خديعة اللايكات

edf

في مقالاتي السابقة تحدثت عن أن الإنسان كائن اجتماعي بالمقام الأول، وأننا لسنا جزرا كما تقول الحكمة اليونانية، أي أننا لا يمكن أن نحيا دون الآخر، الاخر الذي يخدمنا، الآخر الذي ينام معنا، الآخر الذي يشعرنا بحاجته لنا واهميتنا. الإنسان قد يتمنى الخلود، ويسعى له، وأثناء سعيه من أجل إيجاد إكسير الحياة، لا ينسى أن يبحثه برفقه، أو من أجل رفقة ممتدة.

الأثرياء لا يبحثون في ثرائهم عن المال كقيمة نقدية، فهم يمتلكون الكثير، ولكنهم يبحثون عنها كقيمة إجتماعية بحتة، أي أنهم ينظرون للمال كأرقام وحسب، لا ينظرون إليه على أنه مادة قابلة للاستخدام، فهم في الغالب يريدون أكبر رقم في رصيدهم البنكي، وإن استخدموه؛ فإنهم يبتاعون أشياء نادرة لا يمكن لسواهم امتلاكها بسهولة، وفي الحالتين يريدون شيئًا واحدًا، أن يكونوا بالغي الأهمية، أن يلتفت لهم أو يلتف حولهم “الآخر” وأن يحبهم، أو تحديدًا أن يهتم بهم.

بكاء الأطفال مزعج جدًا، وله دلالات عدة، كجوع الطفل مثلًا، ولكن في أغلب الحالات يكون بكاءه بحثا عن تواجد الآخر، بحثا عن التدليل، ولنكون واقعيين، بحثًا عن الاهتمام. إذا نستطيع أن نقول أن الإنسان وفي شفرته الجينية كائن يبحث عن الاهتمام والمبالاة والأنس والألفة. دونها سيتحول لذلك الطفل الباكي.

الإنترنت غير حياة الإنسان وطريقة تعاطيه مع العالم والآخر، ومنذ خروج برامج التواصل الاجتماعي وانتشارها، أصبحت وسيلة جيدة للتواصل والاتصال، بل وأصبحت طريقة أفضل لمتابعة حتى حياة ابناءك، فالناس باتت تنشر بعض تفاصيل حياتها، إن لم يكن كلها في هذه المواقع، ماذا شربت، كيف سافرت، ماذا اشتريت، أين قضيت سهرتي. لذا قد تجد أحيانا أن الغرباء قد يعرفون تفاصيل حياة اخوتك أو ابناءك أكثر منك، فهو يسرع لنشرها في الإنترنت قبل حتى أن يبوح بها لك. وعليك حينها أن تعلم أن هنالك خلل في هذه العلاقة، فإن الإنسان إن لم يجد الاهتمام في محيطه، فبطبيعة الحال سيبحث عنه في مكان آخر، حتى لو كان ذلك خارج هذه المجرة.

حين تكون مع شخص ما يمكنك أن تشعر وترى وتلمس اهتمامه بك، أو يلمس هو اهتمامك به، لكن مع غياب الأيدي، والتعابير والصوت كيف يمكنك أن تقيس ذلك؟ في برامج التواصل لا يمكن لك أن تقيس ذلك بسهولة، والطريقة الوحيدة هي الكلمات، وعندما عجزت الكلمات عن إيصال ذلك الكم من الاهتمام، وجدت الايموجي “الوجوه المبتسمة” لتحل محل الملامح؛ ولكن مع تسارع العالم وجريه خلف السراب، لم يعد أحدنا يملك وقتا للآخر، ولأن العالم الافتراضي يواكب حالاتنا، فإن المواقع ابتكرت ما يسمى باللايك، وهو اسرع طريقة لإيصال رسائلنا حسب الطرح، فلايك على صورة يعني اعجاب بها، لايك على طرح يعني تأييد له، لايك على حدث يعني اهتمامك بهذا الحدث، والقائمة تنسدل.

ولكن المشكل في اللايك أنه أكثر صمتا وأقل تعبيرا من الكلمات، ولذا وقعنا في فخ اجتماعي كبير، وهو ملامح وخلفية هذا اللايك، بإمكان أحدهم بكل بساطة أن يمر على كل طرح ويضغط زر الاعجاب دون حتى أن يلقي بالا، دون أن يولي أدنى اهتمام، أو حتى غالبا دون أن يلقي نظرة، نعم بلغة عامية “لايك على الطاير”، قد يتعجب البعض، بينما يبتسم البعض الآخر بخجل لأنه يصنعها.

في محاولة لكشف هذا النوع من الممارسات، قام أحدهم بوضع صورة له على موقع فيسبوك معلنا فيه ارتباطه بفتاة احلامه، وتظهر الفتاة فيه وهي ترتدي خاتما وهي متفاجأة، حصدت الصورة الكثير من اللايكات، وبعدها ببرهة، وضع صورة لفتاة أخرى معلنا فيها ارتباطه بفتاة أحلامه الثانية، وفي ذات الصورة تظهر خطيبته الأولى وهي تبكي في خلفية الصورة، وحصدت الصورة مجموعة كبيرة من اللايكات، وبعدها ببرهة، طرح ما مجموعه أربع صورٍ لخطيباته الجدد ودون تحت كل واحدة “بما أن خطبتي نالت اعجابكم تحمست كثيرا وقررت الارتباط مرة أخرى.

ما أظهرته هذه التجربة أن مجموعة كبيرة من أصدقاءه لم يبالوا أصلًا بالطرح، ولم يلقوا نظرة عليه ولا على ما هو مدون أسفله، في صورة واضحة لما اسميته ” اللايك التسليكي اللا إرادي”، حيث اعتاد البعض المرور بشكل سريع على حساباته والقيام بعمل لآيك وراء الآخر دون أدنى إدراك، حيث تحول هذا لفعل لا إرادي من باب التسليك أو حتى اظهار الاهتمام، وربما تماشيا مع فكرة أعطيه لآيك اليوم، “يرجعهولي بكرة لآيكين” ف

الناس يريدون أن يظهروا اهتمامهم لكل من في قوائمهم، يريدون أن يخبروهم أننا هنا أو أننا نقرأ ونتابع مجريات حياتك ولحظاتك. والذي يشارك لحظاته كالثري أحيانا، يريد أرقاما، أرقاما كثيرة تريه أن هنالك كثيرون يهتمون لأمره، ويعبأون لما يفعل، بينما قد لا يتجاوز الأمر كله سوى عادة جديدة تبناها الإنسان مع تغير عاداته وتصرفاته تبعا للتطور التقني الذي تشهده البشرية؛ فاصبح معتادا أن يوزع اللايكات، كما يوزع الوجبات على سائر اليوم. هو لا يريد ذلك فقط لإشباع تلك الرغبة، بل وكذلك لإظهارها للآخرين، فهو يقول للآخرين انظروا كم أنا رجل مهم، انظروا أنا بطل اللايكات، وهذا ما أسميه، خديعة اللايكات، فاللايكات لا تعني أبدًا أنك رجلٌ مهم، أو أن هنالك مليون شخص يعبأ بك؛ لكنها تعني أنك معروض أكثر على العالم بشكل يتيح مساحة للمزيد من اللايكات التسلكية واللاإرادية.

ملاحظة صغيرة: لا يعني ما قلته بالأعلى أنه لا يوجد من يهتم بك، ولكن أعني فقط، ألا تقيّم ذاتك وأهميتك تبعا للأرقام، فستخسر الكثير ممن يهتمون بك حقًا بينما تطارد الأرقام والاهتمام. ارفع هاتفك، انظر لمن حولك قبل أن تخسرهم، أهلك، ابناءك، أصدقاءك، زوجك/زوجتك الحالية أو حتى المستقبلية التي ربما بدأت تبحث عنها بين ذلك الكم الهائل من اللايكات، وأولئك الذين في منأى عمن حولهم، اظهر اهتمامك حتى لا يصبح من حولك ضحية لهذه الخديعة..

وهم السعادة

happiness-illusion-money-greed-insatiable-trap

الإنسان كائن مغلف بهالة من المشاعر والأحاسيس، تتحكم به، تسيطر عليه، تحركه، تصنع أفعاله واستجاباته، تحيك وسادة أحلامه، وتخيط منطاد أمنياته، ولأن مشاعره متعددة، فهو يبحث عمّا يجلب له الراحة منها، فيحاول طرد الحزن، ويحارب الكآبة ويسير على جثة الوجع، بينما يطلب الفرح، ويتوسل البهجة ويطارد السعادة، ولأن هذه المشاعر ورغم اختلافها إلا أنها متشابكة ومتشابهة، فإن نالت منه واحدة، أحس دائمًا بذات الشعور ولمس ذات الوهج. ومع ابتعاده عن أصله وطبيعته وبيئته اختلطت عليه الأمور، وتكالبت عليه السنوات والدهور، وبات يبحث عن الشعور الأهم والأجمل وهو السعادة.

نكاد نحيا حياة أقرب بل أفضل من حياة الملوك القدامى، كل شيء نستطيع إعداده، وأغلب ما نريد نستطيع إيجاده، كل بعيد نصله، وكل لذيذ نتذوقه، وكل مضحك نقرأه ونسمعه ونشاهده، لسنا بحاجة لمهرج يردد ذات الفكاهات، ونحن نملك المذياع والهاتف والإنترنت، تقريبًا وقتنا متخم بكل ما نحتاجه وما لا نحتاجه. ورغم ذلك تجد بعضنا لا يقدر ما بين يديه وينظر لما في يد أخيه، يحسده على الرغيف الجاف، أو بنطاله الذي لم يرتدي سواه طيلة شهر، لأننا تشربنا بفكرة واحدة، أن السعادة تكمن في عدد ما نقتنيه أو نملكه. درسنا في المدرسة أن الأعداد هي مجموع مقدار الكمية التي تُعد، وما نصنعه بالمقادير هو عدها وإحصائها، هي لا تتجاوز كونها محض أرقام متراصة متلاصقة، وفي نهاية المطاف فإن الأرقام لا تتجاوز كونها محض رموز تستعمل للتعبير عن الأعداد، رموز جعلها البعض هدفه وحلمه وطموحه ومراده وبهجته وسعادته.

من يسعى للشهرة على حساب خسارة من يحب، فإن خسارته العظمى ستتضح حين يصل إلى القمة ولا يرى حوله من يحب، ولا يسمع أصواتًا مألوفة تصفق له، تشاركه فرحته وبهجته، تعانق يديه في مشواره، وأكبر مخاوفه أن يتفرق الناس عنه، فهو لا يعلم أي الناس يحبه لشخصه وأيهم يحبه لشهرته. الرفيق قبل الطريق هكذا يقال، وما أجمل أن يكون هذا الرفيق حبيبًا نحيا معه وبه ويحبنا نحن لا شهرتنا، والمثل الصيني يقول: الحكيم يرهب الشهرة مثلما يرهب الفضيحة.

أما من يسعى للمال، فإن سعادته لن تتجاوز اللحظة الأولى، الشعور الأول وسرعان ما سيذبُل. استعيد وأنا أكتب هنا أحد الدراسات حول تعاطي الناس مع الأشياء باهظة الثمن، حيث قُدم لهم نبيذًا عاديًا وقد وضع في زجاجات ذات أسعار مختلفة، أغلب من قام بتذوق الأنواع قالوا بأن أفضل ما شربوه من بين كل الأنواع كان النبيذ الأغلى ثمنًا، وعندما تم عمل مسح لدماغ هؤلاء بينما يتذوقون النبيذ لم تظهر فقط ألسنتهم استمتاعهم بالنبيذ باهظ الثمن، بلى حتى أدمغتهم سجلت شعور باللذة عند تذوقهم لها. باختصار نحن ضحايا لمفاهيمنا ومعتقداتنا التي رسخها الإعلام والدعاية، أن أي شيء باهظ الثمن يعني أنه الأفضل وأنه سيجلب لنا السعادة، ومن حيث لا ندري نحن نخدع أنفسنا لنصدق ذلك الشعور المزيف.

المال والشهرة والوظيفة والسُّلطة هي وسائل ومواد تهبنا القدرة على أن نعيش بشكل أفضل، لكنها لا تسد فجوة الشعور بالوحدة، الشعور بأنك لن تجد شخصًا يحبك ويريدك لشخصك. كم من مالك سلطة داسته الأقدام حين سقط من عرشه، وكم من صاحب شهرة اغتالته الألسنة التي دندنت بحبه حين أفل نجمه، وكم من ثري فارقه الناس في لحظة عسرة وعوز.

كان الإنسان وعلى طبيعته يعيش في جماعات، وجوده في هذه الجماعات يكفل له الرعاية، الغذاء والحماية عدى الشعور بالألفة والأمان وهما أهم شعور، كان وجوده وسط المجموعة هو الوطن، فالوطن ليس الأرض التي ولد فيها، فالإنسان اعتاد الرحيل، وامتهن التنقل من أجل لقمة العيش حين تصعب الحياة وتتغير الظروف، كان يوجعه صندوق الذكريات الذي يفارقه ولكن ما كان يوجعه أكثر هو ألّا يجد موطنًا له يعود إليه، جماعة تقبله وتحبه وتحيط به وتهتم له، تقاتل معه ومن أجله وبرفقته، تسعفه إذا جرح، تعالجه إذا مرض، تضحك معه، ترقص معه حول نار متقدة في الأرض والصدر.

استرجعت مشهدًا حقيقًا مسجلًا في اليوتيوب لشاب قرر أن يسجل تجربة حول إسعاد المشردين في شوارع نيويورك، وأخذ يوزع النقود على الناس، كان الناس يشعرون بفرحة غامرة حال حصولهم على تلك الأموال، والتي لم تكن في حساباتهم التي نقشوها على قارعة الطريق التي افترشوها منازل لهم، آخر متشرد حصل على النقود كانت له ردة الفعل الأقوى والتي لا يمكن إلا أن نتأملها، فبعد أن شكر الشاب على لطفه، طلب المتشرد منه أن ينتظر لخمس دقائق، وتوسله ألا يبرح مكانه. لم يكن لأحد أن يستوعب طلبًا غريبًا كهذا، انتظر الشاب وقد جلس على قطعة الكارتون التي ينام عليها صاحبنا. عاد المتشرد وقد احضر وجبتين واحدة له وواحد للشاب، وقال له: هل من الممكن أن نأكل سويًا؟ أرجوك دعنا نأكل سويًا فأنا ومنذ شهور طويلة لم اتحدث مع أحد، ولم آكل برفقة أحد، الكل يتجاهلني، الكل لا يشعر بوجودي. ثم أجهش بالبكاء مبللًا وجبته وعيون المشاهدين.

هذا المشهد عميق، فهذا المتشرد لا يعلم إن كان سيحصل على مبلغ مشابه في الغد أم لا، لم يكن للمال قيمة بالنسبة له في تلك اللحظة، ضحى بالمال من أجل رفقة تبدد الوحدة التي اجتاحت كيانه طيلة شهور طويلة، رفقة تشعره أنه موجود، أنه مقبول من الناس، رفقة تزيل جدار الصمت الذي سقط على صدره، مسكين الإنسان، يطارد أوهامًا وسرابًا وخيالا اسمه السعادة، ولا يدري أنها أمامه وبين يديه، لكن بحاجة لإبصار وبصيرة، بحاجة لعمل وجد وجهد، فالعلاقات الإنسانية ليست مستقرة، تتخللها المطبات والعقبات والشبهات والخلافات، ولهذا نحتاج للكثير لنرمم تلك العلاقات ونحافظ عليه من التلف. السعادة في أن نشارك الآخرين، أن نمسك بأيديهم، أن نشعر بأننا مهمين بالنسبة لأحدهم، أن نشعر أن لنا مكان في صدرٍ نهرع إليه كلما اغتالتنا الوحدة، أو طاردنا الحزن، كم الإنسان مسكين، يظن أن بإمكانه أن يشتري السعادة، وما علم أنها ليست صندوقًا يباع في رفوف المحلات، أو تحت لمعان الإكسسوار، أو بين أرقام المعجبين والمتابعين.

وختامًا أقول رسموها على أنها هدف من أهداف الحياة لا يسهل الوصول إليه، مدفون في مناجم الذهب، فوق الألماس بقليل، وتحت أجساد الأثرياء، وعلى أجنحة طائر العنقاء. ونسوا أنها وبكل بساطة موجودة بين ايدينا، وأيدي الأحياء بيننا، غير مرئية تحتاج لقلب مجهري يتحسس كل صغائر الأمور كي يراها، يحتاج لقلب نقيَّ كي يراها أكبر مما يستطيع الآخرون، نعم… بكل بساطة وكما هيَّ جدًا بسيطة، هي “السعادة”، ابتسامة صادقة، ضحكة حقيقية، غداء مع العائلة، وقت نقضيه مع من نحب، قطعة شوكولا تذوب في فمنا، وأشياء أخرى كبيرة وصغيرة أو حتى مجهرية.