تخلص من الحلم العربي

tumblr_mov3m7LmEM1sott30o1_1280

لماذا تكتفي بأن تكون شخصًا اعتياديًا، ما الذي يعجبك بأن تكون شخصًا كان هنا ولم يسمع عنه أحد؟

ذات مرة سمعت صديقًا لي يقول لأحدهم “لماذا تولدُ شخصًا عاديًا ثم تكبر شخصًا عاديًا وفي النهاية تموت شخصًا عاديًا، لماذا لا تولدُ شخصًا عاديًا، ثم تكبر وتموت شخصًا مميزًا”

نحن لا نفسح المجال للناجح ليشق طريقه، بل نحاربه بعيوبنا. ويعيبنا أمران، الأول هو الغيرة التي تحرك الحسد، والثاني وهو الكسل الذي يحرك الغيرة، وكأنهما دولاب يدور دون توقف، لكنه يحاول أن يوقف كل ما حوله ليظهر وكأنه الشيء الوحيد الذي يمضي قدمًا.

نحن نحلم كل يومٍ أحلام صغيرة، كأن نصل مبكرين للعمل، كأن يمضي اليوم على خير، كأن نبقى مع من نحب، كأن نثرثر برومانسية، وكل تلك الأحلام لا يجعلها حقيقة إلا إيماننا بأن حجمها يناسب قدراتنا وحياتنا، ولكن ما أن نخطو نحو حلم أكبر حتى نقول “كلا لا أستطيع” أو “هذا مستحيل”

متى نركل كل تلك الأحلام الاعتيادية نحو المرمى فتلك أهداف سهلة، ونستبدلها بأحلام أكبر حتى من أن تتحقق قبل عدة سنوات، لماذا أحلامنا قصيرة المدى، لمّ لا نحلم بأكبر قصر، وأطول نهر، بأعلى برج وأوسع مكتب، أِحلم بأن تكون مديرًا، رئيسًا، مالكًا لشركة، صاحب مشروع، شريك لمحل تجاري. لماذا تحصر نفسك بالزوجة أو الزوج ووظيفة روتينية وحياة رتيبة مملة. السبب بسيط، هو الحلم العربي الذي توارثناه قرون عديدة، متى نتحرر من هذا الحلم العربي: “ أدرس لتنجح، أنجح لتعمل، اعمل لتتزوج، تزوج لتنجب، ربي ليكبر الأبناء، ثم جهز القبر الذي دفنت فيه أحلامك، وألقي بجسدك فيه.” ولا تنسى نصيب أبناءك من ذات الحلم، مرره وكأنه الإرث الأزلي للعائلة ولا تتخلى عنه. متى ما فتحنا أنفسنا وتجاوزنا الاعتيادية سنحقق كل ما لم يستطع من سبقنا الوصول إليه.

وبينما أنت تسابق أحلامك، لا تحسد الآخرين، بل اتخذهم مثالًا تحتذي به، وشجعهم لينجحوا ليشجعوك فيما بعد لتنجح إن كانوا هم السابقون، والانعكاس يشبه الأصل بالتأكيد فيما مضى قوله هنا.

تحدثت مع أختي وقلت لها أن عليها أن تبتسم حين تنظر للمرآة وتقول لانعكاسها “نستطيع أن نحقق كل ما نريده” فقالت لي: أمجنونٌ يحادث نفسه؟ فقلت لها: تحدثي مع نفسك وكأنكما اثنان وليس واحد، فالنفس تحب الرفيق، كوني رفيق نفسك فيحفز ذلك عقلك الذي يحفز قدراتك، هيَّ حلقة دائرية فيها أنتِ وأنتِ.

هنالك مثل أجنبي يقول “زيف صنعه، حتى تصنعه” و يصيغه آخرون ب”زيف صنعه، حتى يصبح واقعًا”، قد تنظر لصعوبة الأمر حتى يقبل عقلك بواقع استحالته، ولكن حين تقنع نفسك بأنك قادر عليه مرارًا وتكرارًا، وتحمل ذات النظرة، والنبرة الواثقة زيفًا، ستصبح تلك النظرة حقيقية وحقيقة تعمل بها.

لا ترتدي ذات الرداء الذي لا زال الناس يرتدونه، ذلك الحلم الممل “خلقت لتتزوج وتتكاثر وتموت” فأنت لم تخلق لذلك، بل خلقت لمحاولة تغيير العالم، كلا بل خلقت لتغير العالم، فأنت قادرٌ على ذلك. أليس كذلك؟

وهم السعادة

happiness-illusion-money-greed-insatiable-trap

الإنسان كائن مغلف بهالة من المشاعر والأحاسيس، تتحكم به، تسيطر عليه، تحركه، تصنع أفعاله واستجاباته، تحيك وسادة أحلامه، وتخيط منطاد أمنياته، ولأن مشاعره متعددة، فهو يبحث عمّا يجلب له الراحة منها، فيحاول طرد الحزن، ويحارب الكآبة ويسير على جثة الوجع، بينما يطلب الفرح، ويتوسل البهجة ويطارد السعادة، ولأن هذه المشاعر ورغم اختلافها إلا أنها متشابكة ومتشابهة، فإن نالت منه واحدة، أحس دائمًا بذات الشعور ولمس ذات الوهج. ومع ابتعاده عن أصله وطبيعته وبيئته اختلطت عليه الأمور، وتكالبت عليه السنوات والدهور، وبات يبحث عن الشعور الأهم والأجمل وهو السعادة.

نكاد نحيا حياة أقرب بل أفضل من حياة الملوك القدامى، كل شيء نستطيع إعداده، وأغلب ما نريد نستطيع إيجاده، كل بعيد نصله، وكل لذيذ نتذوقه، وكل مضحك نقرأه ونسمعه ونشاهده، لسنا بحاجة لمهرج يردد ذات الفكاهات، ونحن نملك المذياع والهاتف والإنترنت، تقريبًا وقتنا متخم بكل ما نحتاجه وما لا نحتاجه. ورغم ذلك تجد بعضنا لا يقدر ما بين يديه وينظر لما في يد أخيه، يحسده على الرغيف الجاف، أو بنطاله الذي لم يرتدي سواه طيلة شهر، لأننا تشربنا بفكرة واحدة، أن السعادة تكمن في عدد ما نقتنيه أو نملكه. درسنا في المدرسة أن الأعداد هي مجموع مقدار الكمية التي تُعد، وما نصنعه بالمقادير هو عدها وإحصائها، هي لا تتجاوز كونها محض أرقام متراصة متلاصقة، وفي نهاية المطاف فإن الأرقام لا تتجاوز كونها محض رموز تستعمل للتعبير عن الأعداد، رموز جعلها البعض هدفه وحلمه وطموحه ومراده وبهجته وسعادته.

من يسعى للشهرة على حساب خسارة من يحب، فإن خسارته العظمى ستتضح حين يصل إلى القمة ولا يرى حوله من يحب، ولا يسمع أصواتًا مألوفة تصفق له، تشاركه فرحته وبهجته، تعانق يديه في مشواره، وأكبر مخاوفه أن يتفرق الناس عنه، فهو لا يعلم أي الناس يحبه لشخصه وأيهم يحبه لشهرته. الرفيق قبل الطريق هكذا يقال، وما أجمل أن يكون هذا الرفيق حبيبًا نحيا معه وبه ويحبنا نحن لا شهرتنا، والمثل الصيني يقول: الحكيم يرهب الشهرة مثلما يرهب الفضيحة.

أما من يسعى للمال، فإن سعادته لن تتجاوز اللحظة الأولى، الشعور الأول وسرعان ما سيذبُل. استعيد وأنا أكتب هنا أحد الدراسات حول تعاطي الناس مع الأشياء باهظة الثمن، حيث قُدم لهم نبيذًا عاديًا وقد وضع في زجاجات ذات أسعار مختلفة، أغلب من قام بتذوق الأنواع قالوا بأن أفضل ما شربوه من بين كل الأنواع كان النبيذ الأغلى ثمنًا، وعندما تم عمل مسح لدماغ هؤلاء بينما يتذوقون النبيذ لم تظهر فقط ألسنتهم استمتاعهم بالنبيذ باهظ الثمن، بلى حتى أدمغتهم سجلت شعور باللذة عند تذوقهم لها. باختصار نحن ضحايا لمفاهيمنا ومعتقداتنا التي رسخها الإعلام والدعاية، أن أي شيء باهظ الثمن يعني أنه الأفضل وأنه سيجلب لنا السعادة، ومن حيث لا ندري نحن نخدع أنفسنا لنصدق ذلك الشعور المزيف.

المال والشهرة والوظيفة والسُّلطة هي وسائل ومواد تهبنا القدرة على أن نعيش بشكل أفضل، لكنها لا تسد فجوة الشعور بالوحدة، الشعور بأنك لن تجد شخصًا يحبك ويريدك لشخصك. كم من مالك سلطة داسته الأقدام حين سقط من عرشه، وكم من صاحب شهرة اغتالته الألسنة التي دندنت بحبه حين أفل نجمه، وكم من ثري فارقه الناس في لحظة عسرة وعوز.

كان الإنسان وعلى طبيعته يعيش في جماعات، وجوده في هذه الجماعات يكفل له الرعاية، الغذاء والحماية عدى الشعور بالألفة والأمان وهما أهم شعور، كان وجوده وسط المجموعة هو الوطن، فالوطن ليس الأرض التي ولد فيها، فالإنسان اعتاد الرحيل، وامتهن التنقل من أجل لقمة العيش حين تصعب الحياة وتتغير الظروف، كان يوجعه صندوق الذكريات الذي يفارقه ولكن ما كان يوجعه أكثر هو ألّا يجد موطنًا له يعود إليه، جماعة تقبله وتحبه وتحيط به وتهتم له، تقاتل معه ومن أجله وبرفقته، تسعفه إذا جرح، تعالجه إذا مرض، تضحك معه، ترقص معه حول نار متقدة في الأرض والصدر.

استرجعت مشهدًا حقيقًا مسجلًا في اليوتيوب لشاب قرر أن يسجل تجربة حول إسعاد المشردين في شوارع نيويورك، وأخذ يوزع النقود على الناس، كان الناس يشعرون بفرحة غامرة حال حصولهم على تلك الأموال، والتي لم تكن في حساباتهم التي نقشوها على قارعة الطريق التي افترشوها منازل لهم، آخر متشرد حصل على النقود كانت له ردة الفعل الأقوى والتي لا يمكن إلا أن نتأملها، فبعد أن شكر الشاب على لطفه، طلب المتشرد منه أن ينتظر لخمس دقائق، وتوسله ألا يبرح مكانه. لم يكن لأحد أن يستوعب طلبًا غريبًا كهذا، انتظر الشاب وقد جلس على قطعة الكارتون التي ينام عليها صاحبنا. عاد المتشرد وقد احضر وجبتين واحدة له وواحد للشاب، وقال له: هل من الممكن أن نأكل سويًا؟ أرجوك دعنا نأكل سويًا فأنا ومنذ شهور طويلة لم اتحدث مع أحد، ولم آكل برفقة أحد، الكل يتجاهلني، الكل لا يشعر بوجودي. ثم أجهش بالبكاء مبللًا وجبته وعيون المشاهدين.

هذا المشهد عميق، فهذا المتشرد لا يعلم إن كان سيحصل على مبلغ مشابه في الغد أم لا، لم يكن للمال قيمة بالنسبة له في تلك اللحظة، ضحى بالمال من أجل رفقة تبدد الوحدة التي اجتاحت كيانه طيلة شهور طويلة، رفقة تشعره أنه موجود، أنه مقبول من الناس، رفقة تزيل جدار الصمت الذي سقط على صدره، مسكين الإنسان، يطارد أوهامًا وسرابًا وخيالا اسمه السعادة، ولا يدري أنها أمامه وبين يديه، لكن بحاجة لإبصار وبصيرة، بحاجة لعمل وجد وجهد، فالعلاقات الإنسانية ليست مستقرة، تتخللها المطبات والعقبات والشبهات والخلافات، ولهذا نحتاج للكثير لنرمم تلك العلاقات ونحافظ عليه من التلف. السعادة في أن نشارك الآخرين، أن نمسك بأيديهم، أن نشعر بأننا مهمين بالنسبة لأحدهم، أن نشعر أن لنا مكان في صدرٍ نهرع إليه كلما اغتالتنا الوحدة، أو طاردنا الحزن، كم الإنسان مسكين، يظن أن بإمكانه أن يشتري السعادة، وما علم أنها ليست صندوقًا يباع في رفوف المحلات، أو تحت لمعان الإكسسوار، أو بين أرقام المعجبين والمتابعين.

وختامًا أقول رسموها على أنها هدف من أهداف الحياة لا يسهل الوصول إليه، مدفون في مناجم الذهب، فوق الألماس بقليل، وتحت أجساد الأثرياء، وعلى أجنحة طائر العنقاء. ونسوا أنها وبكل بساطة موجودة بين ايدينا، وأيدي الأحياء بيننا، غير مرئية تحتاج لقلب مجهري يتحسس كل صغائر الأمور كي يراها، يحتاج لقلب نقيَّ كي يراها أكبر مما يستطيع الآخرون، نعم… بكل بساطة وكما هيَّ جدًا بسيطة، هي “السعادة”، ابتسامة صادقة، ضحكة حقيقية، غداء مع العائلة، وقت نقضيه مع من نحب، قطعة شوكولا تذوب في فمنا، وأشياء أخرى كبيرة وصغيرة أو حتى مجهرية.

نقتسم سلطته سويًا

3024243-poster-p-1-how-to-talk-to-people-who-dont-want-to-talk-to-you

أي قارب يقوده شخصان لن يصل إلى وجهته، وأي سلطة يتنازعها اثنان فتلك شرارة الفوضى، والله عز وجل يقول في كتابه لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا. كم من المربك لقائد السيارة أن ينبهه الراكب لكل شيء هو يراه ويعرفه، بل كم من المزعج لدرجة أن البعض قد تراوده خيالات لركله خارج السيارة وهي تسير بأقصى سرعة. تخيل مثلًا أن يقرأ أحدهم المقال معك بصوت عالٍ، أو يتلو عليك أرقامًا عشوائية بينما تقوم بعد النقود أو حتى يحاول عد النقود معك بل وربما تصويب عدك!

البعض يعيش من أجل الناس وكلام الناس ورأي الناس، بل ويصب جل تركيزه وماله ووقته من أجل كلمة استحسان تجاه بيته، ملابسه، ساعته، وحتى تجاه والديه، وزوجته. وهذا مرض وهوس أصاب كثير من الناس، فغلبت المظاهر على الجواهر، واخفيت العيوب وسدت الثقوب والثوب من الداخل بالٍ ممزق. وما ساعد على ذلك تصوير الإعلام بأن كثرة المقتنيات التي يمكن أن تتباهى بها هي مفاتيح السعادة الأزلية، ولكن حاول أن تتذكر فرحتك بهذا الهاتف الذي تقرأ المقال من خلاله! أو حتى حاسوبك، هل لازلت سعيدًا به أم أنك أصلًا نسيت أنك تحمله؟ من المستحيل أن يتفق البشر على استحسان شيء واحد وإن كانوا من بلد واحد، من مدينة واحدة، أو حتى بيت واحد، فلماذا أنت مصر على التلويح بما تحمل وتملك في كل مكان وزمان لتصغي لكلمات الثناء المصطنعة والمتكلفة.

متى تدخل الجامعة، متى تتخرج، متى تتوظف، متى تتزوج، متى ستأتي بذرية، متى متى متى… كل الأحاديث في المجالس أو الزيارات لا تخرج عن إطار كلمة متى، وكأننا أقوام لا نعيش إلا في المستقبل، بينما واقع أمرنا أننا لم نعش إلا في الماضي ولا زلنا – ما عدى هنا -، فعلى ما هذه الثرثرة المزعجة، لا يكاد يصدق الفرد أنه قد طوى صفحة متى السابقة، حتى تُفتح في وجهه متى جديدة مبنية على المتى التي سبقتها، صدقني لن يملأ عينهم أو سمعهم إلا موتك الذي لو لا الخجل لسألوك متى تموت. لترتاح ويرتاحوا من هم هذا السؤال الذي يتوارثونه اصلًا من حمض أسلافهم النووي. اقترب قليلًا دعني أهمس لك شيئًا مهمًا بهذا الصدد “صدقني لا أحد منهم يبالي، بل هم يحسدونك على ما أنت عليه وإن كنت أقل منهم حظًا في أيٍ من تلك “المتايات” المتتاليات، فلو جاءت متى الزواج، اعابوا زوجك، وسخروا من حفلك، وحسدوا حظك إن لم يجدوا ما يعيبوه. وإن تورطت في زيجة، كانوا أول من سخروا منك، وفي ظهرك قالوا “استعجل فهو لم يكن مستعدًا”، فلماذا تقحمهم في محفظتك، وغرفة نومك، وكتبك الجامعية، وفوق حلوى أطفالك وحتى تحت وسادة أحلامك.

وما هو أسوأ من هذا أن تتيح لهم المجال بأن يتدخلوا في خصوصياتك أكثر، أن يخبروك كيف تعامل أختك، كيف تحادث زوجك، كيف تنفق مالك، كيف تربي أبناءك والقائمة تطول. البشر لا يجيدون شيئًا أكثر من الثرثرة، فما أسهل الكلام، وما أصعب الفعل. يقولون لك بأفواههم ما ليس في قلوبهم “لا تجعل لزوجتك كلمة وكن أنت الآمر الناهي”، نسوا أن الزواج شراكة، “راقبي زوجك كي لا يخونك، اسأليه أين مضى ومن أين أتى”، تجاهلوا أن الثقة بيت الراحة والطمأنينة، “تنظيف البيت وتربية الأبناء من أعمال الزوجة وإياك أن تعودها على مساعدتك إياها”، كلهن يردن أزواجًا يقفوا معهن، ولكن لأنهم لم يحظوا على ذلك، أرادوا حرمان الأخريات منه. “أطلبي منه مهرًا كبيرًا، فهذه الفرصة لن تتكرر” ويقعن في هذا الفخ كثر، فينسين أن الزواج عمر، وأن المال ستر، وأن ما صرف بالأمس ربما لا يعود في الغد. وأحاديث جانبية كثيرة تهدم البيوت، وتُهلك الوجود، ويتحسر عليها صاحب الشأن ويتمنى لو أن الأمس يعود. كيف تحيا أنت وزوجتك، ماذا يجب أن ترتدي هي وكيف يجب أن تبدوا، كيف تتفقان وعلى ماذا وكيف تنفقان، لا تشاورها ولا تأخذ مشورتها، سيطر عليها، عنفها، عاقبها، أدبها، ألفاظ تشعرك أنك في معتقل، تتعامل مع مجرم، أو قاصر أو كأنهم يتحدثون عن فتاة لم يؤدبها أبويها، وكنت أنت صاحب وزارة التربية والتعليم فرع عش الزوجية، وبالمقابل نصيب آخر تصغي إليه الفتاة، أدبيه، دعي كلمتك العليا، دعيه يشتري لك كل ما تشتهين وإن لم يكن يملك مالًا، وانجبي له فريق كرة قدم حتى يتورط ولا يستطيع أن يفكر في أخرى. 

قائمة وساوس شياطين الأنس كثيرة لا داعي لسردها كلها، لذا باختصار، أنتَ والآخر كيان واحد، فلا تقتسم سلطتك مع الآخرين، وكن أنت والآخر حاكم نفسك.

قبل أن أغادر، أود أن أهمس لك بالتالي: لا تخرج مشكلتك فيصغي لها ثالث تظنه الحكم العدل، فلا هو منصفك، ولا هو يفهمه ويفهمك، ولا هو غدًا ساترك، فتكبر المشكلة، ويعظم الخطب، ولا أحد متضرر إلا أنت ومن معك أو حولك. إن كان من باب الفضفضة فهذا شان آخر، لكن لا تقتسم سلطة أي شيء مع الآخرين، سلطة قراراتك، سلطة تربيتك، سلطة زواجك ووظيفتك، سلطة نفسك، لا تسلمها لأحد، فلا أحد يحفظ الأمانة، ولا أحد يبالي بك، فالكل مشغول في نفسه وأهله، ولكن البعض حين لا يجد ما يسعده، يبحث عمّا يتعس الآخرين، فينالك بحديث أو بغمزة أو بمتى أو بنصيحة لا يريد منها خيرًا لك.

فأنتبه وتذكر أن كلام الناس لن يقف فهو كالموج، وبقاءه لن يطول، فهو كالزبد، وذاكرته ضعيفة فهو كالبحر، حين تصغي إليه فكأنما تحاول أن تسبح عكس التيار لتصل إلى بر رضاهم وما أنت ببالغه، فما عليك إلا أن تتجاهله وتجعله يضرب قدميك وأنت مسترخٍ على رمل الشاطئ، تنظر إلى السماء وتسمع هدير البحر الذي لن يسكن حتى ترجع إلى بيتك حيث أهلك، حيث أمك، حيث زوجك، حيث سكنك وجنتك التي لا تترك مجالًا لأحد أن يدنسها.

 همسة: إن من أكثر أسباب الهم والتعاسة أن يخشى الناس أفواه بعضهم بعضًا

النظرة الجامعية !

wedding_rings

الإنسان كائن مفطور على حب الجمال وكل شيء جميل، وهذا الحب ينطبق على كل شيء، بدءً من الثياب التي يرتدي وانتهاءً بالبيت الذي يسكن، وما بينهما. ولا اختلاف أن الجمال شيء أو حالة نسبية، وإن كان بعض الباحثون يرون أن الجمال هو تطابق مواصفات الشيء أو الشخص مع النسبة الذهبية، إلا أنها كذلك ليست الحالة المثالية بالنسبة للبعض، لأن اعتبار الشيء جميلًا يعتمد على ثقافة الناظر والمتلقي ومحيطه الذي ترعرع فيه، وما قد تراه جميلًا قد يعتبره الآخر ضربًا من القباحة، وباعا من البشاعة.

الزواج والطلاق، الحب والكراهية، السلام والحرب، الرغبة والنفور، الرحمة والغلظة، كلها متناقضات منتشرة في العالم، مهما استحدث الإنسان من أنظمة، وأوجد من قوانين، فلن يستطيع التحكم بمشاعر الإنسان دائما، فهي الشيء الوحيد الغير قابل للسلطة، مشاعره تحركه للزواج، مشاعره تحركه للرحمة، مشاعره ترغمه على الكراهية، وتفرض عليه الرغبة. لذا فإن سلوك الإنسان يمكن أن يلخص في “محفز” يعقبه “فعل”، لكن المحفز دائمًا معامله سين مجهول نسبيًا.

وبما أن الإنسان يعتمد على المحفز لخلق الفعل، لذا فإن أي شيء لن يكون قبل أن يكون السبب الأول. لماذا اتحدث كثيرًا عن الأنثروبولوجيا (علم الإنسان) وما دخل هذا بالعنوان؟ لا تستعجلني كي ترافقني في هذه الرحلة. تعريف الزواج هو الاقتران والازدواج، يقال زوج بالشيء أي قرنه به. والاقتران التزام بالشيء واتصال به، وكي يقترن الشيء بالشيء يجب أن يتوافق ويتلاءم معه، وهو ما يرجى له من المتزوجين أو الراغبين به. كيف يتوافق اثنان لم يلتقيا من قبل؟ حاول أن تستعيد أول لقاء بأعز صديق لك، كان لقاء خجلًا ربما أو جريئًا، كان في وسط ضجة أو ربما هادئًا في محطة باص المدرسة، هذا اللقاء الأول كان هو الفاتحة لما تم بعده من علاقة استمرت لعقود ربما أو بضع سنوات.

وكما أن كل شيء يبدأ بلقاء أول ورؤية أولى، فإن الزواج يبدأ من نظرة أولى، هذه النظرة قد تكون في الطريق، في بيت قريب أو حتى غريب، في محاضرة، في فقرة تلفازية، أو حتى في ردهة فندق، وبالحديث عن ردهات الفنادق فإن قصة زواج كليم عارضة الأزياء الشهير وزوجها سيل كانت حين رأت ما وصفته كليم بأنه أجمل رجل في العالم حين دخل ردهة الفندق، وكان زواجهما بسبب هذه النظرة، سيقول البعض “نحن لا نؤمن بالحب من أول نظرة” وأنا لا أسميه أول نظرة، بل أول عناق بين روحين لجسدين منفصلين. لذا فإن النظرة الشرعية قد تكون هي وسيلة تلاقي الأرواح، هي محطة باص مدرسة الحياة التي جمعتك بأعز صديق، هي سهم كيوبيد الذي اخترق قلبيهما.

لا زال البعض لا يستطيع قراءة أبجديات الحياة وبديهياتها، فما يتوافق معي ليس عليه بالضرورة أن يتوافق معك وذلك لأننا بطبيعة الحال مختلفون جدًا، فما تظنه مستحيلًا أؤمن بأنه عادي، وما تعتقده خطأ أراه صوابًا، لا تسخر مني لأنني أفعل ما أراه مناسبًا لي ولا تنتظر أن أصفق لك فيما أظن أن ما تفعله خطأ، ودعنا نرصف الطريق بين أفكارنا لنصل لنقطة تلاقي بين رغبتي ورأيي ورغبتك ورأيك، لذا فإن السخرية والاستهزاء بمسألة النظرة الشرعية وفشلها في جمع مشرق الأنثى بمغرب الرجل ضرب من الديكتاتورية الإجتماعية والفكرية.

الزواج رغم جماله وبهجته وأفراحه والتهاني التي تزف وتنثر على مسمع العرسان، إلا أنه أرتباط قد لا يقوى عليه طرفان يناسبان بعضهما البعض بشكل تام، فقد ينتهي بطلاق، فالزواج ليس علاقة سهلة وسلسة، بل علاقة فيها من المطبات ما قد لا يطاق ولا يحتمل، ومخطيء من ظن أن التوافق كافٍ لحفظ المؤوسسة الزوجية، لأن السبب الرئيس لاستمرار الزواج هو رغبة الطرفين في مواجهة أمواجه ورياحه في سفينتهما معا، فالربان دون مساعد سيغرق في أول موجة، لكن عامل التوافق هو عامل مساعد ومهم في الاستمرارية ولكنه ليس شرطًا لنجاح واستمرارية الزواج.

من يسخر من النظرة الشرعية حجته بأن الموضوع عرض لسلعة يقبلها المشتري أو يردها، ويحدد قبوله جمال السلعة، ويدّعي أن النظرة الجامعية أو الوظيفية هي الأرقى والأكثر ترفعًا عن السطحية التي في النظرة الشرعية، حيث أن التوافق بين طرفي المعادلة هو أساس العلاقة. وهنا نقع في الفخ الأكبر، وهو أنه حتى أقترب منك يجب أن أقبل شكلك، وحتى اتقبل شكلك، يجب أن انظر إليك، لذا فالنظرتين لا يخلوان من التقييم الشكلي قبل الفكري وهي الطبيعة البشرية، كطبق الأكل، لا يمكن أن يتناول احدهم من طبقٍ حتى يعجبه شكل محتواه. سيقول قائل: هنالك من تجذبه أفكار زميلته. لا بأس ولكن لا يعني ذلك أنه تجاوز الشكل من أول جلسة، بل أخذ وقته حتى يقبل الشكل، وهي حالات قليلة لا يقاس عليها، حالها حال من يقبل بفتاة لم يعجبه شكلها ولكن اعجبه شيء آخر في تصرفاتها أو في طريقة كلامها، لذا فإن كانت النظرة الشرعية نظرة سطحية، فالنظرة الجامعية قد تكون أكثر سطحية منها.

العيب والسخرية ليس ولا يجب أن يكون في النظرة الشرعية، بل ما يرتكب فيها من أخطاء، لذا وجب ألا تنتقد النظرة كنظرة، إنما أخطاء البشر فيها وهو ما لا يمكن التحكم به دون وعي الأطراف المعنية فيه، كأن يبحث الشخص عن الجمال ويهمل تماما مسألة التوافق (وهو يحدث في النظرتين الجامعية والوظيفية)، أن تقتصر مدة التعارف على اللقاء الأول ويتم الزواج، ألا يمنح الطرفين فرصة ووقت كافٍ لتجاذب أطراف الحديث وحدهما حتى يتسنى لهما الكلام بأريحية لتظهر شخصيتهما بشكل أوضح، التصنع والخداع والإيهام ورسم الأحلام والأوهام، وأخيرًا ألا يكون الهدف من الزواج “زوجوه يعقل” ففي نهاية المطاف الزواج ليس عملية استئصال لعقل أحمق وزرع عقل جديد لعبقري.

واضربوهن

images

 

يعرف الضرب على أنه تصرف فرد (أو مجموعة) عبر اتصال بفرد آخر بدافع خلق مشاعر أو ألم جسدي. ويعتبر الضرب أحد وسائل التعبير عن الغضب والاستياء والتنفيس عنه، وأحد أهم وسائل الدفاع عن النفس. يستخدم الضرب أيضًا كعقاب جسدي للنهي عن تصرف ما عبر بث الخوف فيه من تكرار هذا الألم الفيزيائي المؤذي للنفس والجسد على حد سواء.

ومن المعروف أن الضرب مستويات، أدناه أن يضرب أحدهم الآخر بإصبع أو أي شيء خفيف مع نبرة غاضبة، وأعلاه أن يضربه بشكل مؤذٍ يؤدي إلى موته. مع أن البعض قد يستخف بما سميته أدنى الضرب، إلا أن هذا النوع من الضرب قد يعد قاسيًا على النفس التي لم تعتد أن يستاء الآخرون منها، ويسمى بالضرب النفسي أيضًا، وأحيانًا هذا الضرب النفسي لا يكون باليد أصلًا، إنما فقط بالحديث الغاضب أو الحازم. وفي أحيان كثيرة قد يكون التهديد بالضرب أشد عنفًا من الضرب بحد ذاته على المعنف، خصوصًا إن جاء التهديد من طرف ذو مكانة بالنسبة للطرف الآخر.

واضربوهن، حجة اتخذها البعض لضرب زوجته بسبب وبدون سبب متحججًا بقوله “الله أمرنا، ونحن نأتمر بما أمرنا به الله”، حتى دون أن يصدر منها ما يدعوه لفعل هذا، ومع أن المفسرين تحدثوا كثيرًا في تفسير الآية ودلالاتها وشروطها، إلا أن الأذن التي لا تريد أن تصغي للحق لن تصغي له. والخطاب هنا ليس إلا للعقول التي تريد الحق لتتبعه، وتنأي عن الباطل وتجتنبه. الله عز وجل يقول في كتابه الحكيم: (واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن) المتأمل في هذا الشق من الآية يرى حكمة الله في قوله تخافون، حيث أن الله لم يقل واللاتي نشزن، حتى لا تكون صفة مرتبطة بالمرأة، بل لتوضح أن الأمر لا يتجاوز إلا خروجًا عن فطرة المرأة وهو تعاليها على زوجها (نشوزها) والتكبر عليه مما يتسبب في إفساد العلاقة الزوجية ويهدد استمراريتها. الله في هذه الآية الكريمة لم يبدأ فورًا بـ “واضربوهن” بل سبقها منه الوعظ، ومن ثم الهجر في الفراش، وهما وسيلتان معنويتان مؤثرتان وربما حتى كافيتان لتصحيح النشوز في بعض الحالات، ولأن الله الذي خلقنا يعلم اختلافاتنا، فهو يعلم أن الوعظ قد لا يصلح البعض، فرخص الهجر، ولأن الهجر قد لا يجدي نفعًا مع البعض، حينها فقط وبعد استنفاذ كل التراخيص المتاحة رخص للضرب وهو آخر خيار يلجئ إليه الزوج لتصحيح الوضع بينه وبين زوجته.

القرآن سن بعض الأحكام كعقوبات لأفعال مضرة بالمجتمع بشكل واضح وصريح، فقال: الزانية والزاني فأجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة. وفي آية أخرى: والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة. والجلد (الضرب بالسوط) يعد أحد أقسى أنوع العقاب الجسدي المتكرر المذكورة في القرآن للمسلم في المسائل التي تؤدي إلى فساد المجتمع كرمي المحصن والزنا. وهذه العقوبات لم تسمى ضربًا، بل سميت جلدًا وعددت. حين نقارن ذكر الجلد وذكر واضربوهن نجد أن الله لم يحدد شكل الضرب بشكل صريح، ولكن ولأننا نعلم أن الله رحيم بعباده وعطوف، فلن يأمر الله بضرب يؤذي المرأة، فهذا يخالف آيته وصفاته وسنة نبيه، ونعلم أيضًا أن الله لا يحب المعتدين. لكن مشكلتنا أننا لا نأخذ القرآن جملة واحدة، ونحب أن نحلل كل جزئية على أهوائنا، وتعمقاتنا الفكرية القاصرة، فإن كان الله يقول “ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة” فأين المودة والرحمة إن كان القصد في المسألة هنا أن يكون الضرب مبرحًا ومتكررًا فيفقأ فيه عينًا أو يصيب كسرًا، -وهي أفعال تستوجب أن يعاقب صاحبها شرعًا -ثم وكيف ستكون الحياة الزوجية بعد الضرب المبرح مستقرة؟ وكيف ستكون فيها مودة؟ فإن كان المراد والهدف في المسألة كلها ألّا تفسد العلاقة الزوجية، فكيف يكون الضرب هنا مبرحًا؟ ولأن مسألة الضرب هنا ليست عقابًا لم يقل الله تعالى “واجلدوهن”.

الله رخص لسيدنا أيوب أن يفي بنذره كي يجلد زوجته مائة جلدة بأن يأخذ ضغثًا أي ملء اليد من الحشيش، ثم يجلدها بيمينه دون أن يؤلمها. (وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث). وهنا نجد، أن أيوب لم يقل لزوجته سأضربك! بل قال سأجلدك مائة جلدة، مما يجعلنا نرجع إلى النقطة الأولى أن الجلد أسلوب عقاب وليس أسلوب توجيه. بينما الضرب يعتبر أخف منه. ولو عدنا لتعريف الضرب لوجدناه يتفق مع ما نريد الوصول إليه من هذه الفقرة، أن الضرب يراد به استجلاب مشاعر، وهو الشعور بالحزن أو الشعور بتغير الشخص وشدته وعدم قبوله التصرف، فعندما يصل الزوج به الحال ليخرج المسواك أو أي شيء خفيف يريد به ضرب زوجته دون إيذاء، تدرك الزوجة حينها أن الزوج شد عليها وتغير، مما يوقعها في حزن وهو ما يجعلها تعيد حساباتها ومحاولة تصحيح ما بدر منها.

نأتي لآخر نقطتين، الأولى وكما أسلفنا فإن الضرب ليس بشيء مستجد على العالم، وبعض الأزواج يضربن زوجاتهم – كما يوجد زوجات يضربن أزواجهن – وهذا ليس من فعل النبلاء فالرجل النبيل لا يمد يده على امرأة، ولا حتى من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم.

تخيل معي أخي القارئ لو أن القرآن لم يذكر الضرب أبدًا، حينها كان الرجل سيستغل الأمر وسينال من زوجته – كما كان يفعل بعض العرب للسيطرة على زوجته والتحكم بها بشكل قهري -حتى وإن لم تحضر له الشاي لأنها متعبة. بينما حين ذكرها القرآن ذكرها من باب التضييق والمنع، حيث أن الرجل لن يستطيع أن يضرب زوجته إلا في حالة واحدة فقط، وهي النشوز الذي يؤدي إلى إفساد العلاقة. لذا حين يمر الزوج بالقرآن ويقف على آياته؛ فإنه يجد نفسه مقيدًا جدًا بهذه الآية، بأن يبدر من زوجته التعالي والتكبر عليه ولا شيء سواه. سيأتي أحدهم ويقول “ولم لم يُنهى الرجال عن الضرب بتاتًا!!” وهاهنا نقع في إشكالية أخرى وهي أن بعض النساء سينشزن، ويتحول ذلك إلى ظاهرة، وتختل الأسرة وتركيبها، وقد تأتي الزوجة وتضرب زوجها من باب أنه لا توجد آية تمنع أو تحرم فعلها.

السؤال الذي يفترض أن يسأله أحدهم ردًا على الفقرة السابقة “ولم لم يمنع الضرب للطرفين”، وهو سؤال بديهي ومهم الإجابة عليه، ذلك لأن هذا يوقعنا في إشكالية، فهل سيأتي القرآن ليقول لمن جمعهما بالمودة والرحمة “ولا يضرب بعضكم بعضًا”! طبعًا من المستحيل ففي هذا خلاف لما فطرنا الله عليه وتناقضٌ كبير، وكأن أصل مسألة الزواج هو الضرب، وأصل المرأة هو النشوز، وأصل العلاقة هي الخلافات. والله عز وجل أعظم من ذكر شيء يخالف ما خلق الناس عليه وما زرعه فيهم.

ختاما، المثير للقلق أن الطرح يزداد في هذه المسألة الخلافية حول سؤال واحد وهو “لماذا رخص الله الضرب للرجل” وهو سؤال يتكرر باستمرار لأن الإجابة عليه ليست حاسمة وهي من باب الاجتهاد، ولكن كل اجتهاد يصيب المعنى من العلاقة الزوجية يقرب ويؤخذ به، ولأن المسألة عند البعض باتت وكأن كل امرأة يجب أن تنشز وتخل بالتكوين الأسري، وأن تتسبب في علاقة متوترة يدفع ثمنها الأبناء، والزوج والمجتمع الذي سيستقبل دفعات كثيرة من نساء ناشزات ورثن الطبع من أمهاتهن اللائي ارتأين أن من الخطأ ترخيص الضرب حتى وإن كان غير موجع، وإن كان حتى بالسواك، عوضًا عن أن تكون العلاقة بين الطرفين كما قال المولى عز وجل “هن لباس لكم وأنتم لباس لهن” دون نشوز، دون هجر في المضاجع أو حتى دون ضرب، فالمرأة الصالحة تحتوي زوجها، والزوج الصالح رجل نبيل، والرجل النبيل لا يمد يده على امرأة

لسنا جزراً

CUe1ZDlW4AA8j_2

وجدتني امسك بورقة دون فيها ترتيبي. كان الرقم الذي أحمله قد تجاوز الثلاثمائة، وما يزيد البل طينًا كثرة الزبائن عند تلك المحطة المسماة “شركة الاتصالات”، اتلفت يمنة ويسرة اترقب رجلًا قد ثقل عليه حمل تلك الورقة الخفيفة التي تحمل دوره، ليمررها لي، وما يلبث أن يمر ذلك المثقل ليمرر الورقة لفتاة أتت بعدي، علّ ذلك يخفف عليه وطأة الوقت الذي ضيعه في دور لم يستطع أن يصبر من أجله، ولم يصبر على أن يسمع منها كلم شكرٍ ناعمة لم يسمعها من زوجته منذ قرن.

كلنا نتحمل تلك المشقة، أن ننتظر أدوارنا وكأننا مرضى ننتظر شريحة تعلق في كبد هاتفنا، فنصحو من علّة انقطاع الخدمة، لنحصل على ذلك الاتصال الذي كنا ننتظره، أو نستقبل تلك الرسالة التي تغير مزاجنا وتخفف وعكة الانقطاع عمن نحب ومن نريد. هكذا أرى مشهد الطوابير التي تقف أمام شركات الاتصال، أو هكذا على أقل تقدير أقرائها.

البارحة وردني اتصال غير متوقع من زميل سابق وصديق من الهند كان قد سألني عن السبب الحقيقي وراء ذهابي لمحافظة ضباء وحين علم بالخطب، لم يكتفي بمراسلتي عبر الرسائل النصية، انما رفع الهاتف وسألني إن كان كل شيء بخير، كنت مسرورا باتصاله كثيرا، ففي الأزمات قد يخذلك المقربون وتعجبك مواقف الأبعد منك، مما يجعل الحزن يغيب عن الآخرين ويرفع ستاره عنك.
“الواتس آب”، لم أعد اعترف كثيرا به، ليس ذلك وحسب، بل وبالكاد استخدمه بين فترة وضحاها، وكثيرا ما اتجنبه واتحاشاه وكأنه رواق مظلم لا تدري ما يصيبك إن عبرته. قد يظنه البعض طريقا مختصرا، ولكنه لا يوصل إلى قلب أحد. على مدى سنوات استخدامي له رأيت كيف يساء فهم جملة، كيف يسقط منك ايموجي (ايقونة الوجوه المبتسمة) خاطئ في عزاء أحدهم، وكيف تستحيل الله يرحمه الى مات وارتاح بالتصحيح التلقائي، نعم تظنها مبالغات، ولكنها واقع، العديد من حالات الطلاق صنعتها محادثة عابرة، والكثير من الخصومات تسبب فيها غياب الجيم من الجملة، أو سقوط الشين من الشباب.

نحن البشر كائنات اجتماعية بالدرجة الأولى وكذلك الأخيرة، كما قال المثل الأجنبي “ليس هنالك إنسانٌ جزيرة” في إشارة واضحة أن الإنسان لا يستطيع أن يحيا وحيدًا كالجزيرة لا تنتمي لأرض. وهذا ما يجعلنا نصطف بطوابير تنازع الانتظار وتغالب الصبر؛ حتى نحصل على تلك الخدمة، أو نفتح ذلك الخط، أو ندفع تلك الفاتورة لتجنب الانقطاع عمن نحب أو عن العالم الذي نحب. ورغم حبنا الشديد للتواصل، إلا أننا نصل لنقطة نبدأ في العزوف عنه، وقد لا نفعل ليبدأ الناس في العزوف عنا، لأن العلاقات تشوهت كثيرًا، المشاعر أصبحت تلخص في أيقونة قلب، والاهتمام أصبح يرتدي ثياب اللامبالاة، مواساتنا جملة تقال وتنسى، وتعازينا ننسخ جملته من رسالة سبقنا إليها عضو في مجموعة. صرنا نبالي فيما يقال لنا أو عنا، ولا نبالي بالآخرين وما يمرون به، نرسل خواطرنا، دون أن نفكر في أن نلقي نظرة على خواطر الآخرين، حولتنا البرامج الاجتماعية إلى كائنات أنانية، تفكر في الاستعراض وتتجاهل العرض، تطلب ولا تقدم، وتنسخ دون تحري، وترسل دون أن تفكر.

عندما أرغب في سرد موضوع مهم فإنني أرفع سماعة الهاتف، وحين اشتاق لأحدهم فإنني أتفق معه على موعد للقاء، وكلما شعرت بضيق أو حزن؛ فإنني أدير محرك سيارتي حتى أصل لمن يجيد فك ذلك الضيق، أو لصاحب صدر يتسع لوجعي. لا شيء يربطني بالعالم الافتراضي سوى ثرثرة، وحروف عابرة، ونصوص ناقصة، وصور تحفظ جزءً من ذاكرة. لست مرتبطًا ببرامج التواصل الاجتماعي بشكل لا أقوى على كسر قيوده. لا ننكر أنها نحتت شكلًا جديدًا لنمط الحياة، حتى أصبحنا لا نقوى على تجاهلها، قربتنا من الآخرين بالشكل الذي يبعدنا عن ذواتنا وعن حاجتنا كبشر للتواصل الفيزيائي، جمدت علاقاتنا واختزلتها في زر إعجاب، والعجب أن البعض حتى لا يضغطه، بل يكتفي بالمراقبة عن بعد، ثم يخبرك بعد سنوات طويلة من الغياب أنه يعرف كل ما تصنع فهو متابعٌ جيد لك في الإنستقرام، وقارئ جيد لك في الفيسبوك، ومهتم جدًا في خواطرك في تويتر.

وبمناسبة الحديث عن المعرفة، وفي ظل انعدام الخصوصية وغياب الانعزال، فتحت البرامج الأبواب التي لم يكن من مفتاح يقوى على فتحها، أبواب أسرار البيوت، وأخبار الموجود، وتفاصيل الفرد المغيبة عن المجتمع، وجعلت من السهل النفاذ إلى حياة أحدهم، وهتك سترها، وفضح عورها، وجعل سمعته علكة يمضغها القاصي والداني، والسامي والحقير، وفتحت الكثير من المنافذ للمخترقين الإلكترونيين، والمبتزين، وسهلت على الذئاب الطرق الوعرة، وأصبحت الأغنام طريدة سهلة يذوق من لحمها أي قطعة يشتهي، ويسرت الفساد للوصول للعباد، لا وصول العباد إلى الفساد؛ فأصبح من في أعمارنا أطفالًا يرون ما نخجل من أن نراه كبارًا، ونفذت بهم إلى عالم لا يعرف براءة وردية، ولا ضحكة نقية، ولا فرحة شقية، إنما شقاء يحصدونه حين يكبرون، فتأتي من بعدهم أجيالٌ تسب أجيالنا لأنها لم تعرف كيف تركب التطور، فحمّلت التطور عبأ يحملونه من هم بعدنا.

مقالي هذا أشبه باعتذار لمن لم أستطع التواصل معهم بشكل جيد في الواتس آب، فقط لأنني سئمت مضيعة الوقت في قراءة برودكاست فقير بالمعرفة والصدق، غني بالكذب والجهل، مليء بالتفاهة، خاوٍ مما يستحق ثوانٍ نُسِلت من أعمارنا، ومقاطع قصيرة إما لأحمق يرقص، أو لأخرق يغتاب أحدهم بمسمى “طقطقة” أو سخرية، وكأننا ولدنا لنصحح أخطاء الآخرين بأخطائنا الأعظم، متى نترك للناس حريتهم ونناصحهم عوضًا عن السخرية منهم بشكل مبتذل مهين، متى نتوقف عن ارسال فتاوى لا أصل لها ولا فصل، قالها شيخ لا يعرف للشرع طريقًا، أو حتى قيلت عن شخص لم يقل بها.

ساتراجع عمّا قلته فمقالي هذا ليس مجرد اعتذار، بل هو توضيح، فالبقاء حول أحدهم لفترة يجعل نسبة المشاكل ترتفع، لذا دائمًا ما يقال “لن تعرف أحدهم حتى تسافر معه” لأنك ستراه في كل حالاته وستعرف كل احتمالاته، ولأن الواتس آب أو غيره من البرامج وفرت تواصلًا دائمًا بين العائلات والأصدقاء والزملاء، ستجد أن تلك المجموعات تضم مشاحنات عديدة، وعداوات معدودة، والانسحابات فيها واردة موجودة، وأعزي السبب لما قلته هنا وما قلته سلفًا من أن ملامح الفرد مغيبة عمّا يكتب، لذا فتفسير المكتوب يعود على القارئ ومزاجه، وحالته الفكرية، ورغباته المدفونة، وقد يخلق سوء فهمه من الحبة قبة، فيخسر الناس بعضهم.

لذا وقبل أن نصبح حقًا مجرد جزرٍ متفرقة لا يربطها سوى خيط وكوبين ويمسي المثل لا قيمة له، علينا أن نعرف متى نتحدث مع أحدهم عبر البرامج، وماذا نكتب، ومع من نتواصل، وأي المجموعات يجب أن أكون فيها، وكم من شخص عليَّ أن أراسل، وكم من الوقت يجب أن أضيعه في دردشة ربما تبدو غير هادفة، لست ضد الواتس، ولكن ومع تكرر المواقف المحرجة بسببه، والفهم الخاطئ لم نسرده، واستياء الناس من عدم التجاوب المباشر معها، وجدتني مضطرًا لعدم التفاعل مع هذه البرامج إلا ما ندر. هذا كل ما في الأمر

علّة الصناعة

davinci_human-sketch321

إن الإنسان يعتبر من أكثر الكائنات تكيفًا ومقدرة على التعلم، لا يمكن لكائن حي أن يتغلب عليه في قدرته على التغلب على المشقات والمصاعب، فقد دأب الإنسان منذ قديم الزمان على منافسة بقية الكائنات الحية في الصيد ومهاراته، الدفاع عن النفس وأدواته، وصنع المسكن ومواده. ومع مرور الزمان وفهم الإنسان وتمييزه وخلقه لأدوات تساعده في تسهيل طريقة تسيير حياته ورفعها نحو الأفضل، تطور الإنسان وطور معه عالمه ومحيطه حتى أصبح هو خليفة الأرض، لا غالب له في مقدراته ومهاراته إلا آخر يشبهه يملك فقط قوة احتمال أكبر وعزيمة أكثر منه.

بنية الإنسان الطبيعية هي أن يملك وجها به كل حواسه، وقدمين ويدين وبطنا، وهو ما يخوله لصنع ما يشاء بشكل سهل وسلس، أن يصعد الجبال، أو يهبط الوديان، أن يطير في السماء، أو يسبح في الماء، أن يصنع عود ثقاب، أو يصنع مسبار فضائيًا، دون أي عسر أو صعوبة كبيرة، ولكن ولأسباب إلهية لا نملك دائمًا لها أجوبة، يولد بعض البشر دون أطراف كاليد والقدم، أو دون حواس كالبصر والسمع، مما يخلق أمامه عوائق وحواجز في صنع ما يشاء، ولأن الإنسان بطبيعة خلقه لا يحب الركون والخنوع، فإن فئة كبيرة من هؤلاء الخارقون يصنعون فروقات عظيمة قد لا يصنعها صاحب البنية الصحيحة، والقوة العظيمة؛ وذلك لأنه وبالرغم من الفقد الحاصل إلا أنهم لم يفقدوا أهم ما يميز الإنسان، وهي العزيمة والإصرار والعقل.

العقل هو عِلّة الصناعة، ما يميز الإنسان ليس فقط كينونته المتكيفة مع محيطها، بل وقدرة عقله على التعلم بسرعة وتقبل التغييرات والتفاعل معها، وتخزين الكم الهائل من المعلومات المهمة التي تساعده في المستقبل لتخطي الحواجز والعقبات بما يسمى بالمصطلح البسيط “عامل الخبرة” أي المعلومات التراكمية التجريبية والنظرية التي يتم تحليلها وقولبتها على شكل تصرفات أو أقوال أو أحلام أو حتى خططا يستفاد منها أو يتم نقلها من وإلى آخر… آه نعم أحلام.

احتار العلماء كثيرًا في تفسير ظاهرة الأحلام، وحاولوا الوصول إلى السبب الرئيسي والأوضح عن معنى أن نحلم، خلص البعض إلى ما أتفق معهم فيه وهو أن الحلم هي محاولة العقل في مراجعة ما يمر به من أحداث مرئية، ومسموعة وحتى ملموسة، وعمل فلترة لما هو مهم واهمال البقية، ثم رسم مواقف تساعد الفرد على التعاطي معها ذهنيا ويقوم العقل بحفظ هذه المعلومات كحلول مستقبلية في حال وقع الشخص في هذه المشكلة أو الوضع، ولتوضيح الفكرة دعنا نضع حلمًا افتراضية، كثيرًا ما نحلم بأننا على حافة ما، وقام أحدهم بدفعنا وحاولنا التشبث دون جدوى. ما يتم تخزينه في العقل هو “الابتعاد عن حواف المناطق المرتفعة” عند بعض الأشخاص، و “حاول أن تتأكد من ألا يلمسك أحد وأنت عند حافة مرتفعة” عند آخرين، وتختلف التصرفات من فرد إلى آخر بالطبع.

قيل إن اللاعبين الذي يمارسون الرياضة في أحلامهم هم أكثر تفوقًا من الذين يمارسونه على أرض الواقع، فقد عمدوا في أحد الدراسات على جعل مجموعة من اللاعبين أن يقوموا بالتدرب على رمي كرة السلة، على مجموعة منهم أن تحاول أن تحلم بأنها تلعب كرة السلة وترمي بالكرة وفي كل الرميات في أحلامهم تدخل الكرة، وجعلوا المجموعة الأخرى تتمرن على ادخال الكرة، والمجموعة الأخيرة تتدرب عبر رمي كرة وهمية في السلة، والنتيجة كانت، أن المجموعة التي مارست اللعب في الحلم كانت أكثر من قام بالتسجيل والتسديد الصحيح، يليها من قام باللعب بالكرة الوهمية في خيالهم، ومن تدرب بشكل حقيقي كان له النصيب الأقل.

كل هذه المقدمة كان الهدف منها الوصول لنتيجة واحدة وهي أن العقل أهم من البدن، وبالعقل نستطيع أن نصنع كل شيء، لا المحيط يتحكم بتفوق الإنسان، ولا الظروف، ولا المال. ما أنف ذكره كلها عوامل مساعدة، فإن كان لك أو كنت تظن أن لك عقلًا سليما راجحا، فما الذي يبقيك في مستوى أقل من مستوى الإنسان المتكيف المتعلم المتفوق على بقية الخلق، ما الذي يمنعك من أن تتخيل نفسك نجمًا في الأرض، أو كوكبًا في السماء، ما الذي يمنعك من أن تكون محور الكون، وأنت حقًا من منطلق علمي بحت محور الكون الذي تدور حوله الأفلاك والسديم والمجرات، ما الذي يمنعك من أن تصنع ما تحب وما تشاء، إن كنت تملك جسدًا صحيحًا لا مرضٌ فيه ولا علّة، ما الذي يبقيك كالمقعد في السرير، تأكل وتنام وتصحو لتأكل وتنام، وكم من مقعدٍ تحرر عقله من مقعده وارتحل إلى فضاءات لم تصلها عيون البشر.

ظروفك؟ دعنا نتحدث عن الظروف، محمد صلى الله عليه وسلم بنى خلافة لم يتفوق عليها بشري في عدالتها وحسن تدبيرها وقوتها وهو اليتيم المضطهد المحارب من قومه، وهتلر كان يعيش فقرًا شديدًا بعد ثراء حتى وصل إلى سدة الحكم، وستيف جوبز بدأ شركته من مرآب المنزل وانظر إلى أسم أبل الآن. والأسماء كثيرة لا يسع المقام لذكرها فقط لمن تحدى الظروف، وطارده الفشل مرارًا، ولم يوقفه منها شيء، الإنسان يستطيع أن يبرمج عقله للخنوع والتقاعس، أو للحماس والتحدي، وبالعقل يستطيع الخروج من سجن ظروفه، إلى حرية فكره من المحيط، ما الذي يمنعك أن ترمي السلة في خيالك أو حلمك، ما الذي يمنعك من أن ترسم الموناليزا في عقلك، من الذي يستطيع أن يمنعك من أن تصنع فلمًا من غرفة منزلك، أنتَ، نعم أنت من يمنع نفسك ويتحجج بالآخرين، أنت من يدق مسمار الاستسلام في نعش عقلك، وبمناسبة الحديث عن القبور والموت والنعش، فإنه يقال: إن أكبر مكان مليء بالكنوز هي المقابر، لأن الكثير من الأفكار دفنت ولم ترى النور. لماذا تريد أن تدفن الكنز الذي بداخلك، إن كنت تحيا في صندوق، أو تعيش في قصر، لا هذا يمنعك من النجاح، ولا ذاك يمنعك من الفشل.

من المحزن أن كل إنسان ميزه الله بموهبة أو بعقل أو بقدرة مختلفة تجعله متميزًا عن الآخرين فيهمل نفسه ويهمل فهمها، ويقضي جل وقته يتقلب بين القنوات والشهوات، والمقاهي والمجمعات، وينسى أن له رسالة عليه أن يُبَلِغها أو يَبْلُغها، وموهبة قد تصنع له مجدًا أو اسمًا أو تاريخًا، أو حتى يفتح من ورائها باب رزقٍ لا يغلق، فمن المحزن أن تموت هذه المواهب وتدفن، وما هو أقل مرارة من موت الموهبة، هو اعتقاد الإنسان بموهبته في مكان في أقصى الأرض، بعيدًا عن موهبته الحقيقة، فيفني عمره دون أن يحقق شيئًا يذكر، ودون أن يواجه نفسه في معرفته لموهبته الحقيقية وتحقيقها.

من المهم وجدًا من المهم أن يواجه الفرد نفسه حين يفشل فيما يحب، فيقع أمام خيارين لا قرعة فيهما، إما أن يحاول بكل ما يملك من تركيز ووقت وقدرة حتى ينجح، وإما أن يبحث عن مكانه الحقيقي. سيسأل البعض بتذمر…. وكيف أعرف أنني في المكان الصحيح. إن الأمر بغاية البساطة وأسهل حتى من شرب الماء، كل ما عليك صنعه هو سؤال من حولك ممن تثق برأيهم في المجال الذي تحب عن الشيء الذي تصنعه، والشبكة مفتوحة للتواصل مع ذوي الخبرة لتوجيهك. والطريقة الأخرى أن ترى ما أنجزت وحققت طوال السنوات التي قضيتها في صنع ما تحب، هل أوصلتك لمكان أو لإنجاز؟ إن كان الجواب لا، فهذا يعني أنك يجب أن تعي أن كل ميسر لما خلق له، ولن ييسر لك إلا ما تبرع فيه، قد تكون بارعًا في التفوق الدراسي، قد تكون ممثلًا بارعًا، قد تكون لاعب كرة محترف، انشر اعمالك، شاركها الآخرين وستعرف الجواب حين يصل صوتك للناس.

قبل أن اختم سأتحدث عن ظروف أخرى قد تقف كعائق، ظروف المشاكل المنزلية، أو مشاكل المحيط، نعم إن هذه المشاكل سبب كبير في عدم بلوغ الكثير من البشر للنجاح، وكلما بدأت هذه في سن أصغر كلما عظم التأثير على الفرد، وكلما كبرت رقعة المشكلة وأصبحت مكشوفة ومعروفة بحيث تصل لمحيط الشخص ثم ترجع كنوع من السخرية أو الإهانة، كلمات أصبح أثرها أكبر، كتأثير إلقاء حجرٍ في بركة ماء، فإن لها اهتزازات تتسع رقعتها، كما لها قاع تترسب فيه هذه الصخور. يقال إن تعاطي العقل مع الضرب الجسدي، هو نفسه تعاطيه مع الضرب النفسي أيًا كان نوعه، فكلاهما يستقبله العقل كنوع من الألم؛ لذا كلما بادر الفرد بإخراج هذه الحجارة من قاعه، كلما استطاع التعايش مع المشكلة ومواصلة السعي للعيش براحة نفسية داخلية. اخراج الحجارة يعني مواجهة الإنسان لنفسه وقبوله بحاله والسعي لتغيير واقعه، وكذلك تحديه بأن يتغلب على كل ما يمر به، فالدنيا تسير بسيرك أو حتى إن لم تبرح مكانك، ولن تمد الدنيا لك يدها لتقول لك “هيا بنا” بل تحتاج أنت لتخرج من داخلك لتمد يدك لتنهض وتمضي مع أصحاب النجاح للوصول لهدفك أو بغيتك، لا تنتظر أن يمد الآخرين لك أيدي العون، وإن وجدت فلا تتكئ عليها، فلن تمتد لك الأيدي دائمًا.

أخيرًا أقول العقل هو ما يصنع الفرق، هو ما أوصل الإنسان إلى فهم حجمه أمام الخلق الشاسع، وهو الذي جعل هذا الكون الشاسع ينحني تقديرًا لمحاولاته بلوغ أقصاه وأدناه. من كان يتخيل أن الإنسان يستطيع أن يصل إلى أصغر جزء من المادة، أو يرى أكبر نجم في الكون، أن يصنع أذكى رجل آلي، أو أن يصنع أصغر ذاكرة. لا أحد تخيل، لم نكن نتخيل حين رأينا أول ألعاب الفيديو، أنه من الممكن أن نسمع أصواتًا تخرج من أبطالها، والآن نحن نكاد نرى وجوهًا حقيقة وحواراتٍ وكأننا نشاهد مسلسلًا تلفازيًا. لا يمكن لشيء أن يتغلب على خيال الإنسان وقدرته على تحويل الخيال إلى واقع إلا آخر يشبهه يملك فقط قوة احتمال أكبر وعزيمة أكثر منه، فكن أنت الآخر الذي يشبهه.

السقف والأرضية

r5h

يحكى أن مجموعة من الموظفين يعملون في محل ذو طابقين، نصفهم يعمل في الطابق الأرضي، والنصف الآخر في الطابق العلوي. وبينما هم يعملون سقطت أساسات من الأعلى وأصابت بعض العاملين بجروح متفرقة، وسقط مع تلك الأساسات عامل من الطابق العلوي وأصيب ذلك العامل بجروح متفرقة. أتت الشرطة لتسجيل الحادثة، فقال أحد المصابين: كنا نعمل وفجأة سقط السقف علينا وسقط معه أحد العاملين معنا من الأعلى. وقال آخر: وبينما أنا أسير انهارت الأرضية وسقطت إلى الأسفل معها. فالسؤال هنا، هل سقط السقف أم انهارت الأرضية!

كثيرًا ما نتجادل بشأن أمر ونصر على أننا الصواب وكل شيء عدانا هو الخطأ، ويكاد بعضنا يقسم بكل ما يعرف فقط ليثبت صحة كلامه، وكأن الدليل على صحة آرائنا وكمال حجتنا أن نقسم بالله. وكلنا يعرف أن ما يقوي وجهة نظرنا هي الأدلة والمعلومات أو البيانات والاحصائيات الحقيقية التي تدعم حججنا، وللفوز بنقاش أو لإقناع الآخر بوجهة نظرنا، أو على أقل تقدير يوضح سبب اقتناعنا بها.

قبل عدة أيام كان الجميع يتجادل في موضوع الفستان، أبيض وذهبي، أم أزرق وأسود. بغض النظر عن الثورة الجدلية التي أحدثها الفستان، والتحليلات العلمية والفيسبوكية؛ إلا أن واحدًا منا لن يشتريه أو يرتديه مهما كان لونه، وفوق هذا كله تجد البعض يتهم الآخر بأنه أعمى أو غبي أو لا يرى، مع أن الإحصائية تشير إلى أن الأغلبية رأوا ألوانًا عدى الأصلية، فأخذ البعض يتنصل من خياره ليكون مع الأغلبية ويكذب بصره كي لا يشعر بعقدة النقص.

الاختلاف نعمة قد يقلبها البعض لنقمة، تخيل لو أن الناس جميعهم متشابهون، نسخ مكررة اللون والفكر، تخيل ممر في مستشفى كل الأطباء ينادون المريض أحمد، وكل المرضى أحمد، تخيل العالم كله نساء فقط، أو كلهم رجالٌ فقط، تخيل أن جميع الهواتف والسيارات والمنازل والعمارات واحدة، مستنسخة، نتحرك في نسق لا يتغير، وكأننا نسيج واحد! مجرد تخيل عالم موازٍ لعالمنا ويشبهه يدعوا للضجر، فكيف بعالمنا نفسه يكرر نفسه وأفكاره، يكرر نفسه وأفكاره. أرأيت! لهذا قلت أن الاختلاف نعمة، وجمال الاختلاف في وجهات النظر والآراء يكمن في أن يوسع المدارك ويتيح التعرف على جميع الاحتمالات التي تدعم الرأي وتعزز ثقة الفرد بنفسه وتثري ثقافته، الآراء المتشابهة تغلق النقاش وتقتله، لهذا كلما تنوعت الآراء في أي جلسة، كلما أثنى الحضور عليها.

الكل يعرف تلك القصة المشهورة حول مجموعة من المكفوفين الذين دخلوا إلى غرفة وقيل لهم صفوا لنا ما هو الفيل، والذي لم يروه من قبل، فقال أحدهم وقد أمسك خرطومه، هو أشبه بالثعبان، وقال الثاني: هو أشبه بالمكنسة، وقال الثالث: هو عبارة عن أربعة أعمدة. لم يخطئ أي من المكفوفين هنا في وصفه، فكل يرى من زاويته الخاصة ما يعتقد بأنه الصورة الكاملة لما هو أمامه أو الحقيقة المطلقة. وبما أنه لا توجد حقيقة مطلقة، ليس بالضرورة إذًا أن نتفق في كل شيء، فالاختلاف في كل مسألة رحمة، ولكن كما أحب أن أقول دائمًا، اختلاف لا يؤدي إلى خلاف.

نعود إلى مسألة السقف والأرضية والتي تشبه إلى حدٍ كبير مسالة الفستان والفيل، فكل يرى الأمور من زاويته ومن موقع نظره، ومن خلفيته، وحتى من عيوبه الخلقية أو حتى من اختلافاته الجسدية، فما سقط هو السقف بالنسبة للعاملين في الأسفل، وما سقط هي الأرضية بالنسبة للعاملين في الطابق العلوي، لذا قبل أن تسعد بكونك ذو دماغ أيمن أو أيسر، وقبل أن تقول لفلان أنت أعمى، أو أنت غبي، وقبل أن تتباهى بوجهة نظرك أو حتى تفرضها، تذكر أن الاختلافات سنة الحياة، وهو ما يجعلني أنا الكاتب، وأنت من يقرأ، وأنت الممثل وأنا من يشاهد، وهي الرسامة ونحن من يستمتع برسوماتها.

يقع البعض في معضلة كبيرة وهيَّ تسفيه رأي الآخر والسخرية منه ونقده بنوع من التحقير والاستخفاف، وما يدعو للحزن هو أن يكون هذا الذي يحقر ويستخف بالآخر شخص ذو علم وصاحب إطلاع واسع. ولأنني مقتنع أن الإنسان كلما قرأ أكثر، كلما تفهم وتقبل الآخر بشكل أفضل، فإنني امتعض من فكرة أن يؤدي المثقف أو المطلع دور المتفلسف المستهزئ بالآخر، والغير متفهم لحيثيات الآخر، ولا قابلٌ لاختلافاته أو متقبل لآرائه. فمتى نعي أننا حتى نجد أرضية مشتركة تسع كل أجناس الأرض وألوانهم وأشكالهم وأخطائهم يجب أن نتقبل اختلافاتنا واختلافاتهم ونيقن أننا لا نشبه غيرنا إلا في كوننا من آدم، وآدم من تراب، ومتى ندرك أن السقف سقف لمن تحته، والأرضية أرض لمن يسير عليها.

كلنا قتلة

Killing-Lincoln_510x317

ليست المشكلة في القتل، فهي مهنة قديمة جدًا احترفها البشر على يد قابيل أول مجرم في التاريخ، ولكن المشكلة في تسويق القتل على أنه مادة إعلامية. قد يقتل أحدهم رجلًا بأبشع وأشنع وأفظع الطرق، ولا يذكر عنه شيء ولا يبقى له أثر. القصص التي تذكر تلك التي تم تسجيلها، اما التي طويت تحت الثرى، فنحن نائمون عنها لأن أصحابها بشر لم يبالِ بهم الإعلام، فكيف نبالي نحن بهم.

يموت مليون دون شاشاتنا فلا نبكي ولا نذر، ويموت فرد تحتها، فنعول ونجول ونقتل بمعاولنا وبمحارقنا وبأبشع الطرق؛ لننتقم لعواطفنا ونقتل منطقنا وحججنا الواهية، بل وسنجد الأسانيد والمبررات المذهبية والمنطقية والتاريخية لردود فعلنا تجاه من نعاديه، وسنجد كل الحجج التي تشنع وتبشع الفاعل، بل وسنصنع تماثيل لمجرمينا، ومحرقة لمجرمين لا ينتمون لنا أو حتى مزبلة نعرج عليها كلما أردنا؛ لنلعن ونشتم وكأن ديننا أمرنا بأن من لا يشتم الناس سيدخل إلى جهنم خالدًا فيها، وأن الحديث الذي يقول بأن المسلم ليس بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش البذيء، قيل لقوم سوانا.

أمريكا أكبر عاهرة عفيفة في العالم، هي التي كانت تعذب الأسرى حتى الموت بطرق لا يعلمها إلا الله لا ندرك منها إلا ما تسرب، وها هي تتحدث عن البشاعة في أوطاننا العربية وتعلن بكل إنسانية عن دعمها لنا لنصنع العدالة بالظلم والسلاح. لدينا من التعذيب والتنكيل والقتل ما قد يكون أشد وأمر مما فعله أعتى مجرمي العالم ولكن آلة التصوير لا تطرق كل الأبواب لنعرف وندرك شيئًا، لهذا لا نستطيع أن نتعاطف معها أو نغرد بدموعنا لها.

للأسف الموتى الذين ليسوا من أصلابنا أو عشائرنا أو مذاهبنا ليسوا سوى جثث لا تزن رطلًا ولا تعدل إبلًا. ونحن شعوب انتقامية، والانتقام لا عدالة فيه البتة، وأحيانًا يكون انتقامنا لا إنسانية فيه، بل وقد يكون أبشع من الفعل، مع أننا ندرك أن القصاص من غير نوع الجرم جريمة بحق المجرم؛ فيكون حالنا كمن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعضه. أي نجرم القاتل ثم نفعل ما نظنه جرمًا ولا عدل فيه.

ونذكر في هذا المقام قصة الهرمزان حين شهد أنس ابن مالك له بأن عمر قد أمنه بأن لا يقتله حتى يشرب الماء، فغضب عمر وقال: ويحك يا أنس إنه قاتل أخيك البراء وأصحابه أنا أؤمن قاتل البراء ابن مالك ومجزأة. فرد أنس: شهادة الحق يا أمير المؤمنين، إنك قلت لا بأس عليك حتى تخبرني ولا بأس عليك حتى تشرب. ومن هنا نرى العدل والحق يتجليان في أعظم صوره، فهو يشهد بالحق لقاتل أخيه، بينما لا يلبث المرء أن يفتتن فيقف مع الظلم والظالم في مواجهة الحق والمظلوم عندنا.

من المهم أن نعي ما نصنعه بأيدينا؛ فإن أكبر فقاعة صنعها العرب هي فقاعة تشويه الدين بأفعال المتطرفين، وكأن الغربي يبالي بكَ وبدينك أو حتى على أقل تقدير بدينه. المسيحية المتطرفة في أفريقيا تقتل سنويًا بأرقام كبيرة المسلمين كتصفية عرقية باسم الصليب، وفوق هذا يقومون بتوثيق تلك الجرائم من حرق ونحر، ولن تجد الصدى الذي تجده أفعال من ينتسب بشكل أو بآخر للإسلام لا عندنا ولا عند القوم المُعَظمين المتقدمين المتحضرين حسب تقديرنا والذين يتحدث عنهم التاريخ بأسوء مما فعله تاريخنا بأحد. لذا صدقني نحن مادة دسمة لجلب الإستعمار والدمار لأنفسنا بسبب أو دون سبب.

ثم إن من السهل على أهل الغرب أن يستخرجوا آيات القتال من المصحف دون أن يرجعوا لأفعال المتطرفين فيه، وهذا ما فعله أحد المغردين معي حين قلت أن دين الإسلام ليس بدين إرهاب ولا حتى بدين سلام، هو دين عبادة وتوحيد، ودين خلق. فقد جاء محمد متمما لمكارم الأخلاق بهذا الدين والسنة التي عرف بها العرب قديما، ولكننا تخلينا عن هذه المكارم رغم أننا أمسينا مسلمين دون أن يقاتلنا أو يعذبنا في ديننا أحد. لذا دعونا لا ننفخ في هذه الفقاعة لأنها ستنفجر في وجوهنا في أول نقاشاتنا أو مناظراتنا مع الآخر، وعليه يجب أن نفهم ديننا، قبل أن ندندن أو ندين، أو نشجب أو نتفق، ولا نطبل لتصرف أو نثور ضد آخر دون علم دون عقل دون منطق ودون دين.

أرى أننا موجة عارمة قمرها شاشات جوالنا، فإن غاب، غابت موجتنا ونامت وانشغلنا بتوافهنا الشخصية، ونحن قومٌ نتباكى على “ناسنا” أما “ناسهم” فليموتوا كالقطيع الذي دهسته سيارة مسرعة. والمضحك فينا أننا نبحث عن الإنسانية في تعامل الآخرين معنا، أما مع من هم دوننا وتحت وصايتنا ننكل بهم سواء بالقول أو بالقتل. لهذا إن كنا حقًا كذلك فنحن لسنا أفضل من القاتل، فنحن كلنا قتلة.

الحقيقة والخيال

10882192_10152904790150446_3395885071164311762_n

يسأل بعض الفلاسفة سؤالا جدليا حول الكون والحقيقة، وهو: هل كل ما نراه حولنا ونلمسه ونشعر به حقيقة! هل على سبيل المثال يدك ورجلك وأنفك موجود في الأماكن التي تراها في جسدك !

سيقول البعض: لأنني أرى يدي وأستطيع لمسها، وحمل الاشياء بها إذا هي حقيقية. دعنا نتجاهل فكرة حمل الاشياء وسنعود لها لاحقا، ودعنا نتحدث عن الحواس، في تجربة لحدود العقل في الإدراك، قام مجموعة من المختصين بعمل كشك صغير يروجون فيه لأداة مساج صغيرة تسمى النحلة. تطلب احداهن من زبائن المجمع الاستلقاء على الكرسي بشكل يغطي وجهه، لتقوم هي باختبار الجهاز الصغير. وبينما الزبون جالس يقوم خمسة اشخاص بالانضمام إليها بوضع خمس نحلات على ظهره. وبعد برهة تعتذر منه وتخبره بأنها ستذهب لدقيقة ثم تعود، فيشعر الزبون بانه ومع غيابها لايزال يحس بالجهاز على ظهر؛ ليتفاجئ بأن هنالك خمسة اشخاص يقومون بتجربة الجهاز ع ظهره. وحين سؤاله قال أنه لم يشعر سوى بنحلة واحدة! وهذا يبين أن العقل له حدود يعجز عن تجاوزها ولهذا لم يدرك أو يشعر ببقية النحلات. فهل لا زلت مقتنعا بأنك تتحسس يدك؟

أحد أعراض الملاريا المتقدمة هي الملاريا الدماغية والتي تتسبب بتصرفات غريبة للمريض، ومنها رؤية أشياء لا كيان لها وتصور أشكال لا وجود لها. الرحالة في البادية ومن شدة العطش يتراءى لهم وجود واحة بها نبع مياه وظلال وافرة وأشجار مثمرة. المسير في ظلام دامس لمسافة طويلة يجعل الإنسان يرسم أشكالًا وصورًا أمامه تشعره بالطمأنينة والراحة أحيانًا، أو تشعره بالخوف والرهبة أحيانًا أخرى، يمكن لمجموعة من الأشخاص إقناع صديق لهم برؤية شيء قد مر بهم وكيف له أن يفوته، فيبدأ عقله فيما بعد بمحاولة حشو الذاكرة بالشكل الذي وصفوه ويبدأ العقل في تقبل تلك الفكرة بما يسمى بمبدأ الإيهام.

هذه مجموعة من المواقف المشهورة لتعاطي العقل مع ما يمر به الإنسان من ظروف صحية، جسدية أو بصرية أو وهمية تجعله يرى أشياء لا وجود لها، فهل لا زلت مقتنعًا أن ما تراه وتلمسه هو حقيقة مطلقة مجردة من أي تضخيم أو تفخيم أو تصغير حتى، وكمثال تجيب عنه بنفسك، انظر لحجم أسنانك، ثم مرر لسانك على أحدها، وستجد أن لسانك يشعرك بأن سنك أكبر مما يبدو عليه في الحقيقة!

يتساءل البعض، هل نحن نعيش داخل المصفوفة – الماتريكس – مثلا؟ أم داخل حلم كفلم البداية –انسبشن-، ام أن عقلنا متصل بجهاز متقدم جدا كفلم الشفرة – سورس كود-. أغلب هذه الأفلام تتكئ على فكرة أننا محبوسون داخل عقولنا وحدودها، وأن كل ما حولنا أو ما مررنا به قد لا يتجاوز كونه اشارات عصبية بين شبكات العقل مرتبطة ببعضها البعض بما يسمى الذاكرة أو الذكريات. لذا نعيد السؤال، هل كل ما حولنا حقيقي؟
حتى الأمور التي نظنها بديهية لن تعدو كونها خليقة الذاكرة وليس بالضرورة خليقة الواقع.

لا يمكن معرفة ذلك أبدا –أننا نعيش في عالم كالماتريكس وانسبشن وسورس كود- ولا يمكن اثبات ذلك فكلمة اثبات لا ترادف الحقيقة دائما، فقد أثبت القدماء أن الشمس تدور حول الأرض وكان ذلك مناسبا فهو يفسر الشروق والغروب، وأن الشمس مركز الكون وكان ذلك يفسر كل الأمور التي كان البشر في حاجتها آنذاك، لذا فإن مبدأ الإثبات ليس بالضرورة متصلا بالحقيقة.

الطريقة السليمة في تعاطي العقل مع المحيط الذي بتنا نألفه بشكله الحالي تسمى العقلانية، والطريقة الأخرى تسمى الجنون. فعلى سبيل المثال، كثير من المجرمين تم اخلاء سبيلهم بحجة الجنون وذلك لأنهم ظنوا أن أبنائهم كانوا شيطانا أو وحشا أو على أقل تقدير هكذا صور لهم عقلهم ما هو أو من هو ماكث أمامهم. يمكنك قراءة الكثير من هذه القصص المطوية في سجلات المحاكم. الجنون دليل براءة لا يمكن رفضه إن ثبت على المتهم ذلك، تقول أحد الفتيات أن أختها عندما تدخل في نوبة جنون، فإنها تظنها شخصًا آخر، وتظن أن لديها قوى خارقة، وتسرق عجلات من الطريق لأنه يخيل لها أنها في أحد الأفلام السينمائية وأن عليها الوصول لتمثال الحرية قبل الوقت المحدد.

يقول علي الوردي في كتابه مهزلة العقل البشري، العقل البشري صنيعة من صنائع المجتمع. ومن مزايا هذا العصر أن الحقيقة المطلقة فقدت قيمتها وأخذ يحل محلها سلطان النسبية. صدق فيما قال: فكل ما يحيط بنا ما هو إلا جزء من الحقيقة، والواقع ما هو إلا تصور وضعه العقل، وما نحن إلا مخلوقات تؤمن بأن هذا هو الواقع ولا شيء سواه حقيقة، كذلك نؤمن أن لا شيء يستطيع العلم أو التجارب فعله حتى يحولوا الإيمان إلى شيء حقيقي يقيني مطلق، ومهما خرق الإنسان في الأرض، واخترق في الفضاء، فلن يجد الحقيقة المطلقة، المعادلة التي تحول إيمانياته إلى يقينيات، وعوالم الكون الخفي إلى ظاهريات. وبسبب اهتمام تشارلز ساندرس بمصطلح المأزق الأناني (وهو مشكلة عدم القدرة على عرض الواقع خارج تصوراتنا الخاصة بنا) فقد رسم خطا يفصل بين العالم الحقيقي كما هو عليه والعالم كما يقوم عقل الإنسان بفلترته عبر حواسنا.

سؤال مشاغب، هل تستطيع أن تثبت أنت أن هذا النص موجود وليس مجرد خاطرة مرت بك بينما كنت تتصفح هذا الموقع؟