انتصار إلهي

747e0d8c42f02998c4b0da7cc1e8f8ec1ffac552_m

نظر إلى السماء وقال للملأ: يا لغبائكم وحماقتكم، لو أن ربكم حقيقي وموجود هناك. غابت يده داخل كيس بلاستيكي اخرج منه ما يبدوا كتابًا مقدسًا، انزل سحاب بنطاله وقضى حاجته على غلافه أمام ذهول الناس، الكل يعيش عجز الصدمة الذي يجعلك لا تستجيب لأي أمر سوى الوقوف، ليترك الدهشة تصنع بك ما تصنع. أكمل ما كان يصنع وبدأ البعض يتدافع ليصل إليه، وقبل أن يصلوا إليه رفع كفه يطلب منهم الانتظار والتريث، ابتسم وقد اصابته نشوة انتصار، وعلت ملامح وجهه مشاهد الغرور وإشاراته، ثم قال بصوت عالٍ: يا أيها الناس، يا من تسمعون وتعقلون، أخاطب العاقل منكم، أخاطب من يريد أن يسمع الحق ويتبعه، احاججكم بهذا – مشيرًا إلى رأسه التي غطاها شعر أسود تتخلله خيوط من الأبيض- من يغلب حجتي هذه فسأعترف بربكم وخالقكم وصانعكم وموجدكم، ومن لا يغلب حجتي، فليعترف بي وليعظمني وليشهد أنني على حق، كان المشهد بالأسفل مضطرب جدًا، البعض يهم بالحراك، والآخر لا يقوى عليه، وثلة عاقلة تدعو الجميع بأن يتريث وتعانق أذرعهم صدور المتهورين منهم، ومنهم من ينادي بقتله ونحره كالنعاج، ويطلب رجمه كالشياطين والجان. وبينما الأغلبية غلب عليه الوجوم والدهشة، الجميع يراقب ولكن كلٌ بطريقته وخلفيته ومفاهيمه. صمت للحظة: نظر نحو الكتاب الملقي بين ساقيه؛ فقال ولا تكاد ابتسامته تفارقه: انظروا ماذا فعلت بكتابكم، انظروا ماذا صنعت بكلمات الخالق، انظر كيف دنست قداسته، وكيف أفسدت نظافته وطهره، إن كان هنالك خالق كما تدعون، ويقبل منكم ما تفعلوا ويرفض ما أفعل، فليقتلني الآن هنا، الآن ع هذه العتبة. ثم أعاد بصره إلى السماء. كان مساءً ملبدًا بالغيوم، لكنها لم تمنح تلك البقعة أي قطرة ترتوي منها.

هدأ الضجيج، وخفتت الأصوات، وشخصت الأبصار، والكل في تلك اللحظة قلق محتار. تمتم القليل بأدعية خفية يسأل فيها الخالق أن يقبض روحه، وآخرين أغمضوا أعينهم في تضرع يتمنون أن تنزل صاعقة تقسم جسده كقطعة يقطين. لم يحتمل الجميع ذلك الصمت وتلك الأدعية الخفية، فبدأوا يصيحون بالويل والثبور، وأن الجحيم مقر كل مختال فخور، وصاح البعض بأن الرب فوق السماء موجود وسينتقم منه قبل أن يفارق عتبته، بينما كان البعض لا يدري إلى أي الفريقين ينتمي.

مرت الدقائق الأولى من الحجة والرهان كأنها دهر من الزمان، تلفت الجميع وأخذوا يحدقون ببعضهم البعض، بدأت الشتائم تتمازج والصراخ يتعالى، بينما كتب الصمت على وجوه ثلة منهم أسطر من قناعة كادت أن تتلبسهم لولا أن شق السماء برق أضاء المساء وكأنها الظهيرة، وتلته أصوات اهتز لها البشر والحجر، تهللت أسارير البعض وكأنهم ظفروا بعظيم، أو كأن الجنة فتحت أبوابها لهم، وظنوا أن الضوء القادم سيشق صدر هذا المجرم الفاسق، صاحب الخطيئة التي لا تغتفر، وأنه لن يجد له لا منجى ولا مفر؛ فبدأ الجميع ينظر إلى السماء في انتظار البرق التالي، البرق الذي سيصنع العذاب ويكون المعجزة الشاهدة على حقه.

طال الانتظار كثيرًا، شعر الكثيرين بخيبة أمل، شعروا بالكراهية، بالحقد، بالكثير من المشاعر السلبية، صاح من بينهم رجل كهل: الرب منتقم منتقم. الوجوه تتفرس بعضها، والأفكار تتلاطم في تلك الرؤوس كبحر استيقظ للتو. الكل يتمنى لو مات هذا الرجل مع غضب السماء الأول، والبعض ينتظر المعجزة، ولكن لا شيء من هذا حدث. تحول الشعور من إثبات وجود، إلى خوف من أن يحمل المجتمعين خفي حنين، خوف من أن يهتز يقينهم، أن يتلاشى إيمانهم، أن تذوب قطعة الثلج التي تمسك بمياه قناعاتهم في قالبها الذي ظنوه أزليًا لا يتلاشى ولا يجف، حتى أن البعض بكى، وجع الهزيمة وقع على صدر البعض وكأنه فقد من يحب، وبينما المشاعر تتعاظم كموجة شتوية، رفع الرجل سحابه مزهوًا بنشوة انتصاره على الجموع، على الإله، على القدسية التي يرى أنها مزيفة ولا حقيقة لها ولا فيها، على المعجزات الخارقة، على الغيبيات غير المدركة، على الجان والملائكة والعقاب الرباني. وبينما كان يرتدي تلك المشاعر معطفًا يقيه مطر السباب والشتائم والكراهية، وبينما يقلب تلك الأمور في رأسه، أدركه شعور فضيع بالألم، إدراك متنصل من الحياة، إحساس بارد جدًا وكأن الهواء اخترق جسده كجدار من قماش، أدركه ذلك الشعور من التلاشى من الذهول والذبول والأفول فور سماع الناس لصوت عالٍ جدًا من خلفه لحقتها معجزة مضيئة ضربت عمودًا بقربه، بقعة حمراء أخذت تتسع رقعتها في ثيابه، مطر غزير أخذ يهطل على المكان ليبلل جسده الممرغ بلون الجوري الفاقع سقط على ركبتيه، ثم هوى نحو الأرض التي ارتطم جسده المحتضر بها. وبينما الجموع تراقب المشهد انسل من خلفه رجل يضع يده داخل معطفه واندمج بين الجموع التي تعالت صيحات النصر والفرح فيها.

علم الغد

377042754012

وقف عند بيت قديم جدًا يبدو كجلباب شحاذ، وصغير وكأنه خزانة ملابس. سمع صوت صديقه وهو يقول له: هذا الرجل لا يرد الله دعوته أبدًا، كل أهالي القرية يعرجون عليه ليقضي لهم حوائجهم، فتلك جارتنا خديجة انجبت؛ فقد قصدته بعد أن صبرت عشرين عامًا دون طفلٍ تهبه حنانها ويهبها شيئا يستحق الحياة، وذاك ابا سفيان كان سقيما وسأله الدعاء، فرفع الله عنه المرض وأصبح كالخيل لا يرى إلا مهرولًا في الأسواق. وبدأت الأسماء تتداخل في رأسه، بينما توسوس له نفسه بأن هذه فرصتك الذهبية التي قد تفتح أبواب الخير. طرق الباب وانتظر، مضى الوقت ببضع خطوات من الزمان ولم يفتح الباب، أطلق يده لتواقع الباب مرة أخرى وثالثة، دون أن يسمع أي استجابة من وراء ذلك الباب الخشبي الباهت.

وعندما هم بالانصراف وأدار وجهه قاصدًا ترك المكان في أثره، أخذ صرير الباب يتهادى إلى سمعه على مهل، لم يظهر له من قام بفتح الباب، وبقي واقفًا ينتظر أن يظهر له ولو ظل صاحب الدار، وبعد تردد طويل، عاد الباب ليغلق مرة أخرى على نفس الوتيرة البطيئة، حينها هرع مسرعًا وقال: يا شيخ يس، لحظة وأمسك الباب، ثم دخل بعد أن عقل مقصد الرجل. دخل فوجد رجلًا قصير القامة، يرتدي ثيابًا بالية، مغمض العينين، يدنو من عينيه المغمضتين أنفض مدبب، وتحته شفاه جافة يعلوها شارب أبيضٌ كثيف، ويلامس أسفله لحية كثيفة ممتدة كرمح من الثلج، يمسك بيمينه عصا، ويساره تعانق مقبض الباب. دفع الشيخ الباب على مهل ليغلقه خلف ضيفه، ثم مضى يتلمس ذاكرة الطريق بعصاه، حتى وصل إلى عتبة مرتفعة يعلوها الحصير، وفيها مساند مهترئة جلس بعد أن قام بترتيبها، وضع يده وطرق العتبة ثلاث مرات. وصل المراد إلى زيد وذهب ليجلس بقربه. ساد المكان صمت قصير قطعه الشيخ وقال: يبدو من صوتك أنك شاب في عقدك الثالث، ومن تصرفك تبدو طائشًا بعض الشيء، ما أسمك؟ كيف عرفت كل هذا! لم يتلق زيد أي إجابة فأخبر الشيخ باسمه.

نهض الشيخ من مكانه بينما أخذ زيد يحدق به، امسك بيده كوبًا يعلو زير الماء، فتح الغطاء، ادخل الكوب بداخله، ثم أخرجه. عاد مستدلًا بعصاه ع المكان، ناول الشيخ كوب الماء إلى زيد وقال له: ما خطبك يا بني؟ في الحقيقة يا شيخ يس…لأنك لم تشرب الماء رغم أنك عطش يبدو لي أن ما ستسأل عنه سيكون شيئًا أهم من الماء بالنسبة لك. تناول الماء ثم أكمل هكذا قطع الشيخ حبل السرد. خجل زيد وقضى من الكوب مراده ثم قال: يا شيخ، أتيتك لتدعو لي الله أن يرزقني شيئًا. ولكن لا أعلم إن كنت ستقبل هذا الأمر أم لا. هات ما عندك، رد بابتسامة وقبلة وجهه باتجاه صوت يزيد. أريد أن يرزقني الله القدرة على معرفة ما سيحدث لي قبل أن يحدث، أي قليل من علم الغد. صمت الشيخ بعد أن تجهم وجهه وبدت عليه ملامح الاستياء، أبعد وجهه عنه ونظر باتجاه قبلة جسده ووضع كلتا يديه على رأس عصاه الدائرية، أطلق نفسًا طويلًا وقال: يا بني، رأيت في ابن آدم شيئا لا يراه هو في نفسه رغم أنني الأعمى وهو المبصر. رأيت في كل من جاءني، أن من جاءني كان يريد أن ينال دعاءً لحظ من حظوظ الدنيا، لا شيء كان يطلب مني ليعين الطالب على حظ ما بعد الممات. طلبك هذا صدقني لن تطيقه، ولن تحتمله، يظن الإنسان بضعف حيلته، وقصور نظرته أنه لو ملك علوم الدنيا ومفاتيحها فلن يقدر عليه أحد، ولو علم الخالق أنه لو جعل للإنسان علم الغيب سيكون لمصلحته، لوهبه إياه. هل من طلب سواه؟ أجابه بشيء من الترجي: يا شيخ يس كلا أرجوك لا تردني خائبًا، فقط هذه، فكر في الأمر أرجوك. نهض الشيخ من مكانه واتجه في ممر مظلم قصير يقوده مصباح لا يخطئ ضوؤه، فتح الباب، وظل واقفًا عنده دون أن ينبس ببنت شفه. فهم زيد المراد وهم بالانصراف، وعندما وصل إلى الباب، امسك الشيخ كتفه وقال: فكر جيدًا فيما تطلبه، بعض رغباتنا الدفينة تبدو جنة في أذهاننا، جحيمٌ في واقعنا، فلا تختر أو تطلب ما قد تندم على امتلاكه. ابتسم زيد وقال: حسنًا سأفكر.

جلس زيد عند عتبة بيته محدقًا في نجوم السماء، وكلام الشيخ عالقٌ بقمة رأسه الذي اثقلته المسألة، وأخذ التفكير منه مساحته. كل ما كان يتمناه أن يعرف ما إذا كان سيصبح ثريًا كتجار القرية الذين كانوا يتنعمون ويمتلكون الأبل والماشية والخيول الأصيلة، والجواري الحسناوات ذوات الخدود المستديرة، كان يؤمن أنه عندما يعلم غيبه قد يستطيع تغيير مستقبله للأفضل، عاد إلى فراشه وتلك الفكرة لا تغادر ذهنه. أيقظته النافذة التي أخذت توجه ضوء الشمس على ملامحه المرتخية، نهض بعد أن فشل في تجاهل ازدياد وتيرتها. وبعد أن تناول كسرة خبز مع الزيت والحليب، ذهب نحو الباب قاصدًا السوق، توقف عنده ومقبضه بيده، شعر بإحساس غريب ولكنه ظن أنه مفعول الزيت الذي دأب على تناوله طوال الأسبوع المنصرم، ذهب إلى السوق وابصر انه رأي في أحد الطرقات صرة نقود، اخذ ذلك الطريق وكان له ما بدى له في مخيلته، تناولها وأخفاها بسرعة، تحسسها وهي داخل جلبابه، كان بها الكثير من النقود، أكثر مما ملك طوال حياته، أخذ يتقافز فرحا وسرورًا، شعر بأن الدنيا تضحك له لأول مرة وكأنه مولودها الأول، قرر العودة إلى بيته ليحتفل بما وجده، وأثناء سيره شعر بأنه سيلتقي بحسناء إن اختار هذا الطريق، أو سيلتقي جاره إن ذهب في الطريق الآخر، ودون شعور ذهب ناحية الطريق الأولى، فوجد الحسناء الكحلاء التي تبصرها وخطفت قلبه مذ رأها، ابصر أنه لو حادثها قد تستجيب له وحقا حصل، حينها أحس بأنه بات يرى غيبه، ويعلم علمه، ويفهم ما عليه فعله، وهرع إلى بيت الشيخ يس، وأخذ يطرق الباب بقوة شيخ يس شيخ يس.

فتح الشيخ الباب، فولج زيد إلى الداخل وأمسك برأس الشيخ وقال له: شكرًا لك يا شيخ شكرًا لك، الآن أنا جدًا سعيد. حال الشيخ بين جسديهما بكفه ودفعه عنه، أراد أن يدفع الباب؛ فأمسكه زيد وأغلقه، ثم تناول بيد الشيخ ليأخذه لمجلسه. نفض الشيخ يده ورفع عصاه وضرب بها زيد ثم قال بنبرة مستاءة: من قال لك أنني عاجز وأحتاج أن يساعدني أحد، إنني لمبصر أكثر منك وغيرك ممن يظنونني أعمى، فالعمى الحقيقي هو غياب القلب لا غياب البصر. ضحك زيد وقال له: هل تعلم أنني رأيت كل هذا وأردت التأكد منه، حقًا بت أرى المستقبل كما ظننت، رأيتك تفتح الباب، وتدفعني عنك، وتضربني بعصاك، شكرًا لأنك دعوت لي. ضم الشيخ شفاهه وصمت، دار بجسده وسار ناحية العتبة، جلس عليها، ثم قال: ألست الفتى الذي يدعى زيد والذي زارني البارحة؟ بل أنا هو بصوت يملؤه الحماس بشحمه ولحمه. قال الشيخ: لكنني لم أدعو لك بشيء، طلبت منك أن تفكر بطلبك وحسب، يبدو أن الله استجاب لك، أتمنى أن تحسن بك هذه المعرفة ولا تكون وبالًا عليك. يا شيخ أنت لا تعلم شيئًا، لقد وجدت صرة نقود به ألف دينار ذهبي، ثم وجدت حسناء يبدو أنها جارية لسيد سأشتريها وأعتقها ومن ثم اتزوج بها. أظنني حصلت على مفتاح السعادة الأبدي. غابت يده في جلبابه وخرجت تحمل عشر دنانير ذهبية، مدها نحوه وقال: يا شيخ يس خذ هذه النقود. نهض الشيخ وقال: وهل تظنني شحاذًا، اخرج من هنا أيه الأحمق، تظن الدنيا مال وجمال، ونسيت ربهما، ولم تذكره إلا لما تريده منه لسعادتك المؤقتة، ولا تدري ما يخفي لك الغد، وصدقني، ما هي إلا أيام وستأتيني تدعوني بغير ما جاء بك. ضحك زيد وقال: يا شيخ لست أظنك شحاذًا، وكذلك علمت أنك ستقول هذا، ولكن من يحيا يا شيخ الحياة والمعاناة التي عشتها، والفقر الذي تمرغت فيه، سيبقى يتمنى من الدنيا نصيبًا وإن زهد فيها. نهض الشيخ من مكانه، وقبل أن يحرك ساكنه، وضع زيد يده على كتفه وقال له: أعلم ما ستصنع، ستقف عند الباب، وستقول لي: لا تظن أن الناس كلهم خلقوا من طينتك، فهنالك فقراء كثر، لم يزدهم فقرهم إلا رغبة طيبة مطمئنة بتعويض الله لهم على صبرهم ومصابهم جنات لا ينالها الملوك والطغاة والأمراء إلا من رغب عن الدنيا إلى الآخرة. شكرًا لك، سأغلق الباب خلفي. انصرف زيد وعاد الشيخ ليجلس في مكانه في صمته وعزلته.

بعد أسبوع نهض الشيخ من ذات البقعة على صوت طرقٍ عنيف للباب، فتح الباب على مهلٍ وقد وقف خلفه معلنًا إذن الدخول للطارق، وعلى صرير الباب هتف الضيف: يا شيخ يس أرجوك أتوسل إليك لا تردني خائبًا كأول مرة. امسك الباب وسبق الشيخ إلى عتبته، أعلم كل ما ستقوله لي، ولكن أتمنى أن أقول شيئًا يغير ردك. ابتسم الشيخ وهو يخطو نحو العتبة، جلس وقال: هاتِ ما عندك. يا شيخ يس منذ أن بت أبصر الأمور، أصبحت لا أستطيع النوم بسهولة، فأنا أرى من يخطو عند باب منزلي، ومن يهم بسرقتي، وأرى طارق الباب، وأميز الصادق والكاذب، وكل هذه الأشياء رغم كونها قد تجعلني أظفر بكل ما أريد وأتجنب كل ما أخشى وأحذر، إلا أنها تغض مضجعي وتشعرني أحيانًا بالضجر، أفقد عنصر المفاجأة، أعرف كل عين خائنة، وكل نفس دنيئة، بت أكره الناس فهم لا يكفون عن الكذب، حتى أكثرهم صدقًا قد يعمد للكذب لمرة وأكثر. ثم صمت وأطرق برأسه. فقطع الصمت الشيخ قائلًا: يبدو أنك لم تأتِ فقط لتشكو من هذا، أكمل. نعم يا شيخ يس، إن أكثر ما يجعلني لا أستطيع أن أمضي في حياتي أنني أرى كم مرة أقترب من الموت، إن اتخذت ذلك الطريق سيدهسني خيلٌ فارٌ من صاحبه، وإن صعدت الجبل ستلدغني حية، وإن نزلت الوادي سيأكلني السبع، هربت من حريق السوق، نجوت من سهم فر من نبلة صياد، وجدت الموت يترصدني في كل خطوة، بت عوضًا عن الظفر بمتاع الدنيا وجمال الحياة، أهرب من الموت في كل يوم. لم أعد احتمل، بت أدعو الله أن يأخذ مني ما وهبني إياه، لا أريد معرفة الغد، فلم يعد يطيقها عقلي، ولم تعد تتوق إليها نفسي. أرجوك ارجوك ادعو الله فأنت رجل صالح قد يقبل الله دعاءك، وأنا رجل آثمُ لا أظن أن الله سيقبل دعائي. سحب الشيخ نفسًا عميقًا: أطرق إلى الأرض وقال: أظنك تعرف جيدًا ما أود أن أقول لك. بلى ستقول لي أنني أخبرتك بهذا، هل لك أن تقول لي شيئًا آخر أرجوك، لست أتلذذ معرفة ما يفترض بي أن اسمعه، أتمنى لو يفاجئني خبر أو قول أو فعل. ابتسم الشيخ وقال: لا أدري، كنت أنوي قبل أن تكمل أن ارفض لك طلبك، ولكنك الآن أشد صدقًا وأكثر يقينا بما تطلبه وتريده، سأدعو علّ الله يرفع عنك هذه المحنة. قاطعه بصوت يكاد يخالطه البكاء: والله إنها لمحنة ووالله إنها ليست بنعمة بل هي علي نقمة. قبل رأس الشيخ وشكره وانصرف يجر خلفه جسد الباب، وجسده الذي انهكته هذه المعرفة.

في اليوم التالي، استيقظ على عادته، تناول بعض الحليب والعسل والرغيف، ونهض واتجه نحو الباب، وقف بعد أن أمسك مقبضه وفك قفله. لم يرى شيئًا مما كان يراه قبل خروجه، فتح الباب وخرج وسار في الطرقات، فلم يسمع شيئًا في رأسه، قصد الجبل، ونزل الوادي ولا شيء يراه مما كان يراه فيما مضى من صباحاته، حينها تهللت أساريره، وفكت أغلال الفرح وقيوده، وأخذ يصرخ، شكرًا يا رب، شكرًا يا رب، والله لن أسألك علمًا لم يكن لينفعنا، علمًا يغض مضاجعنا، ويهلك تفكيرنا، ويجعلنا نرى كم مرة من الممكن أن يكون الموت قريبًا ولكن رحمتك ولطفك بنا يصرفه عنا، إما بتأخيرٍ هنا، أو قاطعٍ يقطع علينا طريقنا من هناك، أو مرضٍ يقعدنا عن الخروج قاصدين الموت، وهو يعرض عنا بإرادتك. ثم أخذ يجري من مكانه إلى بيت الشيخ يس، وأخذ الباب نصيبه من الطرق، لكن الباب لم يفتح، وبعد أن تعبت يده، وركن حماسه، سأل أحد المارة عن صاحب الدار الشيخ يس إن كان موجودًا، نظر الرجل إليه: عمّن تتحدث يا فتى، هذا البيت لم يقطنه أحد، كان لعجوز القرية أم سلمة وتوفيت منذ أكثر من ثلاثة أشهر. تسمر زيد كساق نخلة، وهو يسأل بإلحاح، لا تمزح معي يا رجل ما بك. دفعه الرجل وقال: وهل تظنني أكذب، اغرب عن وجهي. أوقف رجلًا ثانيًا وثالثًا، ولم يسمع سوى نفس الا جابة، حينها تمنى لو انه يرى ما كان يراه ويصغي لما كان يسمعه، وبينما كان ينازع حيرته تذكر أمرًا، وذهب مهرولًا باتجاه الشرق، وصل عند بيت يكاد يشبه إلى حد ما بيت الشيخ يس ولكنه أفضل حالًا منه، طرق الباب بقوة يا أبا مصعب، يا أبا مصعب. أخذ ينادي. وحين ترائي له ظل من شرخ صغير في الباب، قال: يا أبا مصعب، افتح بسرعة أريد فقط أن اسألك سؤالًا واحدًا، فتح الباب وخرج أبو مصعب فسأله بتعجب: ما بك طارقًا بابي على غير عادتك صباحا وبهذا الشكل المزعج. يا أبا مصعب، أما والله إنني سأجن، أخبرني بالله عليك، أليس منزل الشيخ يس يقع في الضاحية الغربية من قريتنا بقرب منزل عائشة أم المغيرة. بماذا تهذي عن ماذا تتحدث، وأي شيخ تتحدث عنه. يا أبا مصعب الشيخ يس الذي اخبرتني بأن أهل القرية يقصدونه كي يدعو الله ليرفع عنهم أو ليهبهم شيئًا يتمنونه! يبدو أنك اليوم استقيت كادتك الكثير من الخمر، ويبدو أنه أفقدك عقلك، رد عليه أبو مصعب واخذ يهز رأسه بتذمر. أطرق زيد يفكر، وكمن تذكرت قدرًا على النار قد نسيته، هرول زيد باتجاه بيته، وعندما وصل، أخذ يبحث في كل مكان عن الشيء الوحيد الذي سيثبت له أنه ليس مخمورًا، وظن أنه بمجرد حصوله على هذا الشيء وذلك الدليل ستتوقف حيرته ويعرف يقينه، وحين وجد صرة النقود ووجد بداخلها الدنانير الذهبية، ما زاده ذلك إلا حيرة وضياعًا، وجلس يحدق في الصرة والنقود التي أخرجها منها دون أن يجد إجابات لم حدث له.

في اليوم التالي، قصد زيد الجبل صباحًا وأثناء صعوده إياه، لدغته أفعى سامة، تلوى من الألم إثرها، أخرج صرة النقود ينظرها، أخذ يضحك وهو يردد موت رحيم، من العزيز الرحيم، دون علمٍ منا وبتقدير العليم، لهو خير من حياة نهرب فيها من الموت، فنبدوا أكثر موتًا من الميتين، رددها أكثر من مرة حتى فارق الحياة

رحلة الموت

sailing-boat,-ship,-cliff,-dark-sunset-159689

أقسم لك يا سيدي أنني لا أملك إلا هذا المبلغ، أرجوك خذنا معك. هز رأسه وبغضب ألقى المال في وجهه: أغرب عن وجهي، سيأتي غيرك ألف شخص آخر يملك أكثر وقد يدفع لي أكثر. ولكن يا سيدي انظر لمن معي حالتنا يرثى لها، ولا نستطيع أن نعود، ولو عدنا فإن خفي حنين هو كل ما سنعود به وحفنة مما تعرفه أو تتخيله، فمصيرنا في هذا الاتجاه معلومٌ ومجهول هو الآخر يا سيدي، دعنا فقط نأتِ معكم، صدقني لسنا بدناء، انظر نحن ومن شدة الجوع كفرت أجسادنا بالثياب فلم نعد نتسع لها. دفعه رجلان آخران كانا يعدان المبالغ ويدونان الأسماء المستجدة، حتى سقط على الأرض هو والطفلة التي يحملها في يده، هرعت سيدة متقدمة في السن تدفع الرجلين بعيدًا عنه: وبصوت غاضب مشوب بحزن: ابتعد عنه، الله الغني ابتعد عنه يا حيوان. دفعها أحدهما دون أن يهمه كونها سيدة؛ فسقطت بالقرب من الرجل والطفلة التي ارتطم رأسها بحصى صغيرة تسببت له بخدوش وجروح سالت من بعضها الدماء.

أخذ حاتم يجري في أرجاء المكان ويصرخ: بسمة، تاليا، مصعب أين أنتم، بسمة! وحين نال مبلغه من اليأس، بدأ ينادي بصوت مختلط ببكاء، فسمع صوتا من خلف الركام، جرى هو ومجموعة من المحيطين به باتجاه الصوت، وقف الجميع يصرخون ويهللون: هنالك أحياء هنالك أحياء، الله أكبر. خرج صوت سيدة وصياح أطفال من خلف غرفة شبه منهارة بقت صامدة أمام براميل المتفجرات التي تهاوت فوق رؤوس العالمين، بدأ الناس يحومون حول الغرفة والركام المحيط، حتى وجدوا فتحة بالكاد تخرج قطة، وعملوا على توسيعها بكل ما توافر من أدوات حولهم، وبعد زهاء النصف ساعة انتهوا مما بدأوه، فدخل هو وخرج بعد قليل وهو يدفع طفلة لم تتجاوز الرابعة عبر تلك الفتحة ووجهها مليء بالتراب، ثم وبعد أن يلتقفها الناس منه، يخرج فتى لم يكمل التاسعة، وتبعته سيدة علق حجابها وهم يسحبونها، فأنكشف شعرها، فقالت متوسلة: هل لكم أن تغطوا شعري أرجوكم. وخرج خلقها حاتم، بعد أن أجلسها الناس وقدموا لها الماء. بدأ الناس يكبرون ويهللون وهم يهنئون حاتم بسلامة عائلته، ويخبرونه أنها لمعجزة أن ينجو من الموت كل أسرته، وبعد أن ارتاح، أخذ يبحث عن الأشياء المهمة بين الركام، وعاد إلى داخل الغرفة وجمع كل المقتنيات التي وجدها، ثم همس لزوجته، سنذهب إلى تركيا، نظرت إليه: لم نكمل عاما مذ رحلنا من حمص، وها نحن يطاردنا الموت أينما حللنا. ينظر إليها مبتسما: لا تقلقي، سمعت الكثير عن حال اللاجئين في تركيا، إنها نعيم مقارنة بهنا.

بصوت لاهث وجبين يتصبب عرقًا: من هذا الاتجاه يا بسمة. يا أبو مصعب لنا يومان نسير مذ انزلتنا السيارة التي اوصلتنا لم نطعم شيئًا، وكما ترى فابنك متعب، وأنت تقول أننا اقتربنا من الحدود التركية، قالت له زوجته بسمة وقد بلغ منها التعب مبلغه، وتلونت ثيابها بكل الألوان التي مروا بها في طريقهم من منزلهم الكائن في حمص التي غادروها منذ قرابة شهر ليستقروا بعدها في معرة النعمان، التي أمطرت سماؤها الكثير من البراميل، مما أجبرهم على أن يكملوا رحلة الشتاء والصيف التي بدأوها مذ أن بدأت السيوف البارودية تتقاطع بين المعارضة والجيش النظامي. توقفت قدماه المتورمتين عن الحراك، وكبحار وضع يده فوق جبينه ليحمي عينيه من الشمس محدقًا في الطريق التي لا يبدوا أن لها نهاية. أترين تلك الشجرة هناك؟ تجيبه عن أي أشجار والطريق مقفرة هنا تجيبه باستغراب. يبتسم ويقول: تلك تلك البعيدة، حين نصل إليه سنقف عند ظلها. تعلم جيدًا أن نظري ضعيف، أرجوك لا تستغفل حواسي، تسأل ابنها: هل هنالك شجرة حيث يشير والدك؟ هز رأسه مؤيدًا بعد أن أشار له والده خفية بأن يجيبها بنعم. رفعت رأسها نحوه: هلا كففت عن هذا. يا تاليا هل ترين شجرة هناك. فتهز بكل براءة رأسها وهي بين ذراعي أبيها بلا. فيعضها حاتم ويقول لها: تفضحينني في كل مرة. ثم يلتفت إلى زوجته: دعينا نكمل لم يبقى الكثير.

“Eğer sınır geçemezse” قالها شرطي الحدود للطوابير التي اصطفت على الشريط الحدودي التركي، كان الناس يتدافعون محاولين الدخول إلى تركيا، الأعداد مهولة، والمساحات كلها ممتلئة بالمخيمات، والصناديق الكارتونية التي صنع البعض منها سترًا وستارًا له ولأهله، كان الوضع مزريًا جدًا. جلست بسمة ونام في حجرها ملاكيها تاليا ومصعب، وكانت تنازع التعب، وتحارب جنود النوم خوفًا من أن يسقط أبنائها من حجرها فيستيقظوا، بينما يبحث حاتم عن لقمة عيش تسد جوعهم. وبعد أن غفت لثوانٍ معدودة أيقظتها رائحة افتقدتها لمدة طويلة، رائحة الخبز التي كان يمررها عبر شفاهها وهو يهمس لها، كل فأنتِ جائعة، وكعادة كل أم، لم تلمس حلمات لسانها أي شيء قبل أن تضعها في فم صغيريها. كلا جيدًا، ولا تستعجلا وامضغا الاكل جيدًا. كانت تدرك أن المضغ الجيد سيجعلهم يكتفون بالقليل. وبعد أن عادا إلى النوم، بدأت هي تتناول الطعام وتنظر إلى ثيابهم الرثة، وحالة زوجها البائس، والذي ألقى ببصره في اتجاه، وعقله في اتجاه لا يعلمه إلا هو. انسالت دموعها وهي تنظر لما وصلوا إليه، جوع وتشرد، بؤس وطوابير طويلة، خوف استمر لأسابيع، وقد يستمر لشهور عديدة. كانت هذه أول مرة تفقد الشعور بالأمان وهي معه وبقربه، ترى أن المسافة التي تفصلهما وكأنها المسافة بين المشرق والمغرب، كانت تبكي حتى تبلل الرغيف القابع بين أسنانها واصابعها المرتجفة بالوجع. أخرجت الرغيف من ثغرها، وقسمت منه جزء له.

وقبل أن يغفو الأمل على رصيف الحدود دون غطاء يقيه هذا التشرد، استيقظ بعد أن بدأت شرطة الحدود بإدخال الطوابير إلى داخل الأراضي التركية، حينها فقط استطاعت بسمة أن تستعيده بسمتها، وأن ينفض حاتم مشقة الطريق ومخاطر الموت التي مر بها في طريقه إلى الأراضي التركية، آن الأوان كي يخرج من بلد لفظ مواطنيه وساكنيه والعابرين به، وجدوا الطعام والخيام، واستطاع الجميع أن ينام بعيدًا عن ضجيج الصواريخ وصوت الرصاص يعبر بين جدارين.

إلى أين تذهب يا أبو مصعب؟ نحن هنا منذ أسبوع يا بسمة، والحال صعبة، والوضع يتردى يومًا بعد يوم، بعد أن فررنا من الموت، جئنا إلى هم أكبر منه. ثم عاد إليها مسرعا وأقترب وجلس عند قدميها وأخذ يهمس لها: سمعت بعض الأشخاص يتحدثون عن أحد المهربين الذي سيأخذنا إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط وننتقل منه إلى اليونان، الكل ذهب إلى هناك. تقاطعه وقد ألم بها غضب لم يعهده منها: كفانا الله شر الترحال، لن أبارح مكاني، في كل مرة تقول أن الشجرة هناك الشجرة هناك، لم أرى تلك الشجرة بعد، طريق طويل قطعناه، كدنا نقع في قبضة القتلة عدة مرات، والله لم أعد أقوى يا أبا مصعب، ثم بدأت تبكي، ألا يكفي ما صنعته بنا الأيام لتطلب مني أن أمضي في رحلة إلى المجهول، لا أعرف ماذا يخبئ لنا اليونان. احتضنها حاتم بشدة وقال: أعدك أنها ستكون أخر رحلة، ولن نضطر بعدها للرحيل، لكن علينا أن نبيع بعض الذهب الذي معنا حتى نوفر المبلغ. قطع الذهب هذه آخر ما نملك يا حاتم، إن كنا سنبيعه، فأرجوك تأكد ألا ينصب علينا الرجل وأن يوصلنا إلى حيث يفترض بنا. وبعد بحث مضنٍ وصل حاتم إلى المهرب، واتفق معه على المبلغ، وبدأت رحلة أقل مشقة من ذي قبل مع عائلته إلى شواطئ تركيا المطلة على جزيرة كونر، أنزلهم الرجل من سيارته وأشار نحو تجمع على أحد الشواطئ وقال: اذهبوا إلى هناك وستجدون رجلًا يدعى أحمد الليبي أخبروه أنني من احضركم وسيقوم بالواجب.

خفت قدما حاتم وزوجته رغم التقرحات التي ألمت بها أثر المسير الطويل الذي رافق أحذيتهم البالية، وسارا حتى وصلا عند التجمع القريب من الشاطئ، وسألا عن أحمد الليبي، ولم يجدا شخصًا بهذا الاسم، شعر حاتم حينها ببعض القلق، وظل يضع كل الاحتمالات تحت الحسبان، ربما نصب عليهما المهرب، ربما أخذ أكثر مما يجب، ولكنه ينفض هذه الأفكار لأن الجميع أخبره أن هذا هو المبلغ الذي دفعه من سبقه للهرب إلى اليونان، لم يعد يتسع عقله لمزيد من التفكير، وكاد أن ينفجر غاضبا في وجه المهربين الموجودين، ولكنه خشي أن يفقد كل شيء. جاءت بسمة ووضعت يدها على كتفه وقالت: اهدأ، دعنا ننتظر ونبت هنا معهم ونرى ما سنفعله في المساء، قدم لهما بقية اللاجئين بعض الماء ووجبة خفيفة بالكاد تطرد الجوع عنهم، وأخذوا قسطا من الراحة حتى حل المساء.

بدأ الناس يتجهون نحو الشاطئ وقد اقتربت سفينة كبير انزلت منها قاربًا، انتصب بعض المهربين فوق الماء عند طرف الشاطئ بعد أن توقف القارب عندهم: على التالية أسمائهم الركوب إلى القارب الذي سيأخذهم لتلك السفينة قال أحد المهربين الذي يبدوا وكأنه المشرف على عملية التهريب. أخذ القارب يذهب ويجيء كالمراجيح، حتى تبقى فقط في الجزيرة مجموعة من الأشخاص لم تكن أسمائهم على القائمة، فقال لهم المشرف: أسمائكم ليست على القائمة، واكتمل النصاب، قد نأخذكم بشرط أن تدفعوا ألف يورو. تعالت أصوات متفرقة تقول جمل متشابهة، خلاصتها: أنهم جميعا دفعوا ما قدره ألفين يورو لرجل قال إنك سينقلنا إلى اليونان. هز رأسه: لا أعلم عن ماذا تتحدثون، ولكن لا شأن لي، من يدفع فليتقدم. أخذ الجميع يبحث في جيبه دون جدوى، امسكت بسمة بزوجها قبل أن يندفع وقالت له: اهدأ أعلم أنك غاضب جدًا، لكننا في مكان لا نعرفه، ورأيت خلف حزام هذا الرجل سلاح، انتبه لتصرفاتك. أخرج كل ما في جيبه من نقود وتوجه نحو الرجل.

نهض بعد أن دفعه الرجل وزوجته وذهب يتفقدهم وهو ينظر إلى المهرب ويتمنى لو أن به قوة أمام ذلك السلاح الذي يخفيه المهرب، استسلم للأمر الواقع، بينما كانت زوجته تحاول ان تخفي حزنها ومخاوفها وألمها كي لا تضغط عليه أكثر فيصنع ما لا يحمد عقباه. ابتعد المهربين في المركب حتى وصل بهم إلى السفينة التي اختفت خلف ستار الظلام المرصع بالنجوم.

وبينما هم جالسون عند الشاطئ، كانت بسمة تضمد جروح ابنتها بقطعة مزقتها من ثيابها، وزوجها لا زال يحدق في الأفق المظلم، في الأمل الكائن خلف هذا السواد الممتد، وبينما هو كذلك، أتت مجموعة من الرجال من بعيد يحملون قاربًا مطاطيًا برتقاليًا، وقال أحدهم بصوت مرتفع: أعتذر عن التأخير، لكن كنا نواجه مشكلة وقمنا بحلها. لم يفهم أي ممن بقى أي شيء مما يقولونه. وحين اقترب منهم قال: أعلم أنكم في حيرة، أنا أحمد الليبي. تغيرت ملامح الجميع، وكأن الروح نفخت في أجسادهم مرة أخرى، وعادت قلوبهم تنبض، والبعض منهم لشدة حماسته أخذ يكبر ويهلل. ابتسم أحمد وهو يوجه الرجال لإنزال القارب المطاطي في الماء، ثم بدأ يأخذ الأسماء ويتأكد من تطابقها، وحين فرغ من ذلك، أخذ يشير إلى الجميع أن يأخذوا مواقعهم في القارب بحسب التشكيلة التي يصفها لهم حتى لا يختل توازنهم فيه. كان حاتم حينها يشعر بفرح غامر وهو يصعد على القارب، وفي لحظة من البهجة والراحة وضع رأسه على رأس بسمة وأغمض عينه، وشعر أن الدنيا ورغم سوادها اليوم قد اشرقت في داخله، وأن كل الهموم التي مر بها للتو تبددت، وأن روحه ارتدت ثوب الزفاف اليوم لتزف كعروس جديدة لحياة جديدة.

سار القارب يشق ظلمات البحر، والأفكار الجميلة تراود كل فردٍ فيها، وبعد أن قطع القارب مسافة خمسة كيلومترات، ضحكت بسمة، فنظر إليها حاتم وسألها: ما بك تضحكين. ابتسمت وقالت: يبدو أن تاليا قد بللتني. فقالت بكل براءة: أمي لم أبلل ثيابي. ومع تلك الجملة، أدرك الجميع المشكلة وبدأوا يشعرون بأن الماء والهواء يتسربان، أحدهم من القارب والآخر إليه، أخذ الجميع يصرخ، فطلب أحمد من الجميع الهدوء حتى يبحث عن موقع الخلل، ولكن لم يستطع أن يمنع الجزع الذي أصابهم، فالجزع دائمًا ما يسبق التفكير، حينها بدى للجميع أن القارب لم يعد يستطيع حمل أحد، وأن الغلبة الآن لمن يجيد السباحة، لم يكن أغلب من في القارب يجيد السباحة، لم يكن من في القارب يرتدي سترة نجاة، لم يكن أحد يعرف ماذا عليه أن يصنع.

في الصباح الباكر، كانت بسمة ممددة على الشاطئ وعلى مقربة منها كان زوجها وابنها مصعب وابنتها تاليا ومجموعة أخرى من اللاجئين، اللاجئين الذين هربوا من بحر الدماء القاتل، إلى بحر قاتل لا دماء فيه، هربوا من أصوات الرصاص، ومن براميل الموت، هربوا من ضمائر لا ترحم، إلى ضمائر ظنوها ارحم، وهربوا في رحلة طويلة شاقة من الموت، إلى موت جاءهم يزف أرواحهم التي لم تعش الفرح إلا للحظات غرقت مع آخر نفس لفظوه وهم يتشبثون بهذه الحياة التي لا ترحم.

.

قهوة باردة

index

فتحت عيناها وأخذت تحدق بالسقف بعد أن طردها النوم من قاعة الحلم، كان عقلها يقلب الكثير الأوراق، وشريط الذكريات أخذ يعبر الخدوش التي أحدثها الزمن في جدار الغرفة وهي تحوم حول أرجائها شبه المعتمة. مدت يدها نحو الطاولة الملتصقة بسريرها وسحبت هاتفها منه، نظرت إلى الساعة، كانت تشير إلى الساعة الثامنة مساءً، بحثت بين الرسائل سريعًا عن شيء عدى الأخبار والإشاعات والتهنئة الفارغة، وحين فقدت الأمل بحمامها الزاجل، أعادت الهاتف لمكانه وقامت بالضغط على زر تشغيل الثريا المعلق على الحائط فوق ملاذها الوحيد، لتساند المصباح الأصفر الصغير الذي لا تحب أن تتركه دون روح تطرد الظلام الذي تخاف معانيه. نهضت وقد اتجهت نحو المرآة وأخذت تمشط شعرها، وبينما هي على ذلك، سحبت نفسًا عميقًا ثم عاد المشط لينزلق بين خصلات شعرها الأسود، أخذت تحدق في ملامحها التي سخرت منها السنوات بعد أن تركت آثارها عليها، أخذت تتلمس تجاعيده وتعبر تجاويفه، وأخرجت علبة مساحيق التجميل، ووضعتها أمامها.

مررت كفاها على ساقيها اللتين أخفتهما بإتقان عن الزمن كي لا يصنع بهما ما يصنع بالإنسان عند مروره بجسده، أو ما صنع بوجهها، نظرت لجسدها الذي أخفت أجزاءً منه بملابسها الداخلية، تحسست بطنها المشدود، ثم بدأت تنظر للطائر المحلق المرسوم بين صدرها وعنقها، لا شيء يعيبها وكل هذا تملكه، كانت تملك جسدًا مشدودًا، وقوامًا ممشوقًا، ولونًا أبيض ساحر خلاب يجتاح كما الربيع كل سهولها وأراضيها. خرجت من الغرفة وعادت وقد طوقت نفسها بمنشفة كبيرة، ومنشفة أخرى صغيرة كومتها فوق رأسها كالملوك القدامى.

عادت لتجلس أمام انعكاسها، بذات الصمت ونفس الهدوء، وأخذت تحرك الفرشاة تارة، وتارة قطعة من القطن، ثم أصبعًا دبقًا باللون الأحمر، وآخر يميل إلى الجفاف أسودٌ مررته بجفنيها بخفة كما يفعل النّحات مع قطعة خشب باهضه الثمن، وحين انتهت، سرحت طويلًا في تلك التي صنعتها بيديها، فكرت طويلًا، هي ستصلح هذه المرة، أم ستخيب في أن تصل بها لما تريد. وبعد الكثير من التحديق والتحسين، فكت وثاق شعرها، وعادت لتمشطه من جديد، على صوت جهاز التجفيف الذي صنع ضجيجًا كانت تفتقده في غرفتها الساكنة.

وبعد أن انهت تمشيط شعرها وتجفيفه، اعتدلت لتخرج من شرنقتها وعكفت تحدق في جسدها العاري، وبعد تأمل طويل رسمت ابتسامة واسعة بعد أن شعرت بثقة كبيرة، سحبت نفسًا عميقا مبتهجًا ورفعت حاجبها بغرور وأخذت تحدث انعكاسها: اليوم سيكون مختلفًا، اليوم سأحظى بما أريد، فلا أحد سيرفض كل هذا، ومن يستطيع أصلًا، فقط أريد منه أن يصل لهذه المرحلة، ولن أجعله يندم، سأجعله يحلق ويزحف ويسبح كيفما شاء. تناولت مرطب الجسم برائحة الفراولة الذي تحبه، وأغرقت يدها به، ثم تركت يداها تنزلقان في كل الاتجاهات، ولم تترك بقعة من جسدها لم تمر بها. تناولت من خزانة ملابسها قميصا بكم طويل يستر ذراعيها وصدرها، ارتدته على مهل، وبنطالٌ قصيرٌ لا يستر إلا شبرين من أعلى فخذيها، بحذاء أحمر وحناء أظافر تتستر بذات اللون. أما اناملها فقد سحبت من الدرج الكثير من الخواتم والاساور وقطع الإكسسوار المبالغ فيها، وبعد أن شعرت أن كل شيء في مكانه أو كما يجب، أغلقت باب شقتها الصغيرة وتركت بعض المصابيح الخافتة فيه مضاءة.

سارت على أربع قوائم مطاطية حتى وصلت إلى شارع المطاعم الكبير، كانت ترمي ببصرها بحثًا عن موقفين، واحد لسيارتها، والآخر لقلبها، وبعد بحث طويل في هذا الشارع النابض بالحياة، ترجلت من سيارتها، وبهدوء أغلقت الباب خلفها، سارت وبدأ حذائها يعزف لحنه الملفت. وع ذلك الوقع كانت تنظر إلى الأرض تارة كي تظهر لمن يحدق بها أنها لا تبالي بأحد وأنها تملك بين قمة رأسها وأخمص قدميها ما يستحق أن يُلتَفَتُ إليه، وتارة ترفع بصرها تتفرس الوجوه علّها تجد عينًا تحدق باهتمام، وما بين النظرتين محاولات خفية للفت الانتباه.

كل عين نظرت إليها من الخلف سحرها اللون الأبيض الصارخ والنافذ من ساقيها، وكل من كان ينظر من الأمام لا يرتد بصره لأعلى من ساقيها. كانت تنتشي وكأن كل نظرة ما هي إلا قطرة في كأس نبيذ فاخر تصب لها. بعد الكثير من المسير والتحديق، وبعد أن امتلئ كأسها، دخلت أحد المقاهي التي تتردد دائمًا عليها. وضعت أمامها كوب قهوتها الذي سيبقيها يقظة لأي التفاتة، اتخذت طاولتها المعتادة مكانا لجلوسها، اعتدلت في جلستها ووضعت ساقًا فوق الأخرى.

عن يمينها جلست مجموعة من الشبان تتراوح أعمارهم بين العشرين والرابعة والعشرون ربيعًا، وعن شمالها يجلس شاب وزوجته، في بوتقة تقول بشكل واضح “لم نكمل عامنا الأول من الزواج”، كانا متلاصقين جسدًا، متنافرين انتباهًا واهتمامًا، في يد كل منهما هاتفه يقلبه كيف يشاء، ومجموعة أخرى انشغلوا بأحاديثهم الخاصة وضحكاتهم العالية.

أخرجت هاتفها وبدأت تقلب الرسائل طويلًا، ثم أغلقته، ثم بدأت مسرحية التحديق في كل اتجاه بهدوء تارة وبيأس تارة أخرى. أخذت تبحث عن حظها في عيون الشباب وعن ملجأ لها في أجسادهم، كانت تبحث عن أي التفاتة تقول لها “أنت جميلة” التفاتة تقول لها “هل يمكنني الجلوس في هذا الكرسي برفقتك” أو حتى ابتسامة يلقيها عابر سبيل يعيد لها الشعور بأنها جميلة أو يزرع فيها اليقين بأنها لا زالت فاتنة تستطيع أن تجر خلفها كل من تشتهي وتريد كما كانت تفعل.

انقضي المساء، وانتصف الليل، وبدأ الظلام يحزم أمتعته فرحلته لم يبقى لها الكثير من الوقت، تركت هي خلفها كوب قهوتها الباردة، وطاولة فشلت في جمع شتاتين، وعادت إلى شقتها. وصلت إلى غرفتها، وقفت أمام المرآة، تناولت منديلًا مسحت به مساحيق التجميل من على وجهها، ومسحت دموعًا انسابت دون أن تشعر بها، ألقت بثيابها في المكان الذي كانت تقف فيه حين خلعتها. اقتربت من ملاذها الآمن مررت يدها على طوله تمسحه وكأنها تتحسس الأطياف التي مرت من هنا وهي جالسة على طرفه، هذا هو المكان الذي اعتاد أن يحمل جسدها وأجساد غرباء آخرين كانوا يبددون وحدتها، أجسادًا لم تعرف عناوينها ولا أعمارها ولا حتى موطنها، أجسادا مارس أصحابها الكذب، وهبوها أسماء مستعارة، وأعمارا مستعارة، وحتى مشاعر مستعارة، الصدق الوحيد الذي مارسته تلك الأجساد هو الرحيل دون عودة، تاركين خلفهم جسد أنثى يبحث عن موطن، يبحث عن ملجأ، يبحث عن ذاكرة لشيء حقيقي سوى هذا العالم المظلم الذي تحاول أن تهرب منه.

سحبت غطائها وكممت حزنها وتركت دموعها تبلل وسادتها، ومصباحها الأصفر يحاول بصعوبة أن يبدد تلك الوحدة التي تحيط بالمكان.

ذكرى زواج – قصة قصيرة

art-beautiful-chalk-charcoal-couple-Favim.com-451205

أخذ يتقلب في فراشه دون أن يراوحه الأرق وهو يفكر ويخطط كيف سيكون الغد، كيف يبدأه وكيف ينتهيه. وحين أقترب الخصيمان عند الأفق؛ غفى دون أن يشعر بذلك. رن جرس المنبه طويلًا، بدأ جسده يتحرك بهدوء وهو يحاول فك العناق الجماعي لرموشه التي لا تلتقي طويلا إلا حين ينام، ولكنه وجد صعوبة بالغة في ذلك بعد ما نال نصيبه من السهر ونال التفكير نصيبه منه. فتح عيناه وأخذ يحدق بالثريا المعلقة في غرفة نومه، وحين عاد له السمع من دار المنام ادرك أن المنبه يرن، فمد يده بسرعة ليسكته، نظر نحوها بقلق ما لبث أن زال حين رآها في سكون. همس في سره “حمد لله لم أوقظها” . أخذ يحدق فيها وهي مغمضة العينين، مستلقية على ظهرها بقربه، اقترب منها، شم عطرها الذي يعشقه، ثم قبلها على جبينها.تغزلت بعينه قطرة وبثغره ابتسامة، راوده خليط من سرور وشيء يحاول تجاهله أو تناسيه.

أبعد الغطاء عن جسده الهزيل نصف العاري بهدوء تام، نهض بخفة ريشة، وسار على أطراف أصابعه كلص حتى وصل إلى الحمام، وقف أمام المرآة وأخذ يحدق بوجهه الذي امتلئ شعرًا، أخذ يتحسسه بيديه ويرفعه بهما بقوة إلى الأعلى. فتح صندوقًا معلقًا على الحائط وأخرج منه موس حلاقة وتناول معجون الحلاقة القابع فوق المغسلة، وأخذ يملأ وجهه به، تناول الموس وبدأ يحلق ذقنه، فنالت منه شفرات الموس عدة مرات حتى بات ينزف كثيرًا. اختلط المعجون الأبيض بالدم، لم يبالي بذلك وأصر على أن ينتهي منه كي يظهر أمامها بشكل يليق بالمناسبة التي جمعتهما، اما الجروح الظاهرة فيسهل معالجتها، وليس كتلك الغائرة في الصدر لا تلبث أن تراوحنا حتى تعود.

وبعد ان أنهى الحلاقة وغسل وجهه، عاد إلى الغرفة وأخذ يبحث عن تلك البدلة التي تحبها وتشبه إلى حد ما تلك التي أرتداها في حفل زفافهما، تناولها وأخذ يرتديها بهدوء تام أمام المرآة، وحين أمسك بربطة العنق، أخذ يحدق بها وخواطر كثيرة تمر بعقله، رائحة النعناع الخارج من فمها، التنهيدة التي تطلقها كلما أخطأت لفها، نظرات عيونها التي تخطف عينيه، ابتسم وأخذ يربطها كما تشتهي هي، العقدة المزدوجة، كانت تقول له “هكذا تضمن أنهما لن يفترقا بسهولة كما نحن”، نظر في المرآة وابتسم وهو يقول “لا زالت نائمة كالأطفال”.

قبلها ومضى إلى مكتبه في شركة انتركول الكبرى للإتصالات حيث يعمل في قسم خدمات الزبائن، وضع حقيبته فضربه صديقه في كتفه قبل أن يجلس “كعادتك يا أنس تأتي متأخرًا للمرة السابعة، سمعتهم يقولون بأنهم سيخصمون من راتبك هذا الشهر”، جلس أنس ثم التفت إلى زميله وقال له: لم أتأخر كثيرًا وتعرف اليوم ذكرى زواجي وسهرت أخطط كيف سيكون. “أراك قد حلقت وجهك، الحمد لله فقد بدوت كالمساجين، ثم كيف حال زوجتك، هل جلسات العلاج تجدي نفعًا؟” آه تحسنت كثيرًا. دعنا من هذا سأخرج مبكرًا اليوم فغطي مكاني حتى يتسنى لي شراء شيء لزوجتي في طريق العودة دون ان تشعر بأنني اعد لشيء وقد كانت تلومني كل سنة أنني أنسى، لكن هذه المرة تفوقت على نفسي ولم انسى. “لا عليك قلعتك محمية يا سيدي.” لا أدري كيف اشكرك، لكن سافعل يومًا بشكل يليق.

خرج أنس من مكتبه باكرًا قاصدًا السوق، حيث اتجه مباشرة إلى أحد محلات الثياب التي كانت تتردد عليها زوجته. ذهب إلى قسم النساء، وما أن وقف عند مجموعة من الفساتين حتى جاءه أحد الموظفين وسأله ما إذا كان يحتاج لأية مساعدة. ابتسم وأخذ يصف له ما بباله. هز الموظف رأسه واعتذر قائلًا بأنهم لا يملكون هذا الفستان أو شيء يشبهه. كان يخرج من كل محل بعزيمة أقل من ذي قبل، حتى وصل لمحل صغير وهو يقول لنفسه “لم أجده في كل المحلات الكبيرة، فهل ساجده هنا”، دخل فرأى الفستان وقد ارتدته دمية العرض، هرع نحوه وقلبه بين يديه وقال في قلبه وكأنه هو! إن لم يكن هو نفسه، بقي فقط المقاس، نعم نعم هو ذا مقاسها أثنى عشر، أتمنى ألا تخونني ذاكرتي الآن. طلب من أحد العاملين أن يأتي له بهذا الفستان، كان آخر قطعة كما أخبره العامل، لذا عليه أن يجرد الدمية منه، وبعد أن ترك الدمية عارية دون تفاصيل أنثوية تذكر، دلف إلى أمين الصندوق، أخرج محفظته ثم أخذ يعد النقود التي سماها أمين الصندوق بعد التخفيض.

بعد خروجه من المحل وأثناء سيره أمام أحد محلات الذهب، عانق نظره عقد من الذهب، تتوسطه ألماسة صغيرة، التصق وجهه بزجاج واجهة المحل وهو يحاول أن يقرأ السعر، 400 دولار قالها بصوت عالٍ. أخرج محفظته وأخذ يعد النقود التي بحوزته، كان بحوزته 380 دولارًا. دخل إلى المحل وقال: هل تعطيني هذا العقد ب 380 دولارًا؟ سار صاحب المحل البدين ذو الشارب الكثيف نحو الواجهة، مد يده التي تكتظ بالخواتم أخرج العقد ونظر من فوق النظارة، أخرج آلة حاسبة قديمة بالكاد تظهر أرقامها، ووضع العقد في ميزان تحت زجاج العرض الداخلي، ثم أخذ يضغط على أزرار الآلة. السعر النهائي هو 390. ولكن يا سيدي هذا كل ما أملك. هز صاحب المحل رأسه مشيرًا إلى عدم قبوله خفيض السعر أكثر من ذلك. طأطأ رأسه من ثقل خيبة الأمل عليه، واتجه نحو الباب. ابتعد صاحب المحل وهمس في أذن أحد العاملين معه، ثم توارى خلف ممر في المحل. لحظة من فضلك: نادى العامل عليه، ثم تابع: تعال وخذ العقد بما معك من نقود. عاد أنس أدراجه بخطوات كبيرة مسرعة تكاد تعد قفزًا كما قلبه الذي كان يتقافز كطفل حظي بحلواه أو لعبة جديدة. وما أن وقف أمام العامل حتى قال له: هل حقًا تقول! ابتسم العامل ونظر نحو الممر: رغم أن شكله يوحي بأنه غليظ القلب، وأحيانًا يبدو كذلك، إلا أنه شخص طيب، وكلنا نحكم بالمظاهر وإن ادعينا غير ذلك للأسف، لا عليك، ما لون العلبة الذي تريده داخلها. قال بلهفة واضحة: أحمر أريده أحمر فهي تحب هذا اللون كثيرًا. ابتسم العامل وقال له: تفضل يا سيدي ونتمنى أن نخدمك دائمًا. ابتسم أنس وغادر حاملًا معه كيسان، أحدهما فيه القلادة، والآخر يحمل الكثير من السعادة.

ولج من باب منزله بهدوء متحاشيًا أن يدركه صريره، فكل همه ألا تفسد المفاجأة التي أعدها لها. أضاء المصابيح الخافتة في الصالة فقد دنا الليل وغفى النهار. سار على أطرافه مرة أخرى نحو غرفة نومهما، وأطل من باب الغرفة الموارب نحو زوجته فوجدها لا زالت مستلقية في السرير لم تحرك ساكنا كما يبدو، هادئة وادعة، ابتسم والبهجة تثمر دمعًا رقراقا في عينيه. دلف إلى المطبخ وبدأ يفرغ أكياس المشتريات، أخذ الفستان والقلادة وورقة مكتوب عليها “بمناسبة ذكرى زواجنا الخامسة أحبك يا زوجتي، لن أفارقك أبدًا ما حييت، زوجك المخلص أنس” ووضعهم على الكنبة. كان قد خطط أن يعد هو العشاء هذه المرة حتى تكون المفاجأة أكبر فتكون الذكرى أجمل.

أشعل الكثير من الشموع، ووضع الطعام الذي أعده، ووضع القلادة في جيبه وبعد أن جهز المكان، ابتسم ومسح يديه ببعضهما، هز رأسه وقال: الآن سأوقظها. جثا على ركبتيه عند طرف السرير وقبلها وقال لها: هيا بنا، فاليوم هو ذكرى زواجنا، أمسك يدها وقبلها ووضعها في كفه وأخذ يحدق بها، نعم هيا سأساعدك على النهوض، أعددت لك مفاجأة اليوم. كلي شغف بأن تعجبك، نهض وكأنه تذكر شيئًا، ركض ثم عاد، وأمسك بالفستان أمامها وقال: ما رأيك بهذا الفستان الأسود! هل تذكرته؟ نعم نعم هو ذات الفستان الذي ارتديته انتِ في يوم زواجنا الأول، هيا سأساعدك بارتدائه هذه المرة.

أجلسها على الكرسي المقابل له، وهي ترتدي الفستان الذي جلبه لها، أخذ يحدق بها وهو يبتسم، اعددت لك كل هذا يا حبيبتي، هذه الشموع وهذا اللحم المشوي، قد يبدو سيئًا قليلًا فلست أجيد صنعه مثلك. انتظري دقيقة قبل أن تأكلي، أحضرت لك شيئًا. أخرج من جيبه العلبة ومعها الورقة، وبعد أن قرأها على مسمعها، فتح العلبة وقال لها: انظري أعجبني جدًا ما رأيك. فاتن أليس كذلك؟ سحرني مذ رأيته وتخيلته حول عنقك. أتريدينني أن ألبسك إياه. اخرج العقد من العلبة ونهض ووقف خلفها، وأخذ يلبسها إياه، وحين فرغ دنى منها وقال: ستظلين دائمًا الأجمل. عاد وجلس أمامها وأخذ يحدق بها ثم قال: أتذكرين أنني في يوم لقائنا قلت لك لك ممازحًا “الأسود لا يليق بك”، طأطأ رأسه وأجهش بالبكاء، وهو يبعد وجهه عنها ثم يعيده، وحين استجمع بعض من قدرته على الكلام بين البكاء والشهيق قال: أتعلمين بمن يليق الأسود الآن، إنه يليق بي يا سيدتي” فوضع رأسه على الطاولة وأخذ يبكي بحرقة لم يخرجه منها إلا قرع في الباب. رفع رأسه وأخذ يتلفت وينظر إليه، وهو يشير إليها ألا تنبس ببنت شفة. وبصوت عالٍ وهو يتجه نحو الباب: من الطارق؟ افتح الباب معك الملازم عادل. بتوتر جم رد قائلًا: لحظة. أخذ يحك رأسه وينظر إلى زوجته ثم ينظر إلى الباب، يمسح جبينه ثم أنفه، أخذ يعض أظافره ويقلب عينيه يمنه ويسرة، وبعد ان هدأ قليلًا أرتدى ابتسامة مزيفة ثم تناول مقبض الباب وفتحه وبادر: مساء الخير، كيف أساعدك. لا شيء نحن نتفقد الجوار فالجيران قد تقدموا بشكوى عن رائحة نتنة صادرة من الجوار ونحاول فقط ان نعرف مصدرها. باهتمام مصطنع: آه ربما قطة نفقت هنا أو هناك. حدق الملازم في عيني أنس: هل تشم الرائحة يا سيدي؟ كلا لا شيء البتة. حاول الملازم أن يتجاوز نظره من بين يديه ولكن أنس شد الباب نحوه ويقول: هل من شيء آخر؟ اجاب الملازم وهو يحدق بحدّة نحو أنس: كلا لا شيء البتة، سنبحث في الجوار، شكرًا لتعاونك.

أغلق أنس الباب واستند عليه، ثم أطلق زفرة طويلة، افترقت شفتاه مرة أخرى وكشفت عن أسنانه وهو يخطو نحو زوجته، وقبل أن يصل سقطت هي أرضًا، هرع نحوها وقام برفعها وإعادتها لوضعيتها السابقة، وجلس أمامها وقال: لا شيء سيفرقنا يا عزيزتي، لن أسمح لشيء أن يفرقنا، نهض ليبعد عنها الذباب الذي تجمع عليها وحين سئم من ذلك عاد وجلس وقال: هيا سأطعمك بيدي، أخذ ينازع الشوكة والسكين ولكن دون جدوي، فالدمع نال من بصره فلم يعد يدرك ما ينظر إليه، يمسح دموعه فلا تقف ولا تجف، أمسك بالشوكة وأخذ يضرب بها وسط قطعة اللحم، وبينما هو كذلك بين بكاء واستياء، قرع الباب مرة أخرى مع أصوات دوريات شرطة وصوت الملازم ارتفع من خلف الباب وهو يطلب منه أن يفتح الباب، بينما بقي أنس ينازع قطعة اللحم عله يطعم زوجته قطعة منه قبل فوات الأوان.

الورقة الأخيرة

 

2dtuhec

كان آخر ما قاله لي هي أكبر صفعة تلقيتها في حياتي، ظننت دائمًا بأن الطريق معه مفروشةٌ بالسجاد الأحمر، مزينة نواصيه بالجوري والياسمين والقرنفل، بعد تلك الجملة شعرت بأن أحدهم جردني من ثيابي ثم قال لي: انظري أنتِ عارية. متجاهلًا أنه من تسبب في هذا العري، لا زلت احصد ومن حولي ثمار الشوك الذي زرعته بنفسي.

قبل عشر سنوات، كنت فتاة أخرى، فتاة رغم أنها ترى الدنيا إلا أنها لا زالت تراه من خلف كتف أمها التي تحملها في صدرها، كنت لا أزال حينها رغم كوني في مقتبل العمر جنينًا في رحم أمي لم تدنسه الدنيا بأي خطيئة، وكأن حجاب البراءة لا زال يغشي عيني، كن الفتيات يثرثرن بأحاديث لا أفهمها، ويضحكن حين أقف كالبلهاء أمامهن لا تعي ما يقلنه من كلام أو ما يلمّحن له عبر الإشارات، كان جل ما أعرفه من ألفاظ نابية هي كلمة عاهرة، فهكذا ينعت الفتيات بعضهن البعض وكان بعض الفتيات يضحكن حين تقال لهن وكأنها نكتة، وبعضهن يستاء ما جعلني في حيرة من أمري بادئ الأمر، أهيَّ لفظ ساخر أم شتيمة؛ حتى سألت عن معناها وحينها فضت بكارة عقلي البريء، وفي كل مرة أظن أنني احتويت العالم القبيح في عقلي وحصرته، وجدتني أقف في بدايته على امتداد البصر، جاهلة الكثير من حولي.

قبل عشر سنوات لم يكن الرجل يعنيني بشيء، كان مخلوقًا متعجرفًا في نظري، مقززًا في كثير من الأحيان، يعامل المرأة وكأنها أداة تفريغ للغضب، يضرب ويشتم ويهين متى شاء وكيفما أحب، ولا من حسيب يردعه ولا من رقيب يثنيه، كنتُ أظن أن الرجال لا يملكون قلوبًا، حتى أنني وفي أحد الأيام تلصصت على غرفة أخي وهو نائمٌ ووضعت يدي ع صدره اتحسسه أبحث فيه عن قلبه، اعترف أنني سرقت الدنانير التي كانت في جيبه من باب الانتقام على ضربه لي قبلها بأسبوع، وكم ضحكت على ذلك المخلوق وهو يثور ويهدد بأنه سيقطع يد سارق نقوده الذي لم يكتشفه بعد، بعد أن شككه والدي بأنه من الممكن أنه قد صرفه، وصدقه الأحمق. حينها أضفت إلى قائمة اكتشافاتي للرجال أنهم حمقى وأغبياء، ولكن شطبت من القائمة أن ليس ثمة قلوب في صدورهم، لكن الفرق أن قلوبهم تنبض لتبقيهم ع قيد الحياة، لا ليستخدموه في تعاملاتهم مع من حولهم.

تعلمت بحياء كبير أن ثم فرق بين جسد الرجل والمرأة، مذ حينها بدأت في وضع قائمتي الشخصية عن صفات الرجل، فيها بعض الكلمات المشفرة التي كتبتها كما جاءت في كتاب العلوم مع تغيير ترتيب الحروف أحيانًا أو بوضع كلمات من ذات اللفظ، كي لا يمسك أحدهم بتلك الورقة ثم أقع في مصيبة لا يحمد عقباها.

في بداية مرحلتي الثانوية بدأت أشعر بالكثير من المشاعر تتدفق عبر أوردتي إلى أطرافٍ بدأت تبرز. بدأت أنظر إلى نفسي في المرآة طويلًا واسألها هل كبر حجمهما، هل طال شعري، هل عيوني جميلة، هل بشرتي ناعمة، هل شفاهي جذابة؟ كانت تجيبني بقدر محاولتي الاعتناء بها.

أخي كان يضربني كلما وجد في شفاهي لون ما، لم أكن أجد مشكلة في أن امسحه، لكن ما المانع من وضعه! ولمَّ كل تلك القسوة من ناحيته. أحيانًا أعاند فيزيد غضبه، وأحيانًا أصل لمرحلة التبلد واللامبالاة تجاه ضربه المتكرر حينها يهددني بإخبار أبي. أبي ! لم يكن يبالي كثيرًا بي، فهو أغلب الوقت بالخارج، إما منهمك في عمله، أو مع أصدقاءه. والدي متقلب المزاج دائمًا، أحيانًا يعنفني، وأحيانًا لا يهتم بأي شيء، هو باختصار يحب نفسه فقط، لهذا لم أكن أعبأ بتهديداته، ولأتجنب الضرب المتكرر كنت أخبئ الأحمر في حقيبتي، وأضعه ما أن أخرج من البيت، ولم أكن أجد حرجًا في ذلك، وأحيانًا اخبئ بعض المساحيق التي أسرقها من والدتي.

لا زلت ألعن الصدفة التي جعلته يمر بقربي ثم يقول لي همسًا وهو يلقي بتلك اللفافة بقربي على الأرض “كم أنتِ جميلة”، تلك الجملة التي لم أسمعها من قبل، غردت لها كل أغصاني، وأزهرت بها كل بساتيني، وتراقص على أنغامها كل ما بداخلي وحولي. تجمد الدم بوجهي حتى توردت خدودي، تصببت عرقًا، شعرت بأنني أقف أمام فرن الخباز لشدة الحر الذي انتابني. لم يكثر من الكلام ومضى لوجهته، وأنا لم أعرف إلى أين أولي وجهي، إلى ما بقرب قدمي، أم نحوه اتمعنه أم ماذا. بدأت اتنازع نفسي من الداخل كل طرفٍ يشد باتجاه، فمرة أقول “هو مخلوق أحمق مقزز ومتعجرف وثور هائج” ثم أقول “لم هو مختلف إذًا” ويأتيني شيطاني ويقول “على أقل تقدير انظري لما ألقاه، لربما هي قصيدة كتبت فيك كتلك التي تسمعينها في الأمسيات الشعرية على التلفاز”. وبعد نزاع طويل كان المنتصر فيه شيطاني، انحنيت أدعي أنني اربط فردة حذائي اليسرى، ورفعت الورقة ودفنتها في كفي ثم مضيت.

مساء ذات اليوم دخلت الحمام، وفتحت الورقة، بحثت فيها عن الأبيات ولم أجد شيئًا، قلبتها فوجدت كلمة واحدة ورقم هاتف، كان أسمه مدونًا فيها، ناصر أو ما أدّعى أنه اسمه ثم اتضح أن أسمه سعود ولكنني ظللت أناديه ناصر. لم يكن حقًا ما حلمت به لذلك مزقت الورقة لنصفين، ثم وضعتها في جيبي لأتخلص منها لاحقًا وتوجهت إلى السرير كي أنام، خاصمني النوم فبقيت أفكر طوال الوقت، أخرجت الورقة الممزقة ودسستها تحت سريري وسهرت حتى الصباح.

مر أسبوع كامل وعقلي منصرف، يفكر في ناصر، تارة أرسم ملامح الشاعر في وجهه الذي لم أراه جيدًا، وتارة أضع وجه ثورٍ بشعر ناعم مما يجعلني أضحك في الحصص دون سبب، فأعاقب بحكم أن الضحك من غير سبب قلة أدب، كيف يكون بلا سبب، هل يدخل الناس في قلوب الآخرين ليحكموا أن لا سبب للضحك ! ثم من قال أن ما قد يضحكني قد يضحك آخر دوني، فجل أفكارنا المضحكة قد تعتبر ساذجة بحكم حجم عقولنا وعمر مشاعرنا.

في ذلك اليوم الذي عوقبت فيه في المدرسة بسببه قررت أن أكافئ نفسي بالاتصال به، كان قلبي ينتفض، ويدي ترتجف واصبعي وضعته عند زر الإغلاق، بينما أحبس الهواء في صدري، أجاب بلهجة هادئة جعلت كل شيء فيَّ يرتخي: ألو من معي؟ لم أقوى على الكلام، فهذه أول مرة أتحدث مع شخصٍ غريب، كان جسدي ينتح عرقًا من كل مساماتي، بقيت صامتة بضع ثوانٍ، ثم أغلقت الهاتف وألقيت به في السرير ووضعت كلتا يديَّ على خدي، كانت أطرافي باردة على عكس خدي، كنت قلقة جدًا، اضرب ناصيتي بكفي وأردد غبية غبية غبية، وبينما أنا كذلك، رن الهاتف نظرت ناحيته، وجدته ذات الرقم الذي اتصلت به منذ قليل، شهقت ووضعت كفي على فمي وقلت في نفسي: ما عساي أفعل! تلك الثواني التي تفصل بين انسدال قائمة خياراتنا بالنسبة لموقف ما واختيارنا لإحداها، تبدو أطول مما هي عليها، خصوصًا حين ننازع الشر والخير في جوفنا.

ألو… قلتها بعد أن سحبتُ نفسًا عميقًا قبل أن أجيب على المكالمة. يااه ذابت مسامعي لهذا الصوت الندي. حين قالها، شعرت بي أسكر في لذة ما شعرت بها من قبل، يااه كم جميل هذا الكأس الذي سقاني منه وكأنه بيت شعر، بل قصيدة بل قد احسبها حتى معلقة، تعلق على جدار قلبي. صمت وأدعيت الصرامة وقلت له: ماذا تريد، لمَّ ألقيت برقم هاتفك أمامي؟ قال: آها إذًا أنتِ تلك الفتاة. أود أن اعترف بشيء لكم، لو توقفت عند هذه الجملة من البداية لما سقطت في تلك البئر الموحشة التي دفعني هو بداخلها، كانت تلك الجملة تبدو واضحة كالشمس، وبديهية كالماء بأنني فقط إحدى تلك النساء الآتي مارس معهن ذات الخدعة ويبدو أنني لست أول من يسقط على يده ولكنني الأكثر غباءً ربما. أكمل حواره بالكثير من الكلمات الشاعرية فذابت كل قطعة من جسدي وفكري حتى آخر اصبع في قدمي.

كان الاتصال يجر الاتصال، والحديث يجر همسات شاعرية مدغدغة، كنت اتلذذ بالحديث معه، أهيم في عالمنا الوردي الصغير، كنت أعيش عالمًا سريًا معه لا يدركه سوانا. نحن جميعًا نعيش عوالم سرية في داخلنا لا يعلم عنها أحد سوانا، ونخشى أن نبوح بها حتى لأقرب إنسان لنا، حتى وإن كانت تلك العوالم فقط في داخل رؤوسنا، فتلك الحرية الوحيدة التي نحظى بها ولا حق لأحد في مصادرتها. لهذا لم يعلم عن اتصالاتنا هذه أحد أبدًا.

كان أكثر ما يزعجني الحاحه المستمر للقائي بالخارج، وكنت اتعذر دائمًا بأي شيء وكل شيء ممكن. كان يخاصمني حين أرفض، ولا يعود إلا حين اترجى عودته وألح عليه بالاتصال، كان في بادئ الأمر يقبل بالأمر ويعود ليحادثني دون أن يلمح لطلب لقائي. وفي آخر مرة عاود مطالبتي بالخروج معه وتعذرت هجرني كعادته؛ فظننت أن رجائي سيعيده، ولكنه قال: إما أن تخرجي معي أو تنسيني. رفضت الفكرة جدًا، بل وأخافتني نبرة التهديد بالابتعاد؛ فقد كان واضحًا غضبه العارم في رده، ولهذا قلت: أنت تخيفني ما بك قد تغيرت. لم يجب عليَّ وإنما اكتفى بإنهاء المكالمة والابتعاد عني كما هدد. كنت أنازع نفسي كيف أخرج أنا برفقة شاب لا أعرفه ولا يعرفني، كيف أخرج من بيتينا المحافظ، لم أكن أعرف هل هو الخوف من افتضاح أمري ما يثنيني عن الخروج أم الخوف من ناصر، لم أكن خائفة منه، بل بالعكس استلذ كل شيء معه، وتجتاحني خيالات كثيرة معه، وكم مرة تبادلت القبل معه في أحلامي.

لم احتمل فراقه؛ لذا قررت أن أقدم التنازلات لأستعيد تلك الأيام الجميلة الواهمة التي كنت أعيشها معه، فاتصلت به وقلت له حتى قبل أن ألقيَّ التحية: سأخرج معك. كنت أقولها بحزن أخرجني منه حين استقبل الموضوع ببهجة كبيرة وقال أنه كان سيعود فهو أيضًا لم يستطع فراقي، الآن وأنا أذكر كل ذلك أعود لأقول كم كنت مغفلة حين صدقت أحمقًا مثله. اتفقنا على اللقاء خلف منزلنا، كنت كاللصة اتلفت يمنة ويسرة قبل أن أركب معه السيارة لأتأكد أن لا أحد يرانا، كان من السهل اقناع أهلي بحاجتي للخروج من البيت لشراء بعض الحاجيات من البقالة كون أخي ليس موجودًا.

ابتعدنا عن البيت مسافة ليست طويلة، كنتُ خجلة في البداية، أخبئ وجهي منه ويتورد خدي كلما نظري إلي، كنت أمنعه من فتح مصباح السيارة كي، وكان يمازحني بوضع يده على مصباح السيارة الداخلي ثم امسك يده فأبعدها واعيدها لأخبئ وجهي خلف كفيَّ وأقول له بصوت يملؤه الحياء: أرجوك كفى، جلسنا ندردش بشكل عادي جدًا في المرة الأولى وهذا ما جعلني أشعر بالأمان معه، بل ليس هذا فقط ما كنت أشعر به، بل أنني من شدة سعادتي طلبت منه أن نعيد الكرة مرة أخرى. كنت حين أركب معه السيارة أفتح نافذتها اقفو أثر الحرية عبرها، كان الخروج معه يعني لي كل شيء، الهروب من مشاكل البيت، الهروب من الضرب، الهروب إلى السعادة، الهروب إلى عالمي السري الجميل مع القمر الذي يقودني نحو فضاء واسع من السعادة التي نقطف نجومها تباعًا.

لم يبدد تلك المشاعر الجميلة وذلك الهروب الأنيق سوى طلبه الأخير والذي انتفضت له كل فرائصي، حين قال لي: نريد أن نمارس الحب. رغم أنني كنتُ صغيرة ونصف بريئة إلا أنني أعرف جيدًا ما يريده، فقد كنت أسمع الفتيات في المدرسة يثرثرن عن هذا الأمر ويعرضن على هواتفهن مقاطع تثير فضولي واشمئزازي في آن واحد، لم أفكر يومًا في أن اطلب منهن أن يرسلن تلك المقاطع لي أبدًا. حين قال لي طلبه، شعرت بأن شيء يشدني إلى داخل جوفي، وبدأت عيني ترى بياضًا في كل الاتجاهات وكأنني فقدت بصري، أما قلبي فقد كان يضرب قضبان صدري من حالة الرعب التي انتابتني. كدت أبلل ثيابي من الخوف، ثقل لساني وتجمدت أقدامي، وبلعت ريقي بعد أن جف حلقي، اقترب مني بعد أن وضع كفه عند ذقني يسحبني إليه ويقترب مني فدفعته وصرخت ابتعد عني ماذا تفعل، وانخرطت في البكاء. ابتعد هو عني وقال: يا سناء ما بك صدقيني لا أريد أن أؤذيك، كنت فقط أريد تقبيلك كما يفعل المحبون. ولكنني لم أتوقف عن البكاء حتى لمحت طريق بيتنا. ما أن أوقف سيارته حتى نزلت وجريت نحو البيت اخبئ وجهي المذعور الباكي. تمالكت نفسي عند عتبة البيت مسحت دموعي ودخلت. لم يشعر أحد بغيابي تلك الليلة، لكنني متأكدة من أنني كنتُ غائبة حتى بعد عودتي، كنت لا أعرف ما دهاني وما الذي أيقظ فيني كل هذا الشعور القاتم. خبأت حزني تحت وسادتي ونمت حتى الصباح.

استيقظت من حزني وكأنني فقدت ذاكرتي، نظرت إلى هاتفي فوجدت رسائل كثيرة منها يعتذر في مجملها عمّا بدر منه، ويقسم في بعضها ألّا يكرر ما فعله، استغرقت الكثير من الوقت حتى أهدأ، وعاودت الاتصال به على أمل أن يبعد عني هذا الحزن بكلام لطيف عودني عليه، وحصلت عليه كالعادة، فهو يحترف غَزْلَ الحروف وغَزَلَ الكلام وعدنا لنخرج مرة أخرى وكأن شيئًا لم يكن، ولكنني هذه المرة أعطيته ما كان يريده بالقوة عن طواعية بعد أن شاهدت لذة القبلات في تلك المسلسلات الأجنبية التي كنت أشاهدها خلسة، تمردنا كثيرًا في قبلاتنا حتى أنها صارت شيئًا عاديًا نفعله ما أن نلتقي.

في تلك الليلة الوردية التي كنت معه والتي ارتفعت حدة ألوانها حتى تحولت إلى اللون الأحمر الداكن، كان قد وصل بي حد السقوط بين يديه ملتهبة ككرة من النار، ذائبة كقطعة ثلج، متناقضة من الداخل والخارج، فتارة يتمنع ما بقي مني من عقل، وتارة يبتغي ما بجسدي من رغبة، همس لي بكلماتٍ عقلها نصفي ونصف الآخر لم يعبأ بها، فليفعل ما يحلو له، ما عدت الآن سوى ورقة في مهب الريح، يحملها الهواء حيث أراد ويقلبها كيف شاء، وهكذا فعل هو، لم استطع منعه من قطع أزرتي ولا من صنع ثقب في جسدي كانت علمتني أمي أنه لا يلتئم أبدًا.

حين استيقظنا من سكرتنا، نهضت مذهولة وشعرت بصداع ثقيل، وبدأت أبكي وأصرخ به: ماذا فعلت ! ماذا فعلنا !! كان جسدي ينزف خوفًا ورعبًا وألمًا، تكومت على نفسي في المقعد الأمامي للسيارة أبكي بشدة، حتى شعرت بدوار شديد فبدأت أهذي، حاول تهدأتي، ولكنني كنت ادفعه كلما حاول أن يلمسني، وكنت أصرخ بوجهه أوصلني إلى البيت أرجوك، هذه المرة ليست كتلك المرة، بالكاد كنت أستطيع المشي، أضع يدي أسفل بطني، ما أكاد اخطو خطوة حتى أتألم، حين دخلت رأتني أمي فسألتني ما خطبك، بكيت وقلت لها لقد أتتني وهي تؤلمني بشدة. فأجابتني متعجبة: هل هو موعدها؟ قلت في نفسي بغضب، وهل تعرفين أي شيء عني أصلًا ! أنتِ بعيدة عني ولو لم تكوني كذلك لما بلغ بي الأمر أن أقع فيما وقعت فيه. دخلت الحمام، وجلست أبكي داخله بحرقة، أسأل نفسي ماذا لو عرف أهلي، أخي قد يقتلني وهو من يركلني على الأحمر الذي أضعه في شفاهي، كيف لو علم أن هذا الأحمر لامس شفاه رجل غريب، وحين أرتدي شيئًا ضيقًا يصفعني فكيف إذا علم أن هذا الجسد تعرى لرجل غريب، كدت أشد شعري من الجنون، وأخذت اصفع وجهي الباكي، وأقرص نفسي فلعل كل ما حدث مجرد حلم قد استيقظ منه حين أشعر بألم حقيقي، ولكن الألم لم يكن كافيًا ليحول الحقيقة إلى حلم. تكومت على نفسي في السرير أبكي وأكمم فمي حتى نمت على تلك الوضعية.

اتصل بي ناصر ووعدني بالزواج، وكان ذلك الاتصال هو حبل النجاة الذي كنت أبحث عنه في هذا البحر المظلم، كدت اصرخ من الفرح بعد أن سمعت وعده وآمنت به وأخذنا نتحدث عن الترتيبات وكأن الأمر سيحدث غدًا. شعرت أن تلك الغمامة غادرتني بلا رجعة بعد تلك المكالمة، ولكن غيابها كان مجرد وهم لا وجود له، فبعد شهرين بدأ ناصر بالتغير واتصالاته أخذت تقل ولقاءاتنا تكاد تكون نادرة، يقال دائمًا أن الرجل حين يبدأ في التغير يعني أن فتاة أخرى دخلت دواليب عقله واختبأت فيه حتى يحين وقت نزولها إلى قلبه وعالمه. لم أكن أعرف تلك الحكمة من قبل، تعلمتها بعد أن سقطت في الوحل الذي لم أجد من يخرجني منه، فقد بدأ ناصر يتغير ويتعذر كثيرًا عن الرد على اتصالاتي، حتى جاء ذلك اليوم الذي غضبت فيه منه وقلت له: لم لا ترد علي وتتجاهلني هل أحببت فتاة أخرى؟ تلعثم قليلًا فصرخت وقلت له: قل هيا اعترف لن أمنعك ولكن قل الحقيقة ولو لمرة واحدة، يكفي أنك كذبت بشأن اسمك منذ أول لقاء لنا. قال لي: نعم أحب أخرى. بدأت بالأنين ثم انفجرت صارخة باكية: ولكنك وعدتني بالزواج مني! حينها صفعني بجملته: فكرت بالأمر مليًا نحن لا نصلح لبعض، فأنتِ مجرد عاهرة باعت نفسها لأول شاب خرجت معه، أنتِ لن تصلحي لتربية أبنائي. أنهى جملته ثم أغلق الهاتف وكأنه يعلم أنني تحولت إلى بكماء تئن بلا صوت، وتبكي بلا دموع، كانت تلك أول مرة أعرف معنى كلمة عاهرة، تلك الكلمة التي كن الفتيات في مدرستي يضحكن حين تقال لهن، لم تكن أبدًا نكتة، كانت كلمة أشد مرارة من الحنظل لا يمكن لحلق أن يبتلعها دون أن يشعر بأن جسده يتمزق.

كان آخر ما قاله لي هي أكبر صفعة تلقيتها في حياتي، ظننت دائمًا بأن الطريق معه مفروشةٌ بالسجاد الأحمر، مزينة نواصيه بالجوري والياسمين والقرنفل، وتضيء سماؤه بالشمس والقمر والنجوم التي لا تضيء لي إلا معه. بعد تلك الجملة شعرت بأن أحدهم جردني من ثيابي ثم قال لي: انظري أنتِ عارية. متجاهلًا أنه من تسبب في هذا العري. لا زلت احصد ومن حولي ثمار الشوك الذي زرعته بنفسي طوال العشر سنوات الماضية، التزمت الصمت مذ حين تلك الصدمة، بل أشك كثيرًا بأنني فقدت النطق وليس كما يقول الجميع بأنني أمثل ذلك وهو ما ظننته بادئ الأمر، إلا أنني وإلى الآن أقف أمام المرآة أقلب شريط ذكريات في رأسي علّ فتاة أخرى تسمع صرخاتي فلا تسقط في نفس الحفرة يتلقفها ثور في شكل ثعبان يبث سمًا يجعلها تموت ببطئ شد_ـــ##

 

وجدت الشرطة هذه الورقة بالقرب من جسد ممد لفتاة كانت تجلس على كرسي متحرك وبيدها الأخرى علبة عقاقير تشير التحقيقات الأولية إلى كونها ابتلعت محتوياتها مما أدى إلى وفاتها، وتم نشرها مع التحفظ على أسم الفتاة الحقيقي بناء على طلب والدتها.

غبار الفراشات

78

 

غبار الفراشات

قررت الهرب من شيء أجهله في غرفتي ومضيت أسير دون وجهة نحو أي شيء له معنى، قصدت الطريق العام، فأنا دائمًا ما أبحث عن الحياة في وجوه الآخرين، وأجمل الوجوه تلك التي يحملها المارة، فوجوههم كسنفونية تبدأ بلحن مبتهج، ثم يقفز بخفة أصابع عازفها إلى لحن باهت حزين، يعود بعدها لأخرى في وجه طفلةٍ مسرورة يمسك بيديها من يشعرها بالأمان والسعادة، ثم يخرج لحن ثقيل وكأنه سحب على مضض من آخر عازفٍ غطى جزءً من وجهه ستار المسرح. بعد حين تتساوى الألحان وتتحد عندما تتلاقى الوجوه الحائرة التي تسير في كل اتجاه، ويضيع لحن وجهي بينهم فأنساه.

بعد أن خرجت من الشارع العام، طاردت فراشة أنيقة رشيقة كانت تنفض جناحيها بخفة لتنثر غبار الألوان الفاتنة التي على ظهرها، تابعتها دون هدف بينما كانت هي تبحث عن ضالتها، على عكسي تعرف جيدًا ما تريد. وصلنا إلى واجهة منزل فيها بعض الشتلات والورود، ويبدو جليًا أن صاحبها كان يعتني بها جيدًا، حطت هي على وردة، ودنوت لأمسك بها بيدي، فارتفعت وبدأت تدور في كل الاتجاهات وكأنها تشتم الذي هدد طمأنينتها وسكينتها وهي التي لم ترتكب يومًا جرمًا سوى أنها خلقت جميلة، لم أبالي برد فعلها وتخطفت اتجاهاتها حتى نلت منها وأقحمتها بين يديَّ، وأغلقت عليهما بإحكام تام، كنت أشعر بدغدغة في يدي اليمنى تؤكد أنني خطفتها من كف الحرية. فرقت بين يديَّ على مهل لأراها، كانت قد توقفت عن الحركة، كنت قد قتلتها دون أن أدري، لم يكن بها أي شكل من أشكال الأذى، قلبتها، لمستها ودفعتها برفق بطرف إصبعي ولكن دون جدوى، كانت جسدًا أنيقًا ملونًا انحسرت عنه روحه.

ألقيت بها وبي بعض حزنٍ بعد أن تأكدت أنها فارقت جمالها، فلم استمتع بها طليقة، بل أردت أن استأثر بجمالها لنفسي، تذكرت تلك الفراشات المعلقة بالدبابيس بلحد أبيض، وكفن مكشوف أسود يلمع زجاجه كلما صفعه ضوء، ذات المشهد مع فرق المسرح الذي يعتليه الموت والأنانية. الإنسان يجيد سلب الحياة والحرية من كل شيء جميل حوله، وليس ذلك فحسب، بل وحتى كل جمال بداخله، الإنسان أناني التكوين من باب حب النفس الملتصق بكيانه، ولكن أحيانًا يطغى هذا التكوين فيعميه عن الصواب والخطأ، والأخلاق والضمير، فيقتل أسدًا ليعلق رأسه في غ رفة الضيوف، أو يسلخ ثعبانًا ليصنع حقيبة، أو حتى يقتل فيلًا ليصنع من عاجه مفتاح بيانو، أو عقدًا أو حتى كرة بليارد لا يلعب بها إلا هواتها.

وصلت إلى حديقة المدينة بعد طول مسير، هنا الوجوه لا تشبه شيئًا في الشارع العام، فهي هنا كلها معزوفة فردية مكررة، الكل يضحك، والبعض يبتسم، وآخرين يمسك بعضهم بأيدي بعض بحب، وقلة يركضون هنا وهناك من فرط ما بهم من طفولة ومرح، إلا أنا أجالس الكرسي وحدي، أبحث عن ملامحي في وجوه الآخرين.

وبينما كنت اتجول في الحديقة لمحتها على بقعة خضراء تحت ظل شجرة كبيرة، ما شدني إليها ليست الوحدة التي تعتريها، بل الهالة التي تحتويها، وكأن الشمس لم تجد من تجالسه سواها. قوست مساري حتى أرى وجهها، كانت ترتدي قبعة تقيها من شمس الوجع الحارقة، تجالس الوحدة، تمارس الحزن، وتقطف من كل بستان دمعة شائكة تجرح خدها الثلجي. عجبت لحزنها، فلا شيء من الجمال ينقصها، ولا شيء من المال يقصر عندها، ولا شيء من الزينة فيها مختل. أشفقت عليها كثيرًا، فكرت في أن أقترب منها ثم ادنو من حزنها ألملم شتاته، ثم احنو عليها وابدد حزنها قدر ما أستطيع؛ لكنني خشيت من أن تنهرني أو حتى تنهاني.

كنت أقترب منها شيئًا فشيئًا، وكلما اقتربت كنت أسمع لها نحيبًا صداه في جوفي، وكأنني الذي يبكي، وكلما اقتربت كنت أشعر بما تشعر به من حزن عميق دفين لا يعلمه سوى الخالق، شعرت حين وصلت عندها بضيقٍ كبير، وكأن الهواء حولها مختنق في عنق زجاجة، كنت اتحسس صدري، وأنفاسي تضيق والدنيا يتلاشى جمالها وكأنها فراشة لم يبقى على ظهرها غبار يلونها. رجعت عدة خطوات للخلف حينها عاد كل شيء لطبيعته.

مر من أمامي رجل لم ينظر لها رغم أن نحيبها واضحٌ جدًا يجعل كل ذو قلبٍ يلتفت إليها، عاودت الاقتراب فشعرت بذات الشعور، ونفس الوجع، حينها أشحت بوجهي عن كل ألم ألمَّ بي، حتى صرت أقابلها، جثوت على ركبتي بينما اكتحلت عيون المشاهد من حولي بالسواد إلّاها، فهممت بسؤالي: ما بك آنستي؟ هل أستطيع المساعدة. كنتُ وأنا أقولها أشعر بوخز شديد في قلبي حتى وضعته على كفي فوق صدري، ثم أعدت ذات السؤال فلم تجب. مددت يدي فأجهشت بالبكاء، لم أدري ما خطبي، خارت قواي، بح صوتي، ركعت على كل أطرافي وضاقت أنفاسي، وتقاطر الدمع دون توقف، بدأت ألملم صوتي لأكون جملتي مرة أخرى، وبصوت باكي ناحب أعدتها بصعوبة، توقفت هيَّ عن البكاء وكذلك فعلت دون سبب وجيه، رفعت بصرها نحوي ثم قالت: أخيرًا بدأت تهتم! عفوًا هل أعرفك؟ كنت حقًا متفاجئًا من الجملة الوحيدة التي خرجت من بين شفاهها المرتجفة. ابتَسمتْ وقالت: دائمًا ما كنت انتظرك هنا في هذه الحديقة وفي ذات البقعة ولكنك تشيح بناظرك عني، لا تبالي بي، تهمل وجودي، وتتحاشاني لغيري! أنا يا آنسة لا أعرفك كيف أفعل بك كل هذا، عمَّ تتحدثين. بالطبع؛ فلو كنتَ تعرفني لما تجاهلتني في كل مرة تتخطفك وجوه الآخرين حين تخرج من الغرفة التي تغلق نفسك فيها. لا أدري كم عامًا كان عليَّ أن انتظرك كل يومٍ هنا فقط لتنظر إليَّ بعينيك الحالمتين، أو تدردش معي بشفاهك المبتسمة، خشيت والله أن اشيخ دون أن تبالي، خشيت أن احتضر وتراني حينها ثم تمضي في حال سبيلك فالجثة كما تظن لشخص لا يهمك. أعلم أنكَ مشغول كثيرًا بعملك، باهتماماتك، بألعابك الإلكترونية المزعجة، بمواعيد مع من تظنهم أصدقائك وسرعان ما يتخلون عنك ما أن تنفد مصلحتهم التي في جيبك أو في اسمك أو مكانتك. صدقني لو لم تتجاهلني لكنت أقرب صديق، وأوفى محب، وأكثر من تستطيع الاعتماد عليه والوثوق به.  لحظة من فضلك، هل لي أن أعرف كيف تعرفين كل هذا عني! رفعت يدها تمسح دمعها ثم ابتسمت وقالت: ستتعرف عليَّ أكثر حين تتردد على هذا المكان ونفس البقعة التي نحن فيها.

نهضت من مكانها بعد أن نفضت فستانها، ثم دنت مني أكثر وقربت شفاهها من جبيني، حينها فقط بدأت أتلوى من الوجع وسقطت، رفعت رأسي فجأة، وجدتني على كرسي الحديقة القابعة تحت الشجرة الكبيرة أحاول أن أتذكر كيف وصلت إلى هنا، تذكرتها، وتذكرت أن آخر ما شعرت به قبل أن اسقط هو شفاهها الرطبة تلتصق بنعومة بجبيني ثم تغيب وأغيب أنا عن الوعي.

قفزت من علي الكرسي أتلفت يمنة ويسرة بحثًا ظلها فلم أجد له أثرًا، عدت إلى البيت وعقلي تتلاطمه أمواج أسئلة كثيرة، أتساءل بيني وبين نفسي عن حلم ما رأيت، وحقيقة ما لمست طوال ذلك اليوم.

قررت أن أقصد المكان مرة أخرى، ذهبت إلى هناك، جلست على ذات البقعة وانتظرت طويلًا دون جدوى، ومنذ ذلك اليوم أخذت أتردد على المكان اترقب عودتها، ولأنني كنت انتظرها حتى وقت الغروب، كنت اشغل نفسي بالتفكير والتفكر، والتأمل والتدبر في كل ما يحيطني وكل ما أحيط به لأقتل الانتظار الذي كان دائمًا ما تكون الغلبة له، كنت أرى الوجوه ولا أتشبه بها، وأرى الفراش فلا أحبسه بل استمتع بحريته، فالجمال يجب أن يبقى حرًا، صرت أجلب الشاي وقطع الحلوى، وأصبحت عادتي الجلوس في تلك البقعة حتى مع بعض الأصدقاء الذين بت أختارهم بعناية فائقة، وبقيت انتظرها بين أمل اللقاء ويقين الفراق.

أثر وهمي

44248

رسم بإبهامه خطًا طوليًا من أعلى حاجبه وبقية أصابعه تحتوي خده، نزولًا حتى التقى السبابة في أفقه شمس مغيبه. أطلق تنهيدة سحبها من جرة ضيقة عميقة في صدره.

قال له صديقه: ما هذا إن صديقتك الصغيرة عائشة ليست سوى فتاة ساذجة، كم أود تقبيلها “مممممه” هكذا، هكذا. نظر ناحيته وحاجباه يعتركان مع ملامحه، ثم قال بغضب: أسحب كلامك وأصمت كي لا أضربك. رد عليه صديقه: اها إنك تغار عليها، ياي شعرت بالخوف. لم يتمالك فهد نفسه، فجرى نحو صديقه وبدأ يتعارك معه، وبعد عراك قصير تم تفريقهما فيه، خرج فهد ليتحسس جراحه التي نالها من المعركة، ثم قال بنبرة غيظ وهو يسحب أنفاسًا تلو الأنفاس: أقسم بالله لو أنك تحدثت عنها بسوء مرة أخرى، سوف لن أتركك في المرة القادمة. ضحك الآخر وانصرف، وهو يردد، عائشة، عائشة، عائشة.

انتظر فهد قدومها، وهو يحاول تهدئة روعه، كانت تأتي في ذات الموعد كل يوم لتلعب معه في الحديقة التي عند بيتهم، ولأن المسافة بين بيت فهد والحديقة أكبر من أن تمنحه فرصة العودة للبيت للقدوم لها مرة أخرى، فضل أن ينتظر حتى دنى الليل من نهاية أوله، كان يشعر نحوها بشيء لم يشعر به من قبل وهو فتى الرابعة عشر، كان يود أن يخبرها ولكن خجله كان يعقد كل يومٍ عقدة في لسانه كي لا ينطق سوى إبتسامة عميقة، وعينه لا تنطق إلا تلألؤً فاضحًا.

كانت تقرأ كل ذلك، وتعي كل شيء، وهذا ما زاد تعلقه بها. هيَّ أول شيء عرفه قلبه الصغير، فهي أول من طرق بابه الخلفي، وأول من عرف كيف يجد له مكانًا في الكرسي الذي يجلس عليه لتشاركهه إياه. كان وهو جالس يسترجع موقفه المخجل حين أهداها ذلك العقد الذي كلفه كل ما في حصالته، كيف طلب من صديقه أن يسلمها إياه، ثم أختبئ خلف إحدى الأشجار كي لا يرى رد فعلها أو رفضها لما ظنه “عقدًا تافهًا” يقول ما عجز لسانه عن نطقه “أحبكِ”. ثم تذكر كيف جاءت من خلفه وقالت له: أيها الجبان الجميل. حينها حاول الهرب بجسده، فلم يستطع فهرب بما بقي من شجاعته ومكث جسده متسمرًا كالشجر التي يسند ظهره عليها مختبئًا خلفها. كان وهو يستعيد ذكرياته يضحك تارة، ويبتسم بهدوء تلك الليلة تارة أخرى، كانت أنفاسه بطيئة ناعمة كتلك الغيوم التي تعتلى خشبة السماء الأوزونية، وحركته منعدمة وقلبه وعقله كانا الأكثر حركة في تلك البقعة من السكون.

لم تأتي تلك الليلة ذات العقد، اختفى حضورها كما اختفى القمر خلف أستار الغيوم، فقرر العودة نادبًا حظه، ملهبًا غيابها شوقه، متعثرة خطاه بحزنه وفقده، حاول أن يأوي إلى فراشه في غرفته المكتظة بكل إخوته، وكان يتقلب يمينًا وشمالًا متجاهلًا حنينه أن غدًا يومٌ مدرسي.

في اليوم التالي وبعد أن عاد من المدرسة وألقي بحقيبته المدرسية، تناول الساعة وأخذ يراقبها، ينتظر بشغف أن تدق الرابعة باب وقته كي يخرج فلربما التقاها اليوم، كانت الساعة تتك ببطء، وأنفاسه تنبض بسرعة كلما بصق الوقت دقيقة. حانت الرابعة بعد أن أجهد قلبه، وتوجه إلى حيث الملتقى يسارع الخطى، خطوة شاهقة بلهفة، وأخرى حاملة لبهجة حتى وصل، لم تكن هناك، ترقبها عند المراجيح فلم تأتي، جلس على كراسي الانتظار. بدأ الغروب يشير له بالوداع بيدين من سحاب، وكأنه يخبره أن لا طائل من الانتظار، تحرك من مكانه، واتجه نحو باب الحديقة الخلفي حزينًا يلقي ببصره نحو الطريق الذي تأتي منه، دون جدوى، انتظر وحيدًا حتى حل الظلام، بدأ يلعب بالحصى بيديه، وحين فقدأ الأمل وأراد المضي في عتمة العودة التي كانت تضيء طرقاتها رؤيته لها، سمع وقع أقدامٍ قادمة نحوه؛ نظر ولكن من تفاصيل ظلها عرف أنها ليست هيَّ، فنهض وأدار ظهره وبدأ يسير بخطى متباطئة مانحًا إيها فرصة أخيرة، نادت عليه: تريد عائشة؟ هيَّ علمت أنك تنتظرها، لكن أمي منعتها من الخروج، فأرادت أن تبلغك تحيتها، تصبح على خير. كانت تلك أختها الكبرى، شعر بكثير من الحرج كون أختها من جاء بالخبر، شكرها ثم مضى غير حزين عائدًا إلى البيت.

وفي اليوم الثالث كرر تفاصيل يومه، لكن ما تغير أنها من كان ينتظره واللهفة في عينيها البرّاقتين، تقلب بصرها في حدود المكان، تود أن تراه قبل أن يتجاوز أفقها، كانت تريده أفقها، تريده بصرها، تريد أن تكون الأولى في كل شيء له وكل شيء هو فيه، ما أن وصل فهد إلى الحديقة وتجاوز سورها، حتى لوحت له من بعيد، كان طول الطريق يجري، وما أن رآها حتى بدأ يسير بهدوء رجل أعمال تنقصه حقيبة، مضى نحوها بتثاقل، قال لها: كيف حالك اليوم؟
بخير، ماذا عنك؟
تلعثم قليلًا، كان يود أن يقول لها: لست بخير فلم أركِ منذ يومين، ولكن شجاعته خارت عند يدها التي أمْسَكَتْ بها يده وسحبته ليلعبا، كان أصدقاءه يمكثون غير بعيدٍ ينظرون له بحنق، بينما هو منشغل ينظر للوردة التي تمسك بغصنه، كان يشتم عطرها الذي يركض خلف خيوط الحرير السوداء التي تشبثت برأسها والتي كانت تغازل الشمس، كان يرى كل لوحات الدنيا في خدها، ويرى كل حلوى العالم في ثغرها، وكل زمرد الكون في عينيها. ظلت أنفاسه تتقطع، فيتداركها بشهيق متعثر بالخجل حتى وصلا لقمة لعبة المنزلق الكبيرة، نظرت ناحيته وهي تضحك: أتخافها؟ هز رأسها نافيًا، بينما كان خائفًا، فهو يخاف كل شيء مرتفع، حاول أن يتراجع، نظرت نحوه وقالت له: ستنزل خلفي صح. دون أن يفكر هز مؤيدًا. وحين كادت تنزل نظرت ناحيته بجدية كبيرة، شعر بخوف، أخذ يفكر ويسأل نفسه: لقد وافقت فما الذي جعلها تغضب. خطت عائدة نحوه وقالت: ما هذا الذي في عينك!
– عيني !
بلى عينك، لا تتحرك.

أمْسَكَتْ وجهه بيمناها، ومررت سبابتها من فوق حاجبه نزولًا كشمس تغيب عن سمائه إلى أرضه، ترسم خطًا مخمليًا فوق خط الجرح الكائن في وجهه. ما هذا كيف أصابك هذا الجرح. فهد فقد حباله الصوتية، ولم يعد هنالك من صوت يتعلق به ليلفظ ما لا يدور حتى في جنبات عقله، لم يعد يفهم ذوبانه الداخلي وتجمده الخارجي، تبخر وهو واقف كقطرة ماء، تبعثر كالرمل في صحراء، تاه يبحث في معاجمه عن رد، شعر بأن كل من حوله اختفى، وكل ما حوله خلق من جديد، نظرت في عينيه؛ فحلقت ملائكة أفكاره بما بقي من عقله و لم يقل لها سوى ما استطاع قوله. كان يود أن يخبرها بدوره البطولي وكيف وقف ضد العدو الذي كان يسيء لأرضها الطاهرة ولكنه لم يستطع.

توالى سقوط أوراق الرزنامة سريعًا و فرقتهما الأيام، كلٌ في طريق لا يتقاطع فيه مع الآخر ابدًا. رفع السبابة من على وجهه، كان ميقنًا أن أثر الجرح اختفى، لكن بقت ملامح الخط الوهمي الذي رسمته عائشة على وجهه طيلة الأربعة عشر سنة الماضية تظهر له كلما وقف ينظر لخياله الوحيد الجاثم أمام المرآة.

8-12-2012

وأندلقت القهوة مرة أخرى

spilled_coffee

جلس في كرسيه المعتاد عند باب الكلية

بيده قهوةٌ تزيل صدأ الأيام من عقله

عبرت هي باب الكلية

ما أن رآها حتى أندلقت القهوة عليه

كما أندلق قلبه عليها

أخرج من جيب معطفه قلمه

دون ملاحظة “ياااه تلك جميلة

كم أسرتني بذلك الجمال”

مرت في اليوم التالي ولكنه

فطن لم يجلب كوب قهوته التي إعتاد

أن يشربها وشمر ساعد قلمه وكتب

“حقاً قد أعترف الآن بالحب من أول نظرة”

و بعثر دواوين الشعر فيها.

في اليوم الذي تلاه

عبرت باب الكلية

رآها فخفق قلبه لها

رأى أختها خلفها

فخانته نبضات قلبه

وأندلقت القهوة مرة أخرى

 

أثر وهمي

487042_396424817098783_709442930_n

رسم بإبهامه خطًا طوليًا من أعلى حاجبه وبقية أصابعه تحتوي خده، نزولًا حتى التقى السبابة في أفقه شمس مغيبه. أطلق تنهيدة سحبها من جرة ضيقة عميقة في صدره.

قال له صديقه: ما هذا إن صديقتك الصغيرة عائشة ليست سوى فتاة ساذجة، كم أود تقبيلها “مممممه” هكذا، هكذا. نظر ناحيته وحاجباه يعتركان مع ملامحه، ثم قال بغضب: أسحب كلامك وأصمت كي لا أضربك. رد عليه صديقه: اها إنك تغار عليها، ياي شعرت بالخوف. لم يتمالك فهد نفسه، فجرى نحو صديقه وبدأ يتعارك معه، وبعد عراك قصير تم تفريقهما فيه، خرج فهد ليتحسس جراحه التي نالها من المعركة، ثم قال بنبرة غيظ وهو يسحب أنفاسًا تلو الأنفاس: أقسم بالله لو أنك تحدثت عنها بسوء مرة أخرى، سوف لن أتركك في المرة القادمة. ضحك الآخر وانصرف، وهو يردد، عائشة، عائشة، عائشة.

انتظر فهد قدومها، وهو يحاول تهدئة روعه، كانت تأتي في ذات الموعد كل يوم لتلعب معه في الحديقة التي عند بيتهم، ولأن المسافة بين بيت فهد والحديقة أكبر من أن تمنحه فرصة العودة للبيت للقدوم لها مرة أخرى، فضل أن ينتظر حتى دنى الليل من نهاية أوله، كان يشعر نحوها بشيء لم يشعر به من قبل وهو فتى الرابعة عشر، كان يود أن يخبرها ولكن خجله كان يعقد كل يومٍ عقدة في لسانه كي لا ينطق سوى إبتسامة عميقة، وعينه لا تنطق إلا تلألؤً فاضحًا.

كانت تقرأ كل ذلك، وتعي كل شيء، وهذا ما زاد تعلقه بها. هيَّ أول شيء عرفه قلبه الصغير، فهي أول من طرق بابه الخلفي، وأول من عرف كيف يجد له مكانًا في الكرسي الذي يجلس عليه لتشاركهه إياه. كان وهو جالس يسترجع موقفه المخجل حين أهداها ذلك العقد الذي كلفه كل ما في حصالته، كيف طلب من صديقه أن يسلمها إياه، ثم أختبئ خلف إحدى الأشجار كي لا يرى رد فعلها أو رفضها لما ظنه “عقدًا تافهًا” يقول ما عجز لسانه عن نطقه “أحبكِ”. ثم تذكر كيف جاءت من خلفه وقالت له: أيها الجبان الجميل. حينها حاول الهرب بجسده، فلم يستطع فهرب بما بقي من شجاعته ومكث جسده متسمرًا كالشجر التي يسند ظهره عليها مختبئًا خلفها. كان وهو يستعيد ذكرياته يضحك تارة، ويبتسم بهدوء تلك الليلة تارة أخرى، كانت أنفاسه بطيئة ناعمة كتلك الغيوم التي تعتلى خشبة السماء الأوزونية، وحركته منعدمة وقلبه وعقله كانا الأكثر حركة في تلك البقعة من السكون.

لم تأتي تلك الليلة ذات العقد، اختفى حضورها كما اختفى القمر خلف أستار الغيوم، فقرر العودة نادبًا حظه، ملهبًا غيابها شوقه، متعثرة خطاه بحزنه وفقده، حاول أن يأوي إلى فراشه في غرفته المكتظة بكل إخوته، وكان يتقلب يمينًا وشمالًا متجاهلًا حنينه أن غدًا يومٌ مدرسي.

في اليوم التالي وبعد أن عاد من المدرسة وألقي بحقيبته المدرسية، تناول الساعة وأخذ يراقبها، ينتظر بشغف أن تدق الرابعة باب وقته كي يخرج فلربما التقاها اليوم، كانت الساعة تتك ببطء، وأنفاسه تنبض بسرعة كلما بصق الوقت دقيقة. حانت الرابعة بعد أن أجهد قلبه، وتوجه إلى حيث الملتقى يسارع الخطى، خطوة شاهقة بلهفة، وأخرى حاملة لبهجة حتى وصل، لم تكن هناك، ترقبها عند الأراجيح فلم تأتي، جلس على كراسي الانتظار. بدأ الغروب يشير له بالوداع بيدين من سحاب، وكأنه يخبره أن لا طائل من الانتظار، تحرك من مكانه، واتجه نحو باب الحديقة الخلفي حزينًا يلقي ببصره نحو الطريق الذي تأتي منه، دون جدوى، انتظر وحيدًا حتى حل الظلام، بدأ يلعب بالحصى بيديه، وحين فقدأ الأمل وأراد المضي في عتمة العودة التي كانت تضيء طرقاتها رؤيته لها، سمع وقع أقدامٍ قادمة نحوه؛ نظر ولكن من تفاصيل ظلها عرف أنها ليست هيَّ، فنهض وأدار ظهره وبدأ يسير بخطى متباطئة مانحًا إيها فرصة أخيرة، نادت عليه: تريد عائشة؟ هيَّ علمت أنك تنتظرها، لكن أمي منعتها من الخروج، فأرادت أن تبلغك تحيتها، تصبح على خير. كانت تلك أختها الكبرى، شعر بكثير من الحرج كون أختها من جاء بالخبر، شكرها ثم مضى غير حزين عائدًا إلى البيت.

وفي اليوم الثالث كرر تفاصيل يومه، لكن ما تغير أنها من كان ينتظره واللهفة في عينيها البرّاقتين، تقلب بصرها في حدود المكان، تود أن تراه قبل أن يتجاوز أفقها، كانت تريده أفقها، تريده بصرها، تريد أن تكون الأولى في كل شيء له وكل شيء هو فيه، ما أن وصل فهد إلى الحديقة وتجاوز سورها، حتى لوحت له من بعيد، كان طول الطريق يجري، وما أن رآها حتى بدأ يسير بهدوء رجل أعمال تنقصه حقيبة، مضى نحوها بتثاقل، قال لها: كيف حالك اليوم؟ بخير، ماذا عنك؟ تلعثم قليلًا، كان يود أن يقول لها: لست بخير فلم أركِ منذ يومين، ولكن شجاعته خارت عند يدها التي أمْسَكَتْ بها يده وسحبته ليلعبا، كان أصدقاءه يمكثون غير بعيدٍ ينظرون له بحنق، بينما هو منشغل ينظر للوردة التي تمسك بغصنه، كان يشتم عطرها الذي يركض خلف خيوط الحرير السوداء التي تشبثت برأسها والتي كانت تغازل الشمس، كان يرى كل لوحات الدنيا في خدها، ويرى كل حلوى العالم في ثغرها، وكل زمرد الكون في عينيها. ظلت أنفاسه تتقطع، فيتداركها بشهيق متعثر بالخجل حتى وصلا لقمة لعبة المنزلق الكبيرة، نظرت ناحيته وهي تضحك: أتخافها؟ هز رأسها نافيًا، بينما كان خائفًا، فهو يخاف كل شيء مرتفع، حاول أن يتراجع، نظرت نحوه وقالت له: ستنزل خلفي صح. دون أن يفكر هز مؤيدًا. وحين كادت تنزل نظرت ناحيته بجدية كبيرة، شعر بخوف، أخذ يفكر ويسأل نفسه: لقد وافقت فما الذي جعلها تغضب. خطت عائدة نحوه وقالت: ما هذا الذي في عينك! – عيني ! بلى عينك، لا تتحرك. أمْسَكَتْ وجهه بيمناها، ومررت سبابتها من فوق حاجبه نزولًا كشمس تغيب عن سمائه إلى أرضه، ترسم خطًا مخمليًا فوق خط الجرح الكائن في وجهه. ما هذا كيف أصابك هذا الجرح. فهد فقد حباله الصوتية، ولم يعد هنالك من صوت يتعلق به ليلفظ ما لا يدور حتى في جنبات عقله، لم يعد يفهم ذوبانه الداخلي وتجمده الخارجي، تبخر وهو واقف كقطرة ماء، تبعثر كالرمل في صحراء، تاه يبحث في معاجمه عن رد، شعر بأن كل من حوله اختفى، وكل ما حوله خلق من جديد، نظرت في عينيه؛ فحلقت ملائكة أفكاره بما بقي من عقله و لم يقل لها سوى ما استطاع قوله. كان يود أن يخبرها بدوره البطولي وكيف وقف ضد العدو الذي كان يسيء لأرضها الطاهرة ولكنه لم يستطع.

توالى سقوط أوراق الرزنامة سريعًا و فرقتهما الأيام، كلٌ في طريق لا يتقاطع فيه مع الآخر ابدًا. رفع السبابة من على وجهه، كان ميقنًا أن أثر الجرح اختفى، لكن بقت ملامح الخط الوهمي الذي رسمته عائشة على وجهه طيلة الأربعة عشر سنة الماضية تظهر له كلما وقف ينظر لخياله الوحيد الجاثم أمام المرآة.

8-12-2012