت، هيا تصافحا وتصالحا أنتما صديقان جيدان. وحينها كما يقال “طاح الحطب” وعدنا صديقين حميمين جدا. هذه القصة لفتتني لأمر جعلني لا أنساها، وهو أن هذا الصديق فعل كل شيء، كل شيء للتمسك بالعلاقة وعدم خسارتها، رغم عنادي وتعصبي وحنقي، لم يستسلم، لم يستسهل خسارة صديق، لم يتردد في أن يحرج نفسه بجلب والدته للقيام بصلح الابتدائية. هكذا فقط يجب أن تحفظ العلاقات، بنفس البراءة، فالعلاقات أعظم قيمة من أن نبعثرها ونتهاون في افشالها.

 

ليتني لم أتزوج

.

DSC_4287

مقدمة: علماء النفس يؤمنون أن البشر يجتمعون في صفات، ويختلفون في صفات أخرى، تلك الصفات التي تحددها ظروفهم، ولأن ظروف الجميع ليست ولن تكون متشابهة؛ قد لا تجد أن هذا المقال يتحدث عنك، أو حتى يتحدث حتى عني. إن كنت هنا أو لم تكن، لا بأس بأن تؤمن بأن هذا النص قد يعود عليك بالفائدة.

الزواج بداية مشوار جديد، وشراكة بين طرفين جمعتهما الصدفة والقدر، وقواسم مشتركة وعادات وتقاليد، وحالات قسرية وعرفية وطرق أخرى غير شرعية. يتعارف الطرفان ويتفقان. بين فترة وجيزة، وسنوات عديدة. نظن أن طول المدة سيبني معرفة كافية وكفيلة بأن تقرر وتؤكد مستقبل السعادة الزوجية كثيرًا، ولكن احتمال قابلية حدوث ذلك صعبة وقد تضمنها في حالة واحدة فقط “في حال ضمنت أن طرفي القضية غير قابلين للتغير” وهذا مستحيلٌ استحالة الحلم العربي.

العقل يعمل بشكل يضمن استقرار هذا الكائن، لذلك دائما ما يحاول استعادة اللحظات السعيدة والجميلة، بينما يسعى جاهدا لدفن التجارب والمواقف السيئة التي مر بها الشخص، ليحافظ على تدفق الهرمونات التي تبعث على راحة الجسد وتقلل من الدخول في حالات حزن أو أسي أو حتى حسرة، وذلك لضمان قدرتنا على تجاوز الأزمات والمصائب التي تحل بنا. ومن لا يملك هذه القدرة الرائعة، غالبا ما يكون أسير الاكتئاب وهو ما يقود بعض هؤلاء البؤساء للانتحار.

بعد الرؤية الشرعية أو النظرة الجامعية – يمكنك الرجوع لهذا المقال في المدونة – نبدأ في التعارف ومحاولة إيجاد الحلقات المتشابهة التي تجعل من الممكن لمن اعجبنا به وارتحنا لملامحه أن نرتبط معه بذلك العَقد الأبدي بظننا. في الفترة الأولى نرى تلك التي لمحناها أجمل فتاة، وذلك الذي زارنا أوسم رجل. نبدأ في جلسة واحدة نتخيل أن سنواتنا ستكون زاخرة بالفرح مفتقرة للحزن والكآبة، لا يأتي على خاطرنا أي فكرة سوداء، ولا يزورنا هم ولا تراودنا الخلافات عن نفسها البتة، كل شيء يبدو كمشهد في قصة سندريلا.

نُظهر في شهورنا الأولى كل الخير الذي بداخلنا. لا تكاد تفارقنا ثياب الملائكة، وشياطيننا لا تعرف مكانا في تصرفاتنا. نرسم الأحلام والأوهام وقصص الأطفال والعائلة المثالية. نظن بأننا ما أن نلج إلى قلعتنا فإننا سنولد من جديد بلا خطيئة. المدمن سيستقيم، والعاهرة ستمسي مخلصة، والمجنون سيصبح عاقلا؛ وكأن الزواج بعث جديد.

وقبل أن ننصدم بواقع كوننا مجرد بشر تطاردنا خطايانا التي نحاربها حتى ننتصر أو تنتصر هي؛ نقع في فخ آخر ما أن تدق نواقيس الزواج. فخ المقارنة؛ وكأن ميلاد العيون كان في تلك الليلة. يرى الشاب أن خياراته المحدودة قبل الزواج باتت أكبر من أن يحتمل بصره أو تتسع له خاناته الأربع. يرى صديقات عروسه، وبنات عماته، يتذكر حبيباته السابقات وبنات جيرانه، وكل الفتيات الذين في العالم يمرون على بصره كشريط الموت. المشهد أوسع من أن يحصره، يمسح من وجهه الذي تصبب عرقا كل تلك الفرص التي لم تطرح على طاولته قبلا، ثم يزيد الطين بلة أن يسمع همس بعض النسوة “هو أحلى منها” يعود محاولا التبسم في وجه عروسه التي بات يراها أبشع مما هي عليه.

بينما تأتي هذه الحالة متأخرة عندها هي، فهي ستراه أجمل البشر، لكن حين تبدأ لحظات الخلاف المتكرر ومحاولات التأقلم في المرحلة الأولى، تبدأ في البحث بين الأسماء والأشكال التي تعرفها عن ألطفها، وإن لم تجد فستبحث عن وجه أبيها وما يشبهه، وتبدأ في طلبات الطلاق المتكررة، فهي ترى في الطلاق حل لكل مشاكلها ووسيلة ضغط مستمرة وورقتها الرابحة الوحيدة، وحين تفشل تتمنى أنها لم تتزوج.

يعود كل طرف إلى صومعته، يتذكر كيف كان سعيدا قبل الزواج، وكيف كانت حياته أسهل وأقل مشاكلا من اليوم. يبدأ في تذكر أسماء زميلاته فاطمة، نورة وياسمين. يثرثر مع نفسه “لو أمكنني فقط أن ارجع بالزمن لأتزوج بخولة” هذا في أفضل الاحتمالات وفي أسوأها يتمنى لو ماتت وعاش حياته أرملا. حياة بسيطة بلا تعقيدات الزواج، يتأخر مع أصدقاءه، يسهر، يسافر، ويعود للبيت دون وجع رأس أو مسائلات أين كنت وأين ذهب ومتى تعود.

صورة الأعزب السعيد تتعاظم في ذهن كل منهما، النوم حتى وقت المغيب، الحرية، وكل لحظات السرور والفرح التي يشتاق لها. لكن بطبيعة الحال ولإنه إنسان، ينسى كل تلك الأيام التي جلس فيها عند البحر، يبحث عمن يصغي إليه، من يسير بمعيته، من يمسك بيده، من يساعده ويشاوره ويدللـه، من يخرج من أنقاضه تلك المشاعر المدفونة والمكبوتة فيه. ينسى كل تلك اللحظات ببساطة لأن العقل البشري يستعيد اللحظات السعيدة بسهولة، ويحتفظ بها لفترات أطول، بنفس الوقت فإنه ينظر لكل اللحظات التعيسة والخلافات المتكررة التي مرا بها؛ ظالما نفسه وزواجه الذي قد يكون ناجحا ولكنه بحاجة للرعاية والاهتمام والمصارحة وأهم من كل هذا القبول.

قد لا يكون زوجك قبيحا أو سيئا، وقد لا تكون زوجتك بشعة، كل ما في الأمر أنك تتوق لحرية الخيارات، وما هو إلا وهم سيوقعك في فخ تأجيل الزواج حتى تموت دون أن تحظى على الشخص المناسب الذي طالما حلمت به، وقد تبحث أو تبحثين عن مجموعة أشخاص في زوجك، أو كما يفعل البعض، يبحث في تصرفات توأمه عن والديه في الطرف الآخر، وهذا ظلم كبير لنفسك وللآخر، فإنك لتحصل على فتى أو فتاة أحلامك، عليك أن تضع مجموعة من معارفك في خلاطة.

ليتني لم اتزوج خاطرة عابرة تتلاشى بعد تأملك في توأمك بإنصاف، بعد أن تستعيد كل اللحظات التي لم تكن لتكتمل دونه، بعد أن ترى توأمك عبر عيون الآخرين وليس عبر القماش الذي نسجته له في مخيلتك، هكذا ببساطة سترى جماله ولن ترى سواه في وجوه الآخرين.

خدعة التحفيز

P-0787

الإنسان كائن مخلوق من طين وماء، الماء يمثل 3 أرباعه والأمل يمثل كل أرباعه، بلا أمل الإنسان يفكك لمركبه الأساسي ماء وطين، طري لا يمكنه صنع شيء، ولا يسعه الوصول إلى شيء. الأمل يشعره أن ما يبحث عنه ممكن، وما يحيا لأجله ليس مستحيلًا، وأن الغد يجب وسيكون أفضل من اليوم مهما طال الغد الذي في مرامه. أن تموت من أجل أمل مزيف خير من أن تحيا متلحفًا بالذهب.

قد يظن ظانًا بظن ليس في محله، أن مرادي هو الحديث عن الامل، ومرامي ليس في نطاق حدسه بالطبع، لكن لا علينا فهو هنا كذلك يبحث عن قيد للأمل، لكنني أريد الحديث عن التغيير. عندما تسأل الناس عن التغيير، فالكل سيصفق ويهلل، الكل يريد أن يغير وضعه وحاله ومستقبله، ولو أشرت لهم لما عليهم أن يصنعوه ليصلوا لمبتغاهم، لتولوا وهم معرضون. فالإنسان في نهاية المطاف أسير العادة ورهين الكسل، على الرغم من أن بنية الجسد كلها تشير إلى كونه كائن خلق للحركة، كل المفاصل والعضلات والأربطة والشرايين تقول: أنا متحرك. ولكن الراحة أحد المشاعر المهمة التي تسير حياته وتوجه كثيرا من أفكاره وتصرفاته.

السؤال في هذا المقام كالتالي: هل التغيير مستحيل! بالطبع ليس مستحيلًا، فلست أؤمن بهذا المصطلح في نطاق المعقولات لا الخزعبلات؛ لكنه أصعب مما يبدو عليه. البعض يجعله سهلا وبحاجة لورشة عمل واحدة ستقوم بضخ كل الطاقة التي يحتاجها الإنسان طوال عمره، او يخلق محتوى إيجابي ثم يخلف ساقا فوق الاخرى ويحتسي كوبًا من الشاي وينتظر أن يصبح العالم من فوره خلاقا ومبدعا وأفلاطونيا. وكذلك الحال مع فيديوهات التحفيز.

فيديوهات التحفيز بالنسبة لي خدعة ذهنية مؤقتة ومادة مسلية جدا، تعجبنا وتبهرنا وتشعل فتيل الحماس فينا، ولكنها لا تحرك أطرافنا المكبلة إلا لالتقاط أنفاسنا لهنيهة، وسرعان ما تتلاشى، كوخزة إبرة، كقوس قزح عابر، أو حتى كأول سيل من مياه الدش البارد. أغلب أصحاب التحفيز، لا يجيدون عملًا سوى التحفيز، هم أنفسهم سيفشلون في دائرة أخرى عدى دائرة الامان التي هم فيها. التحفيز يصلح لمبارة، لمعركة، لتجديف سفينة، لكنه لا يصلح لعمل مستمر. حاله حال خطبة الجمعة، يعود المصلين إلى بيوتهم ظانين أنهم سيعودون رسلا، وما أن يخلع نعليه عند الوادي المكدس، ويذهب إلى فرعونه، حتى يعود إلى ما خرج عليه. كمثال تقريبي للقضية، كانت الخطبة على سبيل الاعتباط وليس الإشتراط عن أثر الكلمة الطيبة، وآداب التعامل بين الزوجين، وما أن يعود لزوجته ويحدثها بكلمتين لطيفتين، فتقابله بمزاج متعكر، حتى ينقلب على عقبيه، يسب الدنيا وزوجته.

التعويل على كل هذا للتغير لا جدوى منه، لن أعتبره مضيعة للوقت، على العكس، نحن نعشق هذا النوع من المواد، لأنه يحرك قلوبنا قليلًا، يشعل الأمل الخامد فيها، دونه قد لا نستطيع أن نحيا، فهو وقود البقاء الأقوى. الأمل في أن التغيير سيحدث غدا، سأضعف، سأنجح، سأطير بجناحين. الأمل يلهب الخيال، ويحيي الموتى ويحقن الشجاعة، الأمل يخيط طائرة، ويمزق الحزن ويصنع معجزة. لهذا وجب وجود هذه الماد. لكن الاعتقاد الإيماني بأنها قد تحول البشرية إلى نسخ نيوتنية أو آينشتانية أو ستيف جوبزية هو ما لا أؤيده. لا فرد من هؤلاء استمع لمحاضرة تحفيزية أو خطبة عاطفية؛ بل على العكس، تحدوا العالم الرافض لأطروحاتهم، والمستغرب من تجاوزاتهم الفكرية، حتى وصلوا لمبتغاهم.

النجاح والصدفة قرينان نادرًا ما ينفصلان، ولهذا ضع في حسبانك أن الصدف لها دور كبير في تحويلك من شيء إلى شيء آخر، فالكل يغني ولم يصبح مشهورًا إلا قلة محظوظة، الكل يدون كتبًا عظيمة لا يعلم عنها أحدٌ شيئًا، والكثير ممن يعمل بجد لم يحقق شيئًا، لذا حين تجتمع الصدفة والموهبة أو الصدفة والعمل الجاد، يحظى الإنسان على نجاح، بعيدًا عن فكرة كون الصدفة يمكن خلقها، فهذا أمر آخر.

لست هنا أدعوك لان تنام وتفقد الأمل وترمي بكل شيء خلفك. وكل ما أريد أن أخبرك به هو هذا السر العظيم: لا تكتئب إن لم تصبح صالحا بعد صلاة الجمعة، ولم تصبح نحيفًا بعد أن شاهدت الكثير من الفيديوهات لمن خسروا أوزانهم بعزيمة وإصرار، ولا تبتئس لأنك لم تصبح كبيل غيتس بعد أن قرأت سيرته الذاتية، لا تغضب إن لم تحصل على منصب في مكان عملك رغم أنك الأكثر كفاءة، ولا تحزن إن لم تتغير شبرا واحدًا بعد أن شاهدت كل مواسم برنامج خواطر، فأنت بكل بساطة لست جاهزًا للتغيير، وليست هذه المواد وحدها التي ستحرك عقلك وتغير طريقة تعاطيك مع ما حولك، أنت بحاجة لصفعة فكرية حقيقية تصنع منك إنسانًا آخر، وليس دغدغة عاطفية أدبية، تتلاشى وتنساها كما ستنسى هذا المقال.

أثر

16195501_10154763996780446_7420587434884022973_n

نبدأ مسيرة الإنسان الجديد بصرختنا الأولى. إجهاشتنا الطويلة. صرخاتنا المتتالية. نصرخ في وجه الحياة من أول لحظة لنا، فنحن عاجزين كليًا، لا نملك من القوة إلا ما يخولنا لتحريك أطرافنا الصغيرة، ولا نملك من الإدراك إلا فطرتنا، حاجتنا للطعام، حاجتنا لرائحة مألوفة، حاجتنا للهدهدة وللشعور بالأمان. نحبو في محاولتنا للوصول إلى مرادنا في عالمنا الصغير، لعبة بعيدة، صدر حنون، أو أي شيء نستطيع أن نتناوله بأيدينا.

نكبر فنتعلم المشي؛ يبدوا حينها الوصول إلى رغباتنا أكثر سهولة وأسرع. نخربش على الحيطان. نكسر الألعاب بحث عن متعة جديدة بداخلها، نحاول أن نستكشف غموضها؛ فهكذا ولدنا، ولدنا برغبة المعرفة والبحث. نكبر وقد اصطبغنا بمحيطنا، بأهلنا، بابن جارتنا، بتلك الألوان المتراقصة في الشاشة، أو حتى في ستار الليل. نتعلم التواصل بشكل أفضل، نتحدث، نثرثر عن أحلامنا الصغيرة، عن أمنياتنا، عن لعبة نود اقتنائها، عن قبلة نريد أن تطبع على وجوهنا.

عالمنا الصغير لا يعرف المستحيل، نتخيل أنفسنا أبطالًا خارقين، نظن أن بإمكاننا أن نصبح أسرع العدائين، وأقوى المحاربين، أمهر الأطباء، وأكبر الفنانين والممثلين. نكبر قليلًا، قليلا جدًا ونبدأ في رسم حدودٍ لمقدراتنا، القفزة لا تصل إلى السماء، اليد لا تصل إلى البعيد، القوة لا تشبه قوى رافع الحديد.

أحلامنا بدأت تتشكل وتأخذ أطوارًا أقل خيالًا، نكبر أكثر فتصبح أحلامنا بلا خيال، وكل طموحاتنا أقرب إلى الحقيقة منه إلى المحال، نقلد فنانًا، نحاكي هدافًا، نمثل دور الطيار والمقاتل. الآن لم يعد الحائط يناسبنا، نبحث عن ورقة بيضاء نقية كقلوبنا التي لا تعرف الكراهية والضغينة.

خربشة أولى محاولاتنا، أولى خيالاتنا، نهديها حين ننتهي لمن نحب، نكبر أكثر نرتقي سلم العلم، أحلامنا الآن موجهة، وأكثر تركيزا، نعلم ما نريد ونطمح بالطبع في المزيد، ولأننا نخشى أن نموت أن نموت وحيدين، نخشى من فكرة أن نحيا دون أن نرى رأسًا يومئ للحديث، أو قلب يصغي لأوجاعنا، ويسمع حكايانا، يربت على أكتافنا، ويقف على خشبة المسرح ليصفق لتفاهاتنا، وانجازاتنا. يشعرنا وأنه وبين كل هذا الحضور العظيم، هنالك يد نألف تصفيقها تشعرنا بالأمان، وتزيل منا رهبة المكان.

نفتش عن الحب، نفتش عنه بين طيات الكتب، وتحت ظلال السحب، خلف شاشات الهواتف والحواسيب، وخلف نوافذ البيوت، وبعد ليلة مليئة بالمصابيح والبهجة، نكمل مسيرة الإنسان، نبحث عمّا يميزنا، عما يجعلنا مختلفين، نسعى أن نكون الأفضل، أن نصبح الأثرى، أن نغدو الأذكى وأن نمسي الأفضل، كل فردٍ منا يريد أن يصنع مجدًا لنفسه، يحاول أن ينعتوه بالعظيم فيما هو ماهر فيه، يخفي ذلك تحت سترته، أو بين تمثيليات تواضعه. لا أحد متواضع، الكل يريد أن يُثنى عليه ويمدح، ذك لجاهه وسلطانه، وهذا لعلمه وعبقريته، والآخر لفنه وسحر صوته أو رسمه، أو حتى لمسرحية تواضعه، فنحن وفي مسيرتنا يريد كل فردٍ منا أن يقول أنا هنا، أو أنا كنتُ هنا، فهذا هو وهم الخلود، فأقل درجات الخلود أن نترك خلفنا أثر.

ماذا تنتظر، انهض، انهض يا عزيزي من ركام الرتابة، وقم حتى يبقى لك هاهنا أثر. ‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎

الانطباع صفر

correcting-bad-first-impression

العلاقات الإجتماعية من أشد الأمور تعقيدًا وتركيبا، فصعب المحافظة على العلاقات دون الكثير من الصيانة والمعالجة والمناقشة والمصارحة، أي علاقة لا تقوم على أسس متينة تنهار، وأي علاقة تبنى على مصلحة تتفكك، وأي شخص يظن أن العلاقة الإجتماعية هي علاقة تواجد ومعرفة، خاب مسعاه في تكوين تواطد وقرب أبدي، فليس كل من تعرفه قريب، وليس كل من تجهله سيبقى بعيدًا للأبد.

لا يمكن لك أن تترك علاقتك تقلبها رياح الظنون، أو تلاطمها أمواج سوء الفهم وضعف التواصل والإتصال، بل لا يحق لك ذلك. أي علاقة بحاجة لجهد، وتنازلات، وأحيانا تضحيات مستمرة للحفاظ عليها، كما أن الصراحة والعتاب دون مبالغة لهما مردود جميل، فهو يبدد أي سوء ظن أو فهم، ولكن ولأن كل هذا يحتاج لمجهود نفسي وذهني وبدني وأحيانا مادي؛ فإن البشر غالبًا ما يخفقون في علاقاتهم ويخسرون صداقاتهم بل وربما أقربائهم.

إن أول مدمر أو مانع للعلاقات الدائمة والمتينة هو الإنطباع الأول، فهو الخطوة الأولى في بنائها، وبوابة الدخول أو الخروج، فخلال أول خمس ثوانٍ يقيم كلا طرفي المعادلة الآخر بشكل مختلف ولكن تحت ذات الإطار “مدى ودية الشخص” و “مدى إمكانية الوثوق به”، وهو أهم عنصرين في معادلة الانطباع الأول. والطريف هو أننا دائمًا نقول ونردد ونثرثر عن عدم اهتمامنا بالمظهر، إلا أننا نعتمد وبنسبة تفوق 80% على مظهر الطرف الآخر وشكله في تحديد الانطباع الأول، يلي ذلك طريقة كلامه، ثم لغة جسده.

وعلى الرغم من تأثير الانطباع الأول الكبير في بناء ونشأة العلاقات، إلا أن هنالك مدمر أكبر للعلاقات وهو أحد أسباب العداوات الاجتماعية غير الناشئة #الانطباع_صفر، بالنسبة لي أرى أن الانطباع صفر هو انطباع منسوخ شبه مؤقت يأتي من خلال كلام الناس وحديثهم حول شخص ما، إما عبر الحوارات العابرة، أو حتى عبر التحذير المباشر، فتجد مجموعة من الأفراد يتحدثون عن أحدٍ بالإسم بأنه لص، أو كاذب أو خلوق، وعلى أثر ذلك يبدأ الإنسان ببناء تركيبة معرفية مبدئية للشخص، تجعله في حال التقى الشخص المعني يبحث في كل تصرفاته عما يؤكد ما قيل عنه غالبًا أكثر من محاولته نفي كل تلك الصفات التي اتهم بها هذا الشخص.

الانطباع صفر قد يلغيه الانطباع الأول، ولكن ليس بشكل تام، ستبقى تلك الصفات التي حددت من قبل الآخرين قيد البحث لفترة طويلة بشكل يعيق العلاقات ويمنع استمرارها أو حتى يبقي على فواصل وحدود وهمية تمنع توطيدها، قد يعاني البعض في التخلص من الانطباع صفر كون البعض يبني على أساسه الانطباع الأول، متجاهلًا كل ملامح الشخصية من المظهر، وطريقة الكلام، وحتى لغة جسد لن تكون فاعلة.

كم مرة سمعت أو اصغيت لحديث عن أحدهم، نعت بصفات محددة وحين التقيته لم تجد أيًا منها، وكم كابدت لتنفض عن رأسك تلك الاتهامات التي قيلت عنه. كم مرة تحدثت عن رأيك السلبي بشخص ثم وجدت علاقته توطدت مع من أخبرتهم برأيك عنه، كم مرة وجدت نفسك رهين اتهامات قبل أن تكون علاقتك مع أشخاص جدد، وبعد سنوات أو حتى شهور أطلعوك عليه مما جعلك في صدمة نفسية، ولربما جعلك تضحك. حدث كثيرًا… كلنا نقع في ذات الشَرَكْ، ولا نجد فكاكا منه.

كلنا نتغير، أنا وأنت ومن حولنا، ليس بالضرور أن الآخر هو من تغير، ربما لم نفهمه جيدًا وحسب، وربما لم يوضع في ذات الموقف ونفس التفاصيل التي تجعل منه شخصًا أنانيًا أو فظًا، أو حتى ترغمه على الكذب. لا يمكن لنا أن نحصر احتمالات تصرف شخصٍ ما حسب ما نراه نحن، الإنسان مخلوق عاطفي، وأحيانا كثيرة مزاجي، لهذا لن تجد قانونًا واحدًا يحدد رد فعله مع كل المواقف لذلك ولاستمرارية العلاقات والتأكد من ثباتها؛ عليك بالاستفسار والسؤال والعتاب والكثير الكثير منا العناية. حتى لو تغير الشخص وأصبح محبوبًا، إن لم يكن تعنيك صداقته؛ فلا تحرم الآخرين منها، وتذكر دائمًا أنك لن تعرف أحدهم حتى تعاشره، فاترك عنك الانطباع الأول، ولا تصغي للانطباع صفر.

مقابرنا الجديدة

قمت بفتح الفيسبوك قبل عدة أيام اتفقد الرسائل القديمة وقائمة الأصدقاء وذكريات الفيسبوك، الشعور الذي واتاني لم يكن يوصف، أفقدني الإحساس بالوقت الذي تسرب من بين كفي نقرة تلو نقرة، وانزلاق يليه انزلاق؛ فدونت بشكل مقتضب على حسابي في تويتر “أتعس ما في ذكريات الفيسبوك أنك ستجد روحك القديمة، الغائبون عنك، ونقاشات لك مع أشخاص لا أثر لحساباتهم.”، لكنني سرعان ما وجدت بعدها ما هو أكثر تعاسة منه، حين وجدت بعض الحسابات الخاصة بالذين رحلوا وغادروا الحياة، وتركوا خلفهم جزء من أرواحهم العالقة في دهاليز الإنترنت وممراته.

منذ أن اخترعت أدوات الحفظ كالمسجل والكاميرة، بات من الصعب النسيان والمضي قدمًا، وبالنسبة للبعض بات الوصول للمرحلة الأخيرة من مراحل الحزن الخمسة لنموذج كيوبلر روس (الإنكار، الغضب، المساومة، الاكتئاب والتقبل) أصعب مما كان عليه في السابق؛ لأننا قد نعاود فتح كل تلك التفاصيل التي نحتفظ بها، دون الحاجة للتنقيب عنها بين اشيائنا وداخل صناديقنا القديمة في لحظة حزن عابرة، أو اشتياق مترف، بل أمست متاحة بين أيدينا، نفتحها بإرادتنا، وتفتح لنا رغمًا عنا تحت مسمى “في مثل هذا اليوم”، تلك اللفتة التي تحمل في مظهرها الكثير من الجمال، وفي جوهر واقع البشر الكثير من حكايا الفراق والاشتياق.

كم مرة دخلت سرا لملف محبوبتك السابقة، كم مرة مارست خفية تأملاتك العظيمة لكل تلك الصورة المخزنة في مجلدات مواقع التواصل الاجتماعية، لحظاتك مع أصدقائك القدامى الذين فرقتك عنهم الأماكن والهموم والخلافات. كم مرة أصغيت لأغنية سجلتها زوجتك الراحلة، أو تأملت صورة لقبلة أمك الأخيرة، أو صورة أخذت لك خفية ووالدك يربت على كتفك طالبًا منك ألا تبكي بينما يغمض عينيه ليتلاشى ويبقي لك منه جسده وكثير من الذكريات والحزن. كل تلك الأشياء بتنا نمارسها لأنه لم تعد مساحات البيت تكفي لوجود صناديق تحمل أشرطة تسجيل أو صور مطبوعة قضم أطرافها الزمن.

مع تقدمنا في العمر، سيمسي الفيسبوك بالنسبة لنا مقبرة إلكترونية، تغنينا عن الحاجة للذهاب لزيارة قبر من نحب، نخط قصيدة وجع، أو ننثر دعاء مخضب بالدموع، أو نشارك لحظة حفرنا تاريخها في قاعدة بيانات الموقع على حائطه. ليس الذهاب للقبر سوى محاولة يائسة منا للوصول إلى ما بقي من كيان لمن نحب، نحاول أن نسترجع من خلاله الذكريات، وننثر على الثرى ادعية وأشواقًا، ونحيل التراب إلى بقع من مجهرية من الطين، ونغرس الورد وبعض الحنين، ونسرد للأحبة كم أن الدنيا باتت بلا طعم ولا رائحة مذ رحلوا. ولمّا أصبح الملف الشخصي للناس جزء من كيانهم الخالد والذي لا ينسى، سيمسي بذلك مقبرة مثالية لمن فارقونا نمارس فيه زياراتنا، دون أن نكون بحاجة للقول بأنكم السابقون ونحن اللاحقون، دون أن نتيه بحثًا عن ذلك الشاهد الذي يحمل تاريخ الميلاد والممات، بل إن آخر ما نشره سيكون هو تاريخ الوفاة الافتراضي، الذي سيبقى شاهدًا أنه توقف عن عبور برمجيات الموقع وشبكاته في ذلك التاريخ، لن تحتاج لشهادات وأوراق رسمية وكفن، كل ما ستحتاجه أن تقوم بعمل مشاركة تعنونها “في مثل هذا اليوم، كان هذا آخر ما دونه الفقيد.

وعلى هذا الأثر، وكحال ما تصنع بعض المذاهب بأن تترك الرفات كجزء من إرث عائلي، فإن البعض قد يعتبر أن الفيسبوك يجب أن يتحول لإرث يحييه الوَرَثة؛ فهو ليس مجرد رفات لجسد احرق، هو صفحة تمثل شخصية، وفكر ولحظات الراحل، وإن أمعنا قليلًا النظر في ملامح الإرث، سنجد أنه تمثل كيانًا، كيانا لا يمكن له أن يتلف أو يشوه أو يموت، لذلك يرى بعض الفلاسفة أنه جزء من معنى الخلود الذي يبحث عنه الإنسان، فكلما أردت أن تجالس راحلًا، كل ما عليك هو أن تمر من خلال منشوراته، مقاطع الفيديو التي شاركها، أو حتى تصغي لتسجيلاته الصوتية.

لكن يبقى لكل شيء وجهان، وجه قبيح ووجه حسن، فكم نحن محظوظون أن نموت في زمن لا يمكن لنا فيه أن نُنُسى، وكم نحن تعساء لأننا نحيا في هذا الزمن.

أشياء مستعارة

14124089_10154313703845446_1746019089_o

من السهل أن نخبر الناس بأننا بخير وإن كانت دواخلنا كلها تنزف، من السهل حمل ملامح مستعارة، وإظهار مشاعر مستعارة، وتوزيع ابتسامات هي الأخرى مستعارة. من السهل ألا نثرثر عمّا يضايقنا، ليس خوفا من شماتة الآخر دائما، أو هروبًا من خلع ثياب المثالية التي نتقلدها أمام الآخرين؛ ولكن لعلمنا أن هؤلاء لم يسألوا لأنهم يعبئون بنا، فتلك فقط جزء من بروتوكولات التحية، كيف حالك إنما تقال على مضض، وأحيانا كثيرة على عجالة، ليس المراد بها السؤال، إنما هي تمتمة لملئ فراغات اللقاء بما هو أفرغ منه. نحن لا نكذب، نحن فقط نهذب أحزاننا ونهدمها بشكل يظهرها للآخرين كالفرح.

ننهار داخل صورنا، نحاول ألا تخرج اللوحة عن الإطار فنفتضح، نكابد دمعة، نخنق نحيبنا، ونفر بأعيننا بعيدًا كي لا يقرأ كتابها أحد، نعلم أن حجم الضياع الكامن بداخلها بحاجة لمعركة نحن لسنا ندا لها، ابتساماتنا الصفراء قد لا تكفينا، لذلك نتصنع ضحكة عالية، أو قهقهة خجولة أو نلقي نكتة ساذجة ثم نتبعها بضحكة مثقلة جدا بالروح الملقاة على أسرتنا الداخلية. نسير كالأموات حين لا يتربص بنا أحد، وما أن نلمح الآخرين، حتى نسير ككتيبة عسكرية، بابتسامة مهرج في سيرك.

نقلب القهقهات الملقاة على رصيف مشهد مسجل، أو تلك الضحكات خلف ستار مسرحية ربما شاهدناها ثلاث مرات متتالية، نحاول أن نلمسها، أن نفككها، أن نتقمصها أو نجعلها على مقاس قلوبنا التي ضاقت بحبال الحزن التي دأبت الأيام في صنع عقدها يومًا بعد يوم. نصمت ونشرد ونهرب من إبصار ما حولنا، نسير ولا ندري أين وإلى أين، فالحزن لم ترسم له خريطة بعد.

ننصب شواهد على همومنا، نزورها كل ما حل هم جديد لنخبرهم بأنهم السابقون وفي أثركم آخرون. لا ننبش عن قبورها، فلا أحد يستحق ذلك النحيب، وكل تلك الدموع وذلك الافتضاح العظيم؛ فنحن وإذ فعلنا فإننا لا ننبش قبور قتلانا، بل نحن نخرج قاتلينا الذين لم يموتوا. فهل من أحد يملك ذلك القدر من التضحية والوقت ليصغي لنا، لنعيد تلك الهموم صرعى تحت شواهد قبورها. أكثر ما نخشاه، أن يضع ذلك السمع الذي آمنا به على حبال النشر والتوزيع ثيابنا الداخلية، ومشاعرنا التي لا نبوح بها لأحد.

كم صعب أن تعيش الغربة في مكان يسكنه 7 مليار، أو وطنٍ يحمل مليونا، أو بيت يحوي شخصين أنت ثالثهما، لست شيطانا، إنما ولدت من رحم الخطيئة الأبدية، نزلت من جنة إلى جحيم لا يعرف الكثير من الفرح، كل فرح يقطفه كف وجع، أو تمزقه مخالب الحزن. هذه البسيطة لن تحمل فرحا يكفيك للأبد، بهجتك التي تغنيت بها قبل هنيهة، تبددها صفعة اللحظة التي تليها. وهكذا تحيا على أمل أن تزهر وردتك وتبتسم بها.

أن تصمت يعني أن تحتضر، وأن تبوح لمن لا يبالي يعني أن تموت، وأن تفك قيد كتمانك لمن يدعي أنه يبالي يعني أن تدفن على قيد الحياة. لا شيء كالورق سيفهمك، ولا شيء كالقلم سيبالي بك، ولا شيء كالفن سيفضي بك إلى مكان أفضل من هذا العالم، فالوجع إن لم يثمر حبرًا، أو يخرج فنًا أو حتى يصنع شعرًا فتلك أم المصائب بشعرها الأشعث الأغبر، ستتركنا في دوامة سنعبرها بتفاصيلنا المستعارة، ودواخلنا التي تنزف، دون أن يدري بنا أحد.