أبواب

internal-oak-doors-categories-directdoors1

حملت نفسي على مهل كي لا أيقظ رائحتك، تلمست موضعك من فوق الغطاء بهدوء تام؛ لم أكن أود أن ازعجك. نهضت ومشيت على أطراف السكينة، خشيت أن سمعك لازال مستفيقا هنا. لبرهة نظرت إليك، لم تكوني مستيقظة، ولم أفشل حال كل مرة اضعضع نومك الرشيق، وأبدد حلمك الأنيق. امسكت بالمصباح اليدوي، ففي كل مرة اضيء نجوم الغرفة، كنت تتقلبين وتنزعجين، وتحاولين نفض الضوء بعيدا عن عينيك. بحثت بكل روية وبكل ما أملك من سكون عن ثيابي التي بها خليط من عبقك وما تركه آخر عناق من رائحتي. سحبت سترتي، بنطالي، وحملت معهم ربطة عنقي وهممت بالخروج من غيمتنا.

كان أصعب مهمة أن افتح قفل الباب دون أن يصدر صوت رصاصة حال كل مرة، حمدت الرب أنني خرجت بسلام من مأزق ازعاجك. وضعت ساقي اليسرى كعادتي قبل اليمنى، لا أعرف كيف أعتاد ارتداء اليمنى دون اليسرى حتى لا يرتدي الشيطان السترة معي، أو هكذا قالوا لنا، لا أدري كيف أصنع ذلك وأنا اشعر بعدم الراحة والاتزان. وبعد أن انتهيت من ارتداء سترتي بدأت اضع ربطة عنقي، لا تعلمين كيف تعبت كفاي وهي تحاول افهامها لغتي، هي اعتادت لغة اصابعك اللطيفة، وملمس اياديك الناعمة، وشعور الحب الذي تخلقينه وأنت تربطينها، إنتهى بها الحال مختنقة بين يدي وعنقي، يستغيث منظرها بك.

فتحت الباب، لم تكوني مستيقظة بعد، زحفت حتى وصلت إلى مهدنا، مددت يدي لتصل إلى الحذاء دون جدوى، فأنزلقت برأسي تحت السرير، وبعد مهمة صعبة للوصول إليه، أمسكت به أخيرًا، وما ان قمت بسحبه، حتى رفعت رأسي معلنا انتصاري، وفي ذات اللحظة، أعلن السرير ارتطامي. امسكت صوت الألم وأنينه، وسحبت رأسي بعد أن تأكدت أن صوت ارتطام رأسي لم يوقظها. وعلى مضض تواريت خلف باب الغرفة، واستقبلني باب آخر.

قلبت المطبخ بحثا عن شيء يؤكل، لا شيء هنا لا تستطيعين أن تجعلي منه طبقا فاخرا، فأي شيء تعدينه يقطف من حلاوتك عنبة. عدت إلى الغرفة، ولكنني لم أجدك، هل أطلت المكوث وجددت في البحث حتى أنك خرجت دون أن اشعر بذلك! ذهبت إلى الحمام وطرقت الباب، فعلاقتك الصباحية به وطيدة، لم تصدري صوتًا من خلف الباب، امسكت المقبض وأدرته فإذا به مفتوحٌ ولا أحد بالداخل، ظننتك تختبئين مني خلف الباب حال كل مرة، لم تكوني هناك. خطوت نحو الصالة لم يكن لرائحتك أثر. توترت كثير فجريت نحو الغرفة المجاورة، ناديتك ثلاثا فلم تجيبي، خفت، وخفقت، وبدأت روحي ترتطم بقلبي بشدة، جريت نحو الشارع فلربما خرجتِ دون أن اشعر، وبينما أجري نحو باب الشقة تعثرت بالفوضى العارمة التي حلت بالمكان. ارتطم رأسي بالأرض بقوة، أوجعني ذلك بشدة، ذهب بتركيزي وأعاد لي ذاكرتي، فاستيقظت من خيالاتي وتذكرت أنك لست هنا، تذكرت أنك رحلت.

حملت حقيبتي المثقلة بالغياب والاشتياق، ادرت مقبض الباب وسحبته، تمنيت لو أن بابي يفضي الى بابك، يحملني إليك ع ظهر أمنية، أو فوق كف دعاء، ولكن الأماني قلما تتحقق، والدعاء قلما ينزل من السماء.

وهم السعادة

happiness-illusion-money-greed-insatiable-trap

الإنسان كائن مغلف بهالة من المشاعر والأحاسيس، تتحكم به، تسيطر عليه، تحركه، تصنع أفعاله واستجاباته، تحيك وسادة أحلامه، وتخيط منطاد أمنياته، ولأن مشاعره متعددة، فهو يبحث عمّا يجلب له الراحة منها، فيحاول طرد الحزن، ويحارب الكآبة ويسير على جثة الوجع، بينما يطلب الفرح، ويتوسل البهجة ويطارد السعادة، ولأن هذه المشاعر ورغم اختلافها إلا أنها متشابكة ومتشابهة، فإن نالت منه واحدة، أحس دائمًا بذات الشعور ولمس ذات الوهج. ومع ابتعاده عن أصله وطبيعته وبيئته اختلطت عليه الأمور، وتكالبت عليه السنوات والدهور، وبات يبحث عن الشعور الأهم والأجمل وهو السعادة.

نكاد نحيا حياة أقرب بل أفضل من حياة الملوك القدامى، كل شيء نستطيع إعداده، وأغلب ما نريد نستطيع إيجاده، كل بعيد نصله، وكل لذيذ نتذوقه، وكل مضحك نقرأه ونسمعه ونشاهده، لسنا بحاجة لمهرج يردد ذات الفكاهات، ونحن نملك المذياع والهاتف والإنترنت، تقريبًا وقتنا متخم بكل ما نحتاجه وما لا نحتاجه. ورغم ذلك تجد بعضنا لا يقدر ما بين يديه وينظر لما في يد أخيه، يحسده على الرغيف الجاف، أو بنطاله الذي لم يرتدي سواه طيلة شهر، لأننا تشربنا بفكرة واحدة، أن السعادة تكمن في عدد ما نقتنيه أو نملكه. درسنا في المدرسة أن الأعداد هي مجموع مقدار الكمية التي تُعد، وما نصنعه بالمقادير هو عدها وإحصائها، هي لا تتجاوز كونها محض أرقام متراصة متلاصقة، وفي نهاية المطاف فإن الأرقام لا تتجاوز كونها محض رموز تستعمل للتعبير عن الأعداد، رموز جعلها البعض هدفه وحلمه وطموحه ومراده وبهجته وسعادته.

من يسعى للشهرة على حساب خسارة من يحب، فإن خسارته العظمى ستتضح حين يصل إلى القمة ولا يرى حوله من يحب، ولا يسمع أصواتًا مألوفة تصفق له، تشاركه فرحته وبهجته، تعانق يديه في مشواره، وأكبر مخاوفه أن يتفرق الناس عنه، فهو لا يعلم أي الناس يحبه لشخصه وأيهم يحبه لشهرته. الرفيق قبل الطريق هكذا يقال، وما أجمل أن يكون هذا الرفيق حبيبًا نحيا معه وبه ويحبنا نحن لا شهرتنا، والمثل الصيني يقول: الحكيم يرهب الشهرة مثلما يرهب الفضيحة.

أما من يسعى للمال، فإن سعادته لن تتجاوز اللحظة الأولى، الشعور الأول وسرعان ما سيذبُل. استعيد وأنا أكتب هنا أحد الدراسات حول تعاطي الناس مع الأشياء باهظة الثمن، حيث قُدم لهم نبيذًا عاديًا وقد وضع في زجاجات ذات أسعار مختلفة، أغلب من قام بتذوق الأنواع قالوا بأن أفضل ما شربوه من بين كل الأنواع كان النبيذ الأغلى ثمنًا، وعندما تم عمل مسح لدماغ هؤلاء بينما يتذوقون النبيذ لم تظهر فقط ألسنتهم استمتاعهم بالنبيذ باهظ الثمن، بلى حتى أدمغتهم سجلت شعور باللذة عند تذوقهم لها. باختصار نحن ضحايا لمفاهيمنا ومعتقداتنا التي رسخها الإعلام والدعاية، أن أي شيء باهظ الثمن يعني أنه الأفضل وأنه سيجلب لنا السعادة، ومن حيث لا ندري نحن نخدع أنفسنا لنصدق ذلك الشعور المزيف.

المال والشهرة والوظيفة والسُّلطة هي وسائل ومواد تهبنا القدرة على أن نعيش بشكل أفضل، لكنها لا تسد فجوة الشعور بالوحدة، الشعور بأنك لن تجد شخصًا يحبك ويريدك لشخصك. كم من مالك سلطة داسته الأقدام حين سقط من عرشه، وكم من صاحب شهرة اغتالته الألسنة التي دندنت بحبه حين أفل نجمه، وكم من ثري فارقه الناس في لحظة عسرة وعوز.

كان الإنسان وعلى طبيعته يعيش في جماعات، وجوده في هذه الجماعات يكفل له الرعاية، الغذاء والحماية عدى الشعور بالألفة والأمان وهما أهم شعور، كان وجوده وسط المجموعة هو الوطن، فالوطن ليس الأرض التي ولد فيها، فالإنسان اعتاد الرحيل، وامتهن التنقل من أجل لقمة العيش حين تصعب الحياة وتتغير الظروف، كان يوجعه صندوق الذكريات الذي يفارقه ولكن ما كان يوجعه أكثر هو ألّا يجد موطنًا له يعود إليه، جماعة تقبله وتحبه وتحيط به وتهتم له، تقاتل معه ومن أجله وبرفقته، تسعفه إذا جرح، تعالجه إذا مرض، تضحك معه، ترقص معه حول نار متقدة في الأرض والصدر.

استرجعت مشهدًا حقيقًا مسجلًا في اليوتيوب لشاب قرر أن يسجل تجربة حول إسعاد المشردين في شوارع نيويورك، وأخذ يوزع النقود على الناس، كان الناس يشعرون بفرحة غامرة حال حصولهم على تلك الأموال، والتي لم تكن في حساباتهم التي نقشوها على قارعة الطريق التي افترشوها منازل لهم، آخر متشرد حصل على النقود كانت له ردة الفعل الأقوى والتي لا يمكن إلا أن نتأملها، فبعد أن شكر الشاب على لطفه، طلب المتشرد منه أن ينتظر لخمس دقائق، وتوسله ألا يبرح مكانه. لم يكن لأحد أن يستوعب طلبًا غريبًا كهذا، انتظر الشاب وقد جلس على قطعة الكارتون التي ينام عليها صاحبنا. عاد المتشرد وقد احضر وجبتين واحدة له وواحد للشاب، وقال له: هل من الممكن أن نأكل سويًا؟ أرجوك دعنا نأكل سويًا فأنا ومنذ شهور طويلة لم اتحدث مع أحد، ولم آكل برفقة أحد، الكل يتجاهلني، الكل لا يشعر بوجودي. ثم أجهش بالبكاء مبللًا وجبته وعيون المشاهدين.

هذا المشهد عميق، فهذا المتشرد لا يعلم إن كان سيحصل على مبلغ مشابه في الغد أم لا، لم يكن للمال قيمة بالنسبة له في تلك اللحظة، ضحى بالمال من أجل رفقة تبدد الوحدة التي اجتاحت كيانه طيلة شهور طويلة، رفقة تشعره أنه موجود، أنه مقبول من الناس، رفقة تزيل جدار الصمت الذي سقط على صدره، مسكين الإنسان، يطارد أوهامًا وسرابًا وخيالا اسمه السعادة، ولا يدري أنها أمامه وبين يديه، لكن بحاجة لإبصار وبصيرة، بحاجة لعمل وجد وجهد، فالعلاقات الإنسانية ليست مستقرة، تتخللها المطبات والعقبات والشبهات والخلافات، ولهذا نحتاج للكثير لنرمم تلك العلاقات ونحافظ عليه من التلف. السعادة في أن نشارك الآخرين، أن نمسك بأيديهم، أن نشعر بأننا مهمين بالنسبة لأحدهم، أن نشعر أن لنا مكان في صدرٍ نهرع إليه كلما اغتالتنا الوحدة، أو طاردنا الحزن، كم الإنسان مسكين، يظن أن بإمكانه أن يشتري السعادة، وما علم أنها ليست صندوقًا يباع في رفوف المحلات، أو تحت لمعان الإكسسوار، أو بين أرقام المعجبين والمتابعين.

وختامًا أقول رسموها على أنها هدف من أهداف الحياة لا يسهل الوصول إليه، مدفون في مناجم الذهب، فوق الألماس بقليل، وتحت أجساد الأثرياء، وعلى أجنحة طائر العنقاء. ونسوا أنها وبكل بساطة موجودة بين ايدينا، وأيدي الأحياء بيننا، غير مرئية تحتاج لقلب مجهري يتحسس كل صغائر الأمور كي يراها، يحتاج لقلب نقيَّ كي يراها أكبر مما يستطيع الآخرون، نعم… بكل بساطة وكما هيَّ جدًا بسيطة، هي “السعادة”، ابتسامة صادقة، ضحكة حقيقية، غداء مع العائلة، وقت نقضيه مع من نحب، قطعة شوكولا تذوب في فمنا، وأشياء أخرى كبيرة وصغيرة أو حتى مجهرية.